53

وأقام في بيته يناجي الهموم التي ملأت قلبه من ذكريات الحوادث التي مرت به بعد أن تكشفت له حقائق الناس وظهر له ما تنطوي عليه الحياة من نفاق وخداع ومن كذب ودناءة. كان قلبه الفتي من قبل ممتلئا بالحماسة الخالصة، فما زالت الأعوام تكشف له الغطاء عن الناس طائفة بعد أخرى حتى ضاق بالحقيقة، وعاف المشاركة فيما يتحرك إليه هؤلاء الناس. كان قلبه الفتي منذ أربعين عاما يمتلئ بالدعوة إلى الحق، ولا يبالي أن يبذل دماءه في سبيل الحق، ولا يرضى في جهاده إلا بأن يكون في صدر الأخطار. ولكنه بعد هذه السنين الطويلة، لم ير إلا أن الخلاف قد أصبح على الحكم والسيادة وسلطان الحياة الدنيا.

كان يسمع في كل موطن من مواطن القتال صيحات الحق والعدل تتجاوب من كل جانب، ولكنه لم يجد في حقائق الحياة إلا الطمع في الأموال والزخارف والحرص على النعيم ومفاتن الحياة، فما الذي يدفعه بعد ذلك كله إلى المشاركة في الفتنة الجديدة؟

وكان ابن الحر فوق هذا يريد أن يذوق شيئا من السلام إلى جوار امرأته الحبيبة أم توبة، ابنة عمه سلمى الجعفية، التي تزوج منها وقد نيف على الستين، وكانت فتاة في البضع والعشرين، تملأ بيته سعادة، وتشيع فيه السلام. وكانت حسناء رائعة، يزينها ما هو أكبر من الحسن والشباب، من وداعة نفسها ونقاوة قلبها.

كانت أم توبة كلها روحا وذكاء وطهرا، فكان لا يحس إذا جالسها بما يفرق بينهما من عدد السنين، وعاد قلبه معها فتيا ينبض ويخفق كما كان في العشرين. لهذا لم تستدرجه الأنباء التي كانت تترامى إليه وهو معتكف في داره ولم تغره الفتن المتعاقبة على أن يعود إلى معامع النضال القاسية. فسمع أن البصرة تضطرب، وأن أميرها ابن زياد هرب لائذا بالشام. ثم سمع أن الشام تتنازعها الأهواء بين صبية بني أمية من ولد يزيد بن معاوية وبين مروان بن الحكم شيخ قريش. وسمع أن عبد الله بن الزبير يدعو إلى نفسه، ويبعث البعوث إلى الأمصار يستميل أهلها وشيوخها وينازع بني أمية ملكهم.

ولكنه لم يهتز إلى شيء من تلك الأنباء، وبقي على عزلته مغلقا بابه عليه. •••

وكانت ليلة من ليالي الصيف، والغبار الثائر في الهواء ينعقد مع الأبخرة في ضباب كثيف، وأحس ابن الحر ضيقا، فصعد إلى سطح داره بالكوفة ليقضي الليلة تحت السماء مطلا على الصحراء ليتنفس ملء صدره، كما اعتاد أن يملأ صدره؛ إذ كان يضرب في فيافي اليمن قبل أن ينزل مدينة الكوفة.

وجاءه بعد العشاء جماعة يطلبون لقاءه، فشعر بقبضة زادت أنفاسه ضيقا. فماذا يبغي الناس منه وقد اعتزلهم وباعد ما بينه وبينهم؟ ولكنهم كانوا أصدقاء جاءوا يستأذنون عليه، فلم يستطع أن يردهم بالخيبة.

فقام من مجلسه فاترا، ولبس عباءة من الديباج الأصفر وخفا من جلد لين أحمر، ولف على رأسه عمامة من ثوب يمني، ثم مس بعض الطيب ومسح به لحيته، وكانت لا تزال سوداء تناثرت فيها شعرات بيضاء، ثم نزل متثاقلا حتى بلغ رحبة الدار، فوثب الضيوف وقوفا يرحبون به في حرارة.

كانوا جماعة لا تضمهم رابطة من عصبية، تعودوا من قبل أن يجتمعوا حوله ويأتمروا بأمره. وقد جاءوا إليه لأنهم رأوا أمور الناس قد فسدت واضطربت، ولم يجدوا في حيرتهم من يلجئون إليه غير صاحبهم الشيخ الباسل الذي طالما علمهم أن يلزموا الحق وأن ينصروه في كل موطن.

ودار الحديث بين الجمع، فلمح ابن الحر ما جاءوا من أجله، فجعل يردهم في رفق ويرجعهم عن نفسه في تجمل. وطالت بينهم المناظرة، فعجب الرجال كيف تبدل ابن الحر وتغير، وكيف رضي أن يقيم في عقر داره وقد اشتعلت الفتنة وهو الرجل الذي بنى مجده في معترك النضال من أجل الحق. وتجرأ شاب منهم وقال له: أيجمل بك الاحتجاب يا أبا الأشرس وهذه الحال كما ترى؟

Unknown page