Khulasat Tarikh Ciraq
خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
Genres
وكان إذا أوغل في شرقي دياره لمح جبال إيران تتتالى أمامه كأنها الأغنام تأخذ بعضها برقاب بعض، ويرتقي بعضها فوق بعض، كأنها درج توصلك إلى أبعد أوج من الجو، ولعل هذا المنظر هو الذي دفع أهالي هذه البلاد إلى البناية المتدرجة التي ترى في بعض مشيداتهم وقصورهم، فكان السطح يعلو السطح الآخر، لتتمثل أمام عيونهم الجبال البعيدة عن أنظارهم، ويغروا من منظر السهول التي قد أتعبت أبصارهم، هذا فضلا عن أن الحر هو الذي كان أول سائق لهم لبناية السطوح؛ لأنه إذا اشتد في هذه الديار تعذر على الإنسان سكنى الغرف فيعلو السطوح ليلا؛ ترويحا للنفس، وشما للهواء العليل، وهربا من حر الحجر الذي لا يطاق.
ومما بنوه مدرجا هياكلهم، حتى إذا اعتلوها ليلا ذكرتهم صهواتها خالق تلك النيرات المنثورة في القبة الزرقاء نثار فرائد الدرر على بساط أزرق، ولما كانت الأمور تقود الإنسان من شيء إلى شيء ساقه هذا المنظر الرائع إلى رصد النجوم والكواكب، فكان أهل شنعار أول من عني برصد محاسن السماء على قواعد مطردة، وفاقوا من تقدمهم في هذا الفن البديع، وما زالت مجموعة معارفهم فيه تزداد وتتسع جيلا بعد جيل حتى اتصلت بعدهم باليونان، وهي - والحق يقال - لم تكن راقية كما يتوهمه بعضهم، لكن اليونان زادوا عليها زيادة تذكر، وكذلك فعل الرومان، فتقوم منها علم النجوم وعلم التنجيم معا، إلا أن أساس تلك المعلومات كان مبنيا على ما وضعه الكلدان، وهم الذين كانوا يزعمون أن حظوظ الناس وسعودهم ونحسهم متوقفة على بروج السماء وكواكبها وعلاماتها وظواهرها، وقد بلغ بهم الرصد إلى أنهم عرفوا ما كان ثابتا من تلك النجوم وما كان متحيرا، مع أن الأجرام النيرة التي تغشى تلك القبة الزرقاء تعد بالألوف والملايين، ولقد تصوروا في تلك النيرات صورا وهمية، انتقلت أسماؤها إلى الخلف إلى يومنا هذا، كالعقرب مثلا، والرامح الذي نصفه إنسان ونصفه حيوان، والجدي بذنب سمكة، وكان للشمريين معنى خاص بالسيارة التي نسميها إلى اليوم الزهرة، ويشركونها بمعبودة الحب والولادة، وكان مركز عبادتها في أورك (الوركاء). (7) الملوك الأولون لشمر وأكد (سرجون أكد وخلفاؤه)
لما كان يحكم على أرض شنعار كلها - أي أرض شمر وأكد معا - ملك واحد يرعى رعيته بصولجانه، كانت تلك الأرض عبارة عن قوة متجمعة تتمكن من أن ترسخ في جميع البلاد المجاورة التي أصحابها دون شنعار قوة وتمدنا وحضارة. ويظهر أن تجمع هذه القوى وازدحامها في مركز واحد هما من خصائص هذا الزمن لا من خصائص الخضوع لملك واحد في العصور الخالية الواغلة في القدم. ويحق لنا أن نفكر أن الحرية الشخصية كانت أثبت في القبائل الأولى منها في مدن شنعار وديار مصر، وكان من المحتم على الرجل المتشوف إلى أن يتقدم في السلطة المنتظمة أن ينزع من نفسه شيئا من حريته الحاسية التي نشأ فيها، وينقاد إلى أخلاق ترضي الجميع. أما ملك شمر وأكد فكان في نفسه مطامع أعلى، كان في نيته أن يكون سلطانا مطلق الأمر والنهي؛ ففي نحو سنة 2500 قبل المسيح - على ما ذكره المحققون - دفع سرجون ملك أكد جيوشه الظافرة إلى ما وراء تخوم شنعار شرقا وغربا، شمالا وجنوبا؛ ففي الشرق أخضع لصولجانه العيلاميين (الذين يسميهم العرب بني غليم. راجع القاموس مادة غلم، بالغين المعجمة؛ وابن خلدون 2 و13) في القطر المرتفع المعروف عند العرب باسم خوزستان، واليوم هو جزء من مملكة فارس، في الجنوب الغربي في نحو طرف القسم المطمئن من الأرض الغريلية التي يجتمع فيها النهران ، وسكانه اليوم أقوام يتكلمون لغة خاصة بهم، لا تشبه السامية ولا الشمرية، وكانت حاضرته السوس المعروفة اليوم باسم ششتر، وكان أولئك القوم لا يدينون بعض الأحيان للملوك الشمريين والأكديين، فيقومون ويغيرون على مدن شنعار.
