Mabahith Cilmiyya Wa Ijtimaciyya
مباحث علمية واجتماعية
Genres
على أن بعضهم يرى أن نظر سبنسر في تعيين وظيفة الدماغ والحكومة وإن كان مصيبا إلا أنه قاصر في بابه؛ لأن الدماغ وإن كان نائبا عن الجسم كله في مصالحه المنفعية والحبية، إلا أنه ليس نائبا بسيطا وقاضيا يقضي في المصالح المذكورة لتعديلها فقط بدون أن يزيد شيئا عليها، بل هو أيضا عضو الفكرة والإرادة والروية؛ فكثيرا ما يدفع الجسم من نفسه نحو أمر انقيادا لفكر رفيع، والإنسان كثيرا ما ينكر مصلحة نفسه القريبة لقضاء مصلحة أعظم، كنشر حقيقة أو إبداء تصور جليل. فالحكومة لا يكفي أن تكون بمقام قاض بسيط يقضي في مصالح الأمة لتعديلها مقتصرة على الحاضر القريب، بل يلزمها أن ترتفع فوق نفسها وفوق مصلحة البعض للنظر في المستقبل البعيد؛ لأن الجسم وإن كان يحس باحتياجاته إنما إحساسه بها مبهم، ولا يتضح على صورة الحس ولا الفكرة إلا في الدماغ. كذلك الاجتماع فيه حقوق كثيرة لا يحس بها إلا إحساسا مبهما مع شدة لزومها له، ولا تنجلي إلا للحكومة؛ فالجهلاء مثلا لا يشعرون بالاحتياج إلى العلم مع شدة لزومه؛ ولذلك كان ينبغي على الحكومة أن تسعى من ذاتها لتتميم المشاريع اللازمة، كإقامة التعليم الإلزامي مثلا، وعدم إغفال كل ما من شأنه أن يحفظ مستقبل الأمة؛ لئلا يسبقها غيرها من الأمم في معرض الارتقاء في هذا الوجود، فتسوء حالها، وتسقط في مهواة التهلكة والخسران. •••
فسبنسر وإن كان قد استوفى ما للميل الغريزي من اليد القوية في ارتقاء الأمم، إلا أنه في نظر بعضهم قد أغفل أمر الروية المتجمعة في الدماغ عن إحساسات أجزاء البدن المبهمة التي يلزم أن تبلغ الغاية في الحكومة. هذا، وإذا نظرنا إلى هاتين القوتين، أي الميل الغريزي والروية، ولم نفصل بينهما؛ نرى أنهما ليستا فقط علة كل اجتماع، بل علة كل شيء حتى العالم نفسه؛ إذ العالم نفسه إنما هو اجتماع كبير، كل جزء من أجزائه يشتغل لسلامته وسلامة الكل، بما فيه من الميل لحفظ ذاته، وحفظ علاقاته مع سواه؛ وبهذا تمام النظام في الكون.
5
المقالة السادسة
القرآن والعمران
1
ليس من غرضي هنا أن أتكلم على الأديان كشرائع موحاة، ولا أن أبين مزية دين على آخر، ولا أن أدخل غمار البحث في قضايا كل دين لإقرارها أو تخريجها إلى ما يوافق، بل أن أبين حقيقة علاقة الأديان بالعمران، وتأثيرها الحقيقي فيه من وجهها الاجتماعي.
إن أكثر الباحثين في هذه العلاقة ينسبون كل ما يرونه في العمران من ارتقاء وتقهقر، وسير ووقوف، وحركة وجمود؛ إلى الدين. وأكاد لا أعلم أحدا خالف هذه القاعدة؛ فغلاة المعطلين وكبار المؤمنين والذين بين بين، كلهم في ذلك سواء، فيقضون لهذا الدين أو على ذاك بالنظر إلى ذلك. وهم، فيما أرى، مخطئون باعتبار جوهر الدين، وإلا كانت النتيجة واحدة في كل الأديان وفي الدين الواحد في كل العصور. ولا ينكر أن الدين يؤثر في أخلاق الأمم التي تدين به، ولكن هذا التأثير إذا دققنا النظر يجب أن يكون واحدا في الجوهر؛ لأنها جميعها تصبو إلى غاية واحدة، وهي إصلاح حال الإنسان في العمران، وتتذرع إلى ذلك بمبدأ واحد هو الثواب والعقاب في الحياة الأخرى؛ لتحمل الإنسان على أن ينصاع إليها في الغاية الحميدة التي قصدتها في اجتماعه. فنهت عن المنكر وأمرت بالمعروف، واعتبرت المنكر كل ما خالف مصلحة الاجتماع، والمعروف كل ما وافق هذه المصلحة. فأمرت بإقامة القسط في المعاملات، وتخطته إلى وجوب الرحمة؛ فحثت الإنسان على الاشتراك بالمنفعة، ونهته عن الاستئثار بها، وأمرته بالعطف على البائس المسكين، ونهته عن الحيف عليه.
ودينا التوحيد السائدان اليوم هما دين الإنجيل ودين القرآن. الأول يعلمنا التساهل إلى حد أن ينسى الإنسان نفسه في مصلحة قريبه؛ أي أخيه. والثاني يجعل الفقير شريك الغني في ماله؛ إذ يفرض له عليه نصيبا منه. وكلاهما فيهما من الحكم الرائعة والآداب العالية ما يجعلهما في مبدئهما الاجتماعي مطابقين لمرامي أعظم الفلاسفة المصلحين الاجتماعيين اليوم. ولو جاز لي أن أبين ماهية الفرق بينهما لقلت إن الدين المسيحي يوسع المجال للنظر، والمحمدي للعمل؛ أي إن الأول دين التجريد، والثاني دين المحسوس، ولكنهما يلتقيان في نقطة واحدة، وهي إصلاح الإنسان في دنياه - ومن غريب المفارقات أن أتباع الأول ساروا شوطا بعيدا في الحياة العملية، وأتباع الثاني وقفوا متقهقرين! - وهذا لا يخالف ما قلناه فيهما، وإنما يؤيد مبدأنا من أن حقيقة الأديان لا دخل لها في العمران.
وكلاهما يدعو الناس إليه بطريقة واحدة سلمية؛ فالإنجيل يقول: «علموهم وبشروهم.» والقرآن يقول:
Unknown page