ثم مضت غاضبة من حماقتهن وسخريتهن.
وسار النساء نحو المدينة وهن يتحدثن عن العجوز الشوهاء وعن التاجر السخي بالعطاء، ويعدن قصة الرجل الغريب على كل من تجمعه بهن الطريق.
ومضى عبد الله بن قيس يسير على الساحل ويتدسس في ثناياه ويفحص صخوره وخلجانه، ويعد حصونه ومسالحه، حتى مالت الشمس إلى المغيب وألقت بشعاعها الفاتر إلى صفحة الماء من خلال السحب ذات الألوان الباهرة، واسترعى نظره جمال الأفق الغربي، فوقف حينا ينظر إليه مبهوتا خاشعا. ولما عرف أهل المدينة من النساء نبأ الزائر الرهيب خرجوا إلى حراس المدينة يطلبون النجدة. ولمح عبد الله جمعا في أسفل الشاطئ، ولمع له من خلاله بريق يشبه أن يكون بريق السلاح، فلمس مقبض سيفه من تحت ثوبه الفضفاض وعلت وجهه عبسة جد صارمة، وساءل نفسه: «من يكون هؤلاء؟»
ولكنه لم يذكر سوى فتيانه، وخشي أن يؤتى إليهم من بعض الشعاب على غرة، فاندفع عائدا إليهم يثب فوق صخور الساحل كأنه يسابق ظلال المساء، ولكن الجمع المقبل اتجه إليه وانتشر يأخذ عليه أفواه السبل، فعرف أنه هو المقصود، وامتلأ قلبه سكينة أن يكون هو غرض الروم دون أصحابه، ووقف يستعد للقتال. وأحاط به الروم مع طلائع الليل، وأسرع الظلام يلف الأرض حتى صار عبد الله يتحسس مواقع خطاه وهو يقفز من صخرة إلى صخرة، وهو يقاتل بسيفه من أمامه ومن حوله، والأعداء ينحدرون إليه من كل جهة ويوشكون أن يلتئموا عليه. وما زال يدافعهم حتى بلغ قريبا من مرسى السفين، وصاح صيحته: «الغمرات ثم ينجلينا!»
وأقبل على الروم يحاورهم ويواثبهم والجراح تنهال عليه من مئات الرماح. وتصايح جنود الروم في حنق عندما سمعوا صيحته التي ذكرتهم وقعاته الماضية وزادتهم به علما، فتواثبوا عليه حتى تعثر في الصخر ووقع إلى الأرض والتأمت عليه السيوف والرماح.
وسمع عبد الله وهو طريح يعاني سكرات الموت صيحة ترددت أصداؤها في الظلام مجلجلة صدعت سمعه الكليل، فعرف أنها صيحة الفتيان. وانتفض يريد أن يثب على قدميه ولكنه لم يقو على النهوض. وسمع الروم الصيحة فتلفتوا ثم تصايحوا وانتشروا هاربين في الظلام، وتركوا جثة عبد الله حيث كانت على الصخر وقائم السيف ما يزال في يمينه. واهتدى الفتيان بعد حين إلى موضع قائدهم الباسل، فحملوه وكانت على وجهه ابتسامة وهو يتمتم بالصلاة في آخر أنفاسه، وسمعوا آخر كلماته إذ يشكر الله على أنه استجاب دعوته وجعله لصحبه الفداء.
عبيد الله بن الحر
«عندما تضطرب الأهواء تغضب البطولة. وعندما تتعدد الأحزاب تتجرد سيوف الشجعان، ليضرب بعضهم رقاب بعض.»
آثر ابن الحر أن يعتزل في بيته في تلك الفتن الجارفة التي مزقت الكوفة وزعزعت أركانها وأذاعت بها الخوف والفوضى. كان عبيد الله بن الحر الجعفي رجل الحروب والمخاطر، وهو الذي قضى ما مضى من عمره في كفاح منذ كان شابا لم يبلغ العشرين إلى أن صار شيخا نيف على السبعين، ولكنه آثر أن يقيم في بيته متباعدا عن تلك الفتنة العمياء الجديدة التي أثارها طلاب الملك من كل جانب. وماذا كان يحمل ابن الحر على أن ينغمس في مثل تلك الفتنة التي ترددت فيها صيحات الجاهلية، وثارت فيها عصبيات القبائل الهوجاء؟ لقد أصبح كل حي ثائرا بالحي الذي يجاوره، وصار كل قبيل يلتمس لنفسه الحلفاء ممن كانوا حلفاء لأسلافه قبل أن يجمع الإسلام العرب ويؤلف بين قلوبهم.
كانت قبيلة بكر بن وائل تحارب تميما، وكانت الأزد تنافس جيرانها من بكر وتميم، فلا جوار ولا قرار ولا عقد ولا عهد، بل هي أطماع ثائرة، وأهواء متنافرة. وما كان ابن الحر الذي شارك في بناء الإسلام في القادسية ونهاوند وهو شاب، ليشارك وهو شيخ في هدم ذلك البناء الشامخ الذي تناولته الأطماع بمثل هذا العنف، وكادت تدك أساسه وتهد أركانه.
Unknown page