وكانت حضارة عيلام مقتبسة في صورتها الخارجية من شنعار، أما في الجنوب فإن سفن سرجون كانت تمخر مياه خليج فارس ليوصل جزائر البحرين بمملكته، وهي الجزائر التي تتصل اليوم بدولة أخرى عظمى بواسطة بواخرها الجسيمة. وفي الشمال كانت جحافل سرجون تصعد دجلة وتدوخ قبائلها السامية؛ فلقد وصلت على الأقل المدينة الأرمنية المعروفة اليوم بديار بكر؛ إذ وجد فيها صفيحة شبيثية (بازلتية) لابن سرجون، ووارث مملكة أبيه، ومدينة حران (التي يسميها بعضهم خطأ: هاران) المتربعة في سهل الجزيرة، أخذت من عمران شنعار شيئا قليلا وكثيرا، وهي التي أصبحت في القرون المتتالية مركز عبادة خاصة بسين القمر الإله، إله شنعار. وفي غربي الفرات دوخ سرجون بلاد قوم ساميين آخرين اسمهم العموريون، وكانوا قد توطنوا سورية الشمالية بين الفرات والبحر، وبلغ سرجون بحر الجنوب الكبير، وكانت سفنه تذهب لتمكن سطوته في قبرص، وهي جزيرة لاحقة بدولة بريطانية العظمى، كأن البحرين بالإمبراطورية المذكورة بواسطة السفن أيضا. وعلى ما ترى، كان سرجون قد دوخ العالم كله، ذلك العالم الذي كان يعرفه الشنعاريون، أما وراءه فكانت ظلمات الهمجية تغشى ما بقي من العالم الذي كان وراء فتوحاتهم. قلنا دوخ كل العالم، ولعلنا بالغنا في الكلام؛ لأن في ذلك العهد نفسه، وفي زمن فتوحات سرجون الكثيرة، كان ملوك وادي النيل اختصوا بأنفسهم فلسطين وفنيقية، ولا جرم أنهم واصلوا وراسلوا ملك أكد. نعم، إن سرجون أصبح يومئذ ملك أقطار الأرض الأربعة وسيدها؛ لأن الشنعاريين كانوا يعتبرون البلاد الواقعة في الأصقاع البربرية المكتنفة بالظلمات غير جديرة بأن تعد بين البلاد.
إن الدولة الأكدية العظيمة - دولة سرجون - لم تدم طويلا؛ فمن بعد قرنين انتقل الصولجان من جديد إلى أيدي الشمريين؛ إذ جاءت مدينة أور (المعروفة بأور الكلدانيين في التوراة، وهي المسماة اليوم: المقير )، وأقامت على العرش ملوكا من أبنائها. والبلاد التي دوخها سرجون خارجا عن شنعار انتقضت، ثم قدم الفاتحون العيلاميون وساقوا أسيرا آخر ملك من ملوك أور. والظاهر أن شنعار بعد هذا الأمر سقطت من عظمتها، فتطايرت شظاياها، وأصبحت كل شظية منها دويلة قائمة بنفسها. وإذا نظرنا بوجه عام إلى ما يمكن العثور عليه من تاريخ شنعار نرى أنه يتعذر على الشنعاريين أن يستعيدوا دولتهم الضخمة، أو دولة طويلة البقاء. نعم، إننا نرى من وقت إلى وقت قيام بيت من الملوك الشمريين أو الأكديين يقبضون على أزمة المملكة، لكن ذلك لا يدوم طويلا، وإن كانوا يجمعون في قبضتهم التسلط على البلاد كلها. إن تاريخ شنعار المتقطع يخالف كل المخالفة تاريخ ديار مصر؛ لأن تاريخ هذه الديار يتسلسل تسلسلا عجيبا أن انتقل من يد ملك واحد مستقل إلى يد ملك آخر مستقل مدة 4000 سنة تخللها فترة يسيرة. ولعل سبب ذلك التقلب في بلاد شنعار وجود عنصرين قديمين مختلفين مع لغتين متغايرتين، بخلاف بلاد وادي النيل، فإن أهاليها يرجعون إلى عنصر واحد، ويتكلمون لسانا واحدا؛ هذا فضلا عن أن بلاد مصر كانت قد انحازت عن سائر البلاد بالبحر الذي يفصلها من جهة، وجبال بلاد العرب أو هضابها من الجهة الأخرى. وأما بلاد شنعار فإنها كانت شاغرة مفتوحة لكل من يهجم عليها ومن كل جانب منها.
