فقال المعاون: لا بد من انتظار الأمين، وسيحضر غدا. فخرجنا من عنده، ولما كان الغد دعيت إلى حجرة الأمين، فرأيت فيها الرئيس ومكتوبجي الأمانة (السكرتير) والمعاون وكاتب الجمعية، يتوسطهم الأمين؛ وهو رجل طويل القامة، أسمر اللون، يحسبه من يراه أول مرة أحد كتاب بيت المال، له لحية كالرغوة، ووجه كالصك العتيق، فسألني الكاتب إن كنت توضأت، فقلت: لا، قال لا بد من الوضوء. قلت: لا أعرف كيف يتوضأ الناس. فنظر في وجهي باهتا وسكت، فأقسمت للجماعة يمينا وهذا مضمونها: «أقسم بالله لأكونن صادقا للحضرة السلطانية والدولة العلية ولا أنحرفن عن الأمانة في جباية أموال الدولة.» نطقت بهذه الكلمات واضعا يمناي على المصحف ، فلما انتهت اليمين هنأني الحاضرون وعدت مع الرئيس إلى قاعة الجمعية.
فما استقر بي الجلوس إلا جاءني الكاتب بأوراق بعضها فوق بعض فتركها أمامي. قلت في نفسي: هنا يزل قدمك يا ولي الدين، أين أنت من أعمال الكمارك، وهل هذه مثل أبياتك وفصولك، تنقش به طروسك وتتلوها على مستمعيك! فمددت يميني وأخذت ورقة من تلك الأوراق، فوالله للغة اليابان أو اللغة الهيروغليفية أقرب إلي منها فهما، لم أجد إلا أرقاما بإزائها كلمات ومصطلحات لا علم لي بواحدة منها، فتركت هذه الورقة جانبا وأخذت أخرى غيرها، لعلي أجد فيها شيئا يصل إليه فهمي. فإذا هي أسوأ حالا وأحكم عقدة، فظللت حائرا لا أدري ما أصنع. وقد اشتد ما بي، فبقيت أتناول ورقة وأطرح ورقة كأني في حانوت وراق، وأنا كلما أوغلت في الاختيار زدت عجزا عن الفهم، فرجعت إلى التي أخذتها أولا، فوقعت عليها ثم أتبعتها بغيرها، ولم أزل حتى أتيت على الجميع، وكان الرئيس يلحظني شذرا ويعجب بي ظنا منه أني أفهم هذه الأشياء. فلما آن أوان الانصراف دنا مني قائلا أكثر الله من أمثالك، ضقت والله ذرعا بهؤلاء الذين تراهم على مقاعدهم فليس فيهم من يدري ماذا يعمل، وما للجمعية منهم إلا هذا الغرور الذي تراه. وقد رأيتك تتأمل الأوراق تأمل من لا يدع لفكره شبهة في عمله، وإني لأرجو أن تكون نافعا لنا.
قلت في نفسي بعدما شكرته: اللهم هذا ثناء باطل وعبدك هذا مخطئ، وأنا أبعد الناس عن معرفة ما دعيت له، ولكنني سأجهد النفس في معرفة ما أجهله، ولو كلفني ذلك أشد النصب.
فخرجت ولم أنتظر خروج الرئيس، فمشى أمامي الحجاب يوسعون لي الطريق وأنا أحيي من يقفون لي إجلالا، وأناجي الله في ضميري أن يهب أصحاب المقطم من الضعف ما وهبني ليؤخذوا إلى الآستانة ويكونوا أعضاء بالمجلس العلمي في باب مشيخة الإسلام، وأن يكون سليم سركيس وكيلا لأمين الفتوى.
ثم مرت الأيام وأنا لا أنقطع عن مكان وظيفتي، باذلا قصارى الهمة في تعود أمورها والمعرفة بأساليبها ، فكنت أسمع بأسماء بعض الأعضاء ولا أراهم. أولئك أبناء المقربين والمحتمون بجاههم. كانوا يتقاضون رواتبهم غير مكلفين أنفسهم تعب الحضور إلى مقر وظائفهم لأخذها، بل كانوا يرسلون من قبلهم أناسا يأخذونها لهم.
ولقد تعارفت في جمعية الرسومات ببعض أعضائها معارفة لم تزد على المحادثة في حجرة «الاستراحة» وتعاطي السلام، وبقي آخرون لم أر وجوههم، وإني لأجهل إلى اليوم أسماءهم؛ فقد كنا نحو الثمانية والأربعين عضوا، ما كان يحضر منهم إلى وظيفته غير العشرين. فممن عرفتهم من أعضاء الجمعية رفعت بك؛ هو حفيد فؤاد باشا الشهير الذي توفي في فرنسا، كان فر إلى أوروبا ثم استرجعه السلطان حيث استرجع مراد بك. هو رجل حسن المحاضرة طيب الطباع، ولكنه كان مولعا بشاربيه أكثر من ولعه بأعماله؛ فما جالسته يوما إلا رأيته يبرمهما ويرفع طرفيهما تشبها بإمبراطور ألمانيا. ومنهم راسخ بك؛ وهو ابن المرحوم عابدين باشا الشهير الذي كان واليا على جزائر الأرخبيل، وذهب إلى «يلديز» طالبا الإذن في البقاء بالآستانة وجعله صدرا أعظم، فسقوه قهوة ما استقرت في جوفه ساعة حتى قضى نحبه في القصر وأخرج إلى بيته ميتا. وراسخ بك هذا شاب مهذب الأخلاق طاهر السريرة، عرفته قبل دخولي الجمعية. غير أني لا أجد بدا من الاعتراف بأنه كان من المتناهين في الكبر والغرور، ولا أنسى قوله لي يوما وقد جلس قبلها إلى جانبي ثلاث مرات من غير أن يكلمني كلمة واحدة: كيف حالك يا سيدي ألبك؟ وقولي له: كما تراني منذ ثلاثة أيام، لم أتغير فيها أبدا، فلم يحر جوابا واختار الصمت.
