Mabahith Cilmiyya Wa Ijtimaciyya
مباحث علمية واجتماعية
Genres
فالاجتماع الحيواني هو جسم حي تتعاون أجزاؤه كلها، كما يقول أبقراط، وتؤلف كلا حيا يتعاون تارة في أعمال مشتركة كتعاون القندر في بناء بيوته، وبعض أنواع الطير في بناء أعشاشه، وتارة في أعمال خاصة؛ مما يدل على محبة حقيقية بين أعضائه، كمعاونة القرود بعضها بعضا لنزع الشوك من جلدها، واجتماعها على حجر كبير لكي تقلبه، وانتصار بعضها لبعض لدفع نازلة، ولو كان في ذلك خطر على حياة المنتصر. وقد تبلغ هذه المحبة فيه إلى حد الإخلاص الشديد الذي هو من أخص صفات البشرية وأرفعها شأنا؛ فقد ذكر برهم ما يثبت ذلك في القرود. قال: «بينا أنا واقف سمعت فوق رأسي صراخ قرد، فنظرت وإذا قرد صغير على شجرة قد تركته أمه وهربت مذعورة، فصعد إليه أحد أتباعي، فلما أبصره القرد صرخ صراخا شديدا، فللحال جاوبته أمه وارتدت لتأخذه، فصرخ حينئذ صرخة ثانية خصوصية، جاوبته أمه عليها بصرخة خصوصية كذلك، فرماها أحد الواقفين بالرصاص، فانجرحت وولت هاربة، لكن صراخ ابنها لم يدعها تبتعد كثيرا حتى رجعت إليه، فرميت ثانية بالرصاص فأخطئت، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تثب إلى الغصن بعد عناء عظيم، فلما وصلت إلى ولدها أسرعت فوضعته على ظهرها، وأوشكت أن تبتعد به، وإذا برصاصة ثالثة أطلقت عليها، رغما عن ممانعتي، فكانت القاضية. ومع ذلك فلم ترم بولدها إلى الأرض، بل ضمته إلى صدرها، وهي تجود بالروح، حتى قضت نحبها وهي تحاول أن تهرب به.»
وقال أيضا: «إن قردا شيخا هجم على الكلاب هجمة الأسود؛ لكي يخلص قردا صغيرا من بين أنيابها، وما ارتد عنها حتى رجع به، وقد حمله على منكبه.» فلا شك أن المبدأ الباعث على هذه الأفعال يقرب جدا من مبدأ أخلاق الإنسان، لا نقول في إنسان مثل أرسطو ونيوتن مثلا، بل في متوحش أو طفل صغير، ثم يتحول هذا المبدأ من الشوق الأعمى في الكريات الحية إلى بديهيات الحيوان، إلى معقولات الإنسان حتى يكتمل في الاجتماع البشري، فيصير الشوق محبة والمحبة إخاء والإخاء تعاونا والتعاون عدلا، وتعيين الوظائف الرفيعة وانتخاب الرجال لها حكومة، فتكتمل حياة الاجتماع العقلية كما تكتمل أيضا حياته الفزيولوجية.
على أن سبنسر الفيلسوف الإنكليزي لا يرى هذا الكمال في حياة الاجتماع الفزيولوجية؛ لأنه يقول إن في الحيوان جهازا عصبيا هو مركز الأعمال العقلية، وأما في العمران فليس يوجد ما يشبه ذلك. ورد عليه بعضهم بقوله: «بل ذلك موجود أيضا؛ فإن أدمغة الأمة بمثابة الدماغ، وإن العواطف والحواس والنطق وسائر العلامات والكتابة والتلغراف وكل وسائط الاتصال بمثابة الأعصاب التي تنقل الحس، وتوصل الحركة إلى كل أجزاء البدن، وإن العيال بمثابة العقد العصبية التي هي عبارة عن أدمغة صغيرة يجتمع الحس فيها ويقوى، والمدن بمثابة الفقرات، والعاصمة من المدن بمثابة الرأس الذي هو فقرة عظمت حتى سادت على سواها، والعلماء والحكماء وكل الذين يرشدون الأمة هم بمثابة الكريات المرتقية في الدماغ، الذي هو نفسه لا يزيد عن عقدة عصبية عظمت على سواها كما عظم الرأس على سائر الفقرات. فإن كان اشتراك كل أعضاء العمران بالفكرة يجعل العمران أرفع جدا من سائر الأحياء، فهذا الارتفاع لا يجوز أن يكون فرقا جوهريا، كفرق الإحياء نفسها عما هو دونها. وعليه ففي الجسم الاجتماعي جهاز عصبي لوظائف النسبة، كما فيه جهاز دوري وجهاز غذائي، فهو حي تام لا ينقصه شيء فزيولوجيا.»
لولا الهوى وبديع الشوق يهديه
ما صح في الكون معنى من معانيه
ولا سرى النجم في العلياء وانتظمت
له المواقع تقصيه وتدنيه
ولا استقامت حياة في الوجود ولا
تم الوجود ولا تمت مبانيه
شوق تكامل من أدنى الوجود ولا
Unknown page