لم أودعكما ملالا ولكن
وطني في خطوبه ناداني
كذلك انقضى ذياك العهد، وانطلقت بنا السابحة الهوجاء في وخدها وخببها صافرة زافرة، حتى إذا كان أصيل اليوم الخامس بعد الرحيل ارتفع لنا دخان علمنا أنه الأرض، ثم تعاقبت البيوت البيض بين الأشجار الخضر فإذا نحن بمدخل الخليج.
سلام عليك أيها الوطن، يا مأملي وجنتي، يا أيها البلد الذي لم تغيبك عن روحي مرامي النوى، ولم تتغلب على تذكري إياك ملاهي الصبا، تفقدك ناظراي في محاسن الأشياء، فإذا بك تتمثل في أشدها علاقة بالنفس، وتطلبك خاطري في معاني الكمال، فإذا أنت ديوانها المرتب، سمعت سويجع الأثلاث على مطلولة العذبات، فغلبتني الغيرة عليك ووددت لو مزجك الله بروحي مزجا، الآن أحس بالعجز عن إيفائك من الوصف حقك . لو كان كتابي كتاب رواية أو أدب لأطلت الكلام بما أقضي به بعض ما يجب علي نحوك، ولكن هل ذلك نافعي في هواك، وبي من الشوق إليك ما لو كان بالبحر لغيض ماؤه، وبالأرض لسالت شعابها.
مقامي بالآستانة في جمعية الرسومات (الكمارك)
خرجت في الفصل المتقدم عن أسلوب المؤرخ إلى أسلوب الشاعر. ما حيلتي! هاجت فؤادي ذكرى أيام مضت، وللطرب مقادير كما للأسف مقادير، وحسبي ما تقدم، قد اتأدت، وللقارئ الكريم من سجية العفو ما يستطرد قلمي على قرطاسي.
أنا ولدت بالآستانة، وخرجت منها في نحو الثالثة من عمري، ثم زرتها ما بين سنة 1895 وسنة 1896، فأقمت بها حولا كاملا، وانثنيت إلى مصر كما أشرت إلى ذلك في أحد الفصول التي مرت، وبقيت بمصر نحو الثمانية أشهر وأخذت إلى الآستانة، فكانت هذه هي المرة الثالثة التي قدر لي أن أنشق ريا تلك الربا وأعل صافي مياهها. وقد صدرت الإرادة الحميدية بجعلي عضوا بجمعية أمانة الرسومات (مجلس إدارة الجمارك).
فدخل بي في قاعة رحبة تدور بجوانبها مكتبة واحدة مصنوعة من الخشب، سوداء اللون، مكسو أعلاها بالجوخ الأحمر، وتدور معها من جانب دون جانب كراسي مصفوفة مكسوة أيضا بالجوخ الأحمر. تلك مقاعد الأعضاء، وفي صدر المكان مما يلي الجهة اليسرى من مدخل القاعة مكان الرئيس الأول وإلى يمينه مكان الرئيس الثاني واسم كليهما رضا بك. وفي المكان مكتبة صغيرة أمامها كرسي؛ ذاك مكان كاتب الجمعية يجلس فيه ويتلو على الأعضاء ما يجب أن ينظروا فيه من المضبطات وغيرها.
فلما قدمت إلى الرئيس الأول أو رضا الأول رحب بي قليلا، وأكرمني بسيجارة لم يمهلني إلى استكمالها، وأشار بيده إلى المكان الذي خصص لي (بعد أن علم أني من أصحاب الرتبة الثانية من الصنف الثاني!) فكان مكاني قريبا من باب القاعة من الجهة الواقعة على يمين الداخل. فما استقر بي الجلوس إلا وارتفعت أيدي الأعضاء مشيرة بالتحية، فأجبتهم بمثلها أو أحسن منها وظللت مكاني لا أدري ما سيكون من أمري. ولم ألبث أن جيء لي بقهوة يمانية في فنجان مذهب كبير كأنه الدلو، فجعلت أعب فيها عبا ولا أمصها مصا. وإني لأجيل طرفي يمنة ويسرة لأرى ما يصنع أولئك الأعضاء رجال الدولة الذين شرفني الله بأن حشرني في زمرتهم، فرأيت بعضهم يقرءون أوراقا متراكمة أمامهم، ثم يجعلون تحتها تواقيعهم، ورأيت بعضهم يوقعون على الأوراق من غير أن يقرءوها، ورأيت بعضهم يتسارون ويتغامزون، ورأيت بعضهم يتسللون إلى خارج القاعة إلى حيث لا أدري ما يصنعون، ثم يرجعون. كل هذا وأنا فارغ اليد من العمل، جالس كالصنم غير المعبود، فعراني السأم وكاد يتغشاني الكرى. وقد استطال لبثي كأني مجذوم بين صحاح.
فتقدم نحوي الرئيس وأشار إلي أن اتبعني، فتبعته إلى حجرة معاون أمين الرسومات. وأمين الرسومات بمنزلة الناظر والرسومات أمانة أي «مصلحة». والأمين رجل ممن أحرزوا رتبة الوزارة اسمه نظيف باشا، كان ناظر المالية. والمعاون رجل اسمه محمد علي بك، ممن نالوا رتبة البالا (تأتي دون الوزارة)، وكانت كلمة المعاون أسرع أثرا وأمره أمضى نفوذا؛ لأنه كان متزوجا أخت امرأة الباشكاتب تحسين. فدخل رئيس الجمعية حجرة المعاون ودخلت أنا على إثره، فرأيت مكانا ضيقا في صدره مكتبة أمامها كرسي عليه رجل عظيم الجثة ذو لحية أوروبية سوداء إلى اصفرار، كبير العينين وسيم الوجه؛ فقدمني إليه الرئيس، وبعد ذلك سأله عما يجب في أمر تحليفي.
Unknown page