ومن رفاقي بالجمعية حكمت بك، غير الذي تقدم ذكره. وقد نفي إلى سيواس بعد نفيي إليها، فصار رفيقي في منفاي أيضا. هذا رجل أحبه كثيرا، وأنا أواخذه على خلات وددت لو نزهه الله عنها، رأيته يحسد بعض أصحابنا، ورأيته يتزلف فنهيته فأنكر علي ذلك، وكان يحب «الدوندرمه» كثيرا، أبصرته ذات يوما أكل منها ستة أطباق متتابعة، وكنت حين أمازحه بسيواس أذكره بذلك فتقوم بيننا القيامة. ومنهم رفعت بك ؛ وهو من أسرة كردية لها مكانة بين الأكراد، نعم الرجل هو لولا تنسكه وتورعه، كنت أرتاح إلى محادثته لولا ما يدخل فيها من أحاديث العبادة والتقوى حتى لتكاد روحي تزهق ضجرة، ومنهم علي ساجد بك، وهو من أحرار العثمانيين، شديد المضاء في حريته، يكاد يكون كاتبا مجيدا، بلده إزمير، سافر منها إلى الآستانة طالبا امتياز جريدة يصدرها بإزمير، فوشى به بعض الجواسيس إلى السلطان وقالوا يريد أن ينشئ هذه الجريدة ليبث فيها الأفكار الحرة شيئا فشيئا، فرأى عبد الحميد أن يجعله عضوا بجمعية الرسومات ووعده براتب قدره عشرون جنيها في الشهر، ثم لم يخصصوا له سوى نصفها، ووعده الصدر الأعظم إذ ذاك وهو خليل رفعت باشا بأن سيزاد له باقي راتبه بعد زمان قليل، فأخذ علي ساجد يكتب له الكتاب وراء الكتاب يذكره بوعده، متوعدا إياه بالخروج من الآستانة، ثم هبت عليه نفحة من نفحات الشباب، فأرسل إلى الصدر الأعظم رسالة برقية قال له فيها: كنت أرجو أن تعرف قيمة وعد العظيم ولكنك حمار، فأخذ من الجمعية وأرسل إلى قسطموني منفيا، وبقي هنالك إلى أن أعلن الدستور. ولله ما كابد هذا الشاب من الظلم وما ذاق من مضض العيش على عهد والي قسطموني المستبد خائن الوطن، وعدو أبناء آدم أنيس باشا. تلك مصائب لا أعادها الله ولا أعاد أيامها، وكان علي ساجد يألف معاهد اللهو وينقطع إلى لذاته، فلم يعجبني منه سوى إقدامه على المخاوف وجرأته على الظالمين.
أما رفاقي الذين لم أرهم على مقاعد وظائفهم ولا مرة واحدة، فمنهم حسن خالد الصيادي الرفاعي القرشي الهاشمي العدناني الحلبي؛ وهو ابن أبي الهدى، وسبق الكلام عليه، ومنهم أنجا زاده عبد الغني الطرابلسي، كان صفي أبي الهدى ثم تهاجرا، فلجأ عبد الغني إلى عزت العابد وباح له من أسرار الشيخ بما لا تستقيم له هذه السطور، واضطر بعد ذا إلى مصالحة أستاذه وطلب الإذن له بالذهاب إلى الحج، فأذن له السيد ودس له من رماه برصاصة ذهبت بحياته، ومنهم كيلاني زاده ، باشا ، أصابه من لؤم الصيادي ما كاد يقضي على حياته، وغير هؤلاء كثيرون نسيت أسماءهم ولا أذكر منها اليوم واحدا.
هكذا ذهبت أيامي بجمعية الرسومات، تأتي الأوراق مكتبتي فتستقر عليها ما شاء الله ثم تنتقل إلى غيري، وليس لها مني سوى التوقيع.
ويا شد ما كنت أضحك إذ يجس أحد الأعضاء الزر الكهربائي الكائن أمامه، فيسرع إليه الحاجب في ثيابه المخملة ويقف أمامه مكتفا يديه منتظرا إشارته، فيرفع العضو عند ذلك رأسه قائلا: هات قدحا من الشاي أو هات طبقا من «الدوندرمه»، فأقول: قاتلكم الله وأنا معكم، يا عيال الحكومة وطفيليتها، وملوك المقاعد وعبيد الرواتب. لو أنصف الدهر لنال هؤلاء الحجاب مكانكم ولأصبحتم أنتم مكانهم؛ فهم أصدق منكم خدمة وأنفع سعيا. آه يا عبد الحميد، ما أبصرك بقلوب رعيتك! أخذت أنت ما لا تملك ووهبت من لا يستحق، وجعلت خزائن ملكك نهبا مقسما بينك وبين أولي المطامع.
Unknown page