إن تاريخ شنعار السياسي متقطع، إلا أن حضارته بقيت ثابتة غير متزعزعة خلال أزمنة الملوك الذين تداولوها، والطوارئ المختلفة التي طرأت عليها؛ فالأراضي كانت تزرع وتسقى، وأهاليها كانوا يبيعون ويشترون ويدونون حساباتهم ويكتبون مراسلاتهم على صفائح الفخار، وكانوا يعبدون أربابهم على ما كان يفعله أجدادهم، وكان أهل الجبال وأهل السهول يزدحمون في شنعار ويترددون إلى غاباتهم وبساتينهم بدون مانع يمنعهم، ويتعجبون من محاسن أرضهم، بل من محاسن فردوسهم، وهو أمر لم يروه خارجا عنها، كانوا يرون في بلادهم شنعار حيطانا سميكة من الطاباق، وأبراجا حسنة البناء، كأنها تناغي السماء. كانوا يرون صور حيوانات ووحوش جسيمة، رسمت طبقا لأصول صناعة توارثها الخلف عن السلف، ولها مزايا خاصة بها لا توجد في غيرها، وهي كلها منحوتة في الحجارة، أو منقوشة على الآجر، أو مصبوغة بأصباغ ملونة أحسن تلوين متلألأ في الشمس الباهرة النور. كانوا يرون أسواقا يتزاحم فيها الناس من كل حدب وصوب، ذوو ثياب واسعة طويلة، تنحدر على أقدامهم الحافية، أو التي فيها نعال خفيفة لا يسمع منها حس، وهم يمشون في شوارع كثيرة التراب والعجاج. كانوا يرون بضائع وأموالا معروضة للناظرين، وأقمشة نفيسة مزركشة أو مطرزة على ما كان يفعله الشنعاريون، زركشة وتطريز لم ينافسهم فيهما أحد من الأمم، وقد بزوا فيها على سائر الأقوام المجاورين لهم. أو يرون فيها بضائع معروضة وقد جيء بها إلى بلادهم على ظهور الجمال أو الحمير، وقد نقلوها من البلاد المجاورة. إلا أن الشنعاريين كانوا محرومين من شيء واحد، إنهم كانوا محرومين في عهد سرجون أكد من الخيل الجياد؛ لأن القبائل المتجولة في الشمال كانت قد اتخذت الحصان خادمها، بل رفيقها، ولم تكن تعرف الطريق المؤدية إلى الجنوب، لا سيما الطريق المؤدية إلى بلاد شنعار نفسها، وكذلك لم يكن للفراعنة ذلك العهد جياد لجر عجلاتهم، كما لم يكن للأعراب الرحل جياد لركوبها. (8) تأثير حضارة شنعار وديار مصر على سائر البلاد
القوة مهما كانت - مادية أو أدبية أو عقلية - لا بد من أنها تؤثر أثرا عظيما على من يكون حولها أو يراجع صاحبها. وهكذا كان الأمر في حضارتي شنعار وديار مصر على سائر بلاد ذلك العهد التي كانت تجاورهما. فإن الأقوام الأجلاف كانوا يتقدمون في الحضارة بطريقتين مهمتين ملامستين للأقوام العراقية، إحداهما النظر إلى معيشة سكان النيل والفراتين، ونقل ما يرونه إلى أهاليهم بعد عودتهم إلى بلادهم، فإنهم كانوا يرون نتاج العلوم، والفنون، والصنائع، والأشغال المحفورة والمنقوشة، والأسلحة، والأقمشة الفاخرة، فكانت كلها تنفث في صدورهم أفكارا تدفعهم إلى أن يجلوا أعظم الإجلال أولئك الذين كانوا يبرزون إلى عالم الوجود مثل تلك المآثر. وأما ملك أكد، أو ملك أور، فإنه رفع منار الحضارة والرقي، بحيث أخذ نوره يضيء إلى بعد سحيق، وغدا كل واحد من الناس يستضيء به ويفرغ ما في إمكانه ليضاهيه في عمله، ومثل هذا جرى بعد ذلك بقرون عند الرومان، فإن رقيهم كان قد طبع في نفوس أقوام الشمال الذين كانوا يدنون منهم احتراما وإجلالا ما كانوا لينسوهما البتة. وعليه، أصبح رقي أبناء الفراتين مما يحتذى أن كان له مزايا خاصة به وبصنائعه وأشغاله، وأخذ يتعدى البلد بعد البلد، والصقع بعد الصقع لتحقيق حضارة تعم أقواما عديدين. وما يجدر ذكره ولا يغمط شكره أنه سبق عمران سرجون عمران آخر لم يبزغ إلا فجره، وذلك في سواحل البحر المتوسط، وجزره الواقعة قريبة منه، وقد أخرج السر آرثر إيفنس شيئا من آثاره وبقاياه من جزيرة أقريطش (كريد)، ومما لا نغض عنه الطرف أن تأثير عمران شنعار وديار مصر كان يصل إلى قبرص لقربها من السواحل، وقد ثبت ذلك؛ إذ رؤي فيها أن سكانها اعتاضوا عن الأدوات الحجرية بالأدوات الشبهية (البرنزية). (9) بزوغ شمس حضارة بابل وظهور حموربي
ذكرنا الطريق الأولى التي إذا سار فيها الأقوام الأجلاف يرتقون في الحضارة والعمران، أما الطريق الأخرى فهي الاندغام أو الاندماج في أمة راقية أو الانضواء إليها؛ فقد كان يقع أن قبيلة من القبائل الضخمة أو القوية تنحدر من الجبال أو تطرأ من الفلوات وتأتي فتستحكم البلاد، وتنشئ فيها مملكة، ثم تمعن في الحضارة التي اقتبستها عند احتلالها البلاد، وتدفعها إلى أقصى غاية منها، وتجري على عادات أهاليها الدينية، فتبعث بهديها إلى آلهة شنعار على ما هو جار في عوائد أهل البلاد، وتتخذ لغتي شمر وأكد، وتتخلق بأخلاق ملوك البلاد. وأحسن مثال لتأييد قولنا هذا ما وقع للآموريين، فإنهم جاءوا واستوطنوا البلاد المذكورة في نحو الألف الثالث قبل المسيح، ونحو المائة الخامسة بعد الملك سرجون، وفي نحو 2000 سنة قبل الميلاد أقبل شيخ أموري اسمه «سموابو»، وأنشأ لنفسه مملكة في أرض شنعار، واتخذ له عاصمة جديدة، وهي مدينة كانت واقعة على الفرات، لم تكن ذات شأن في مدن القطر، اسمها «باب إيلو»، ومعناه : باب الآلهة، وهي التي نحت منها العبريون اسم بابل، فصحفها اليونان وقالوا «بابلون»، وقام من هذا البيت بعد مائة سنة ملك اسمه حموربي، وهو أكبر مشترعي بلاد شنعار في التاريخ، وبه دخلت البلاد مرة أخرى تحت جناحي ملك واحد بعد أن أصبحت كتلة واحدة عجنته يداه؛ فقد ذكرت تواريخ حموربي المدونة في عهده كيف جمع هذا الملك أفراد تلك الأمة ونهض زاحفا بهم على ملك أور فافتتحها، وكذلك فعل بمدينة لارسا (سنكرة الحالية)، ونقل أسلابهما إلى عاصمته بابل، ثم حارب العيلاميين واحتل بلادهم المتاخمة لبلاده، فأوقف بذلك غاراتهم، ومد جناح سطوته وشوكته إلى ما وراء شنعار إلى أعالي دجلة، وأدمج ديار آشور في دياره، وكانت هذه البلاد واقعة في منحدر دجلة ناظرة إلى جبال إيران، وكانت تتصل من الشرق بسهول الجزيرة الخضراء، وهواؤها أطيب من هواء شنعار المشهور بشدة حرارته. وكان أهالي تلك الديار ساميين مثل الأكديين والأموريين، ولسانهم قريب من لسان الأكديين، وكانت أشهر حواضرهم آشور أو آثور على دجلة، ثم امتد اسم المدينة حتى عم الصقع كله، فالشعب نفسه، فالآلهة المعبودة فيها. وكان الآشوريين قد ابتنوا مدينة أخرى قبل أن يدوخ حموربي ديارهم، اسمها نينوى، وكانت واقعة أعلى منها من جهة منحدر دجلة، وكانت نيتهم أن يفوقوها على آشور حتى يكسف نورها نور آشور. وكان تمدن آشور كتمدن شنعار، وآلهتها كآلهتها بدون فرق، إلا أن أخلاقهم على ما يظهر كانت تميل إلى الحرب والقراع أكثر مما كانت تميل إليه أخلاق الشنعاريين، يبين ذلك من هذا الأمر: وهو أن أشتر (أو عشترتة) معبودة شنعار الكبرى، كانت إلهة اللذات عندهم، وكانت عند الآشوريين معبودة الحرب. وفي عهد حموربي البابلي أصبحت بلاد آشور كلها تعتبر جزءا من مملكة شمر وأكد.
ولم يكن حموربي ملكا مغوارا أو فاتحا، بل كان أيضا حارسا حريصا على إدارة بلاده، يشهد على ذلك رسائله التي أنفذ بها إلى الضباط الملكيين، وعماله الذين كانوا في جنوبي المملكة، وهي الرسائل التي اكتشفت حديثا، فيظهر منها أنه حول كل فكره وانتباهه نحو إسقاء الأرضين وإروائها، تلك الأرضين التي يتوقف عليها حياة السكان وعمرانهم، ولقد كان يحفر ما يدفن منها، ويصلح ما يفسد، ويشق ترعا جديدة في المواطن التي بدت فيها الحاجة. وفي هذه السنين الأخيرة اكتشف العلامة الفرنسوي المسيو دمرغان القوانين التي أنشأها لبلاده، وقد نقلها إلى الفرنسوية لأول مرة الأب فنسان شيل الدومنيكي، وقوانينه هذه من أجزل الفوائد، والمقابلة بينها وبين شرائع موسى من الأمور التي تعرض لفكر الباحث بدون أن ينبه عليها. ولقد صارت مرمى أبحاث طلبة العلم منذ أن ظهرت إلى عالم الوجود، وقد اتخذ واضعها طريقة ابتدائية للتمييز بين طبقات الناس؛ فقد قال في جملة ما سنه: «إذا أتلف واحد عين رجل شريف تقلع عينه، وإذا رض عضوا شريفا يرض عضوه.» وقال في موطن آخر: «إذا أتلف رجل عين رجل فقير، أو رض عضوا من أعضائه يؤدي منا من الفضة.» والقضاء في أمور الخلق أخشن حكما وأقطع نفوذا؛ فقد قال في جملة ما سنه: «إذا عالج طبيب شريفا لجرح بليغ بمبضع من شبه (برنز)، وسبب وفاته، أو إذا بزل دملة في عين شريف بمبضع من شبه، وسبب تلف عينه، تقطع يد الطبيب.» «إذا بنى بان بيتا لرجل، ولم يكن بناؤه مكينا، وانهدم البيت الذي بناه، وسبب وفاة صاحب البيت، يقتل ذلك الباني.»
لا جرم أن شرائع حموربي لا تمثل مطلقا أفكار رجل خصوصي، لكن أفكار التشريع والأخلاق السائدة يومئذ في شنعار في القرن الألف قبل الميلاد؛ ولهذا يجب أن ينظر إليه نظرنا مستندا أصليا يعتمد عليه من يهمه أمر نشوء فكرة الخير والشر بين الناس.
Unknown page