المجلد الأول
المقدمات:
تمهيد وتقديم:
بسم الله الرحمن الرحيم، رب اليراع والرقيم، والحمد لله رب العالمين الذي لا ننفك نستهدي به ونستعين، حمدًا يبلغ غاية رضاه، ويعجز الكل عن إدراك كنهه ومداه.
والصلاة والسلام على هادي الأدباء ومعلم الفصحاء والبلغاء، محمد ﷺ رسول الله وخاتم الأنبياء، وعلى آله المطهرين النجباء، كلما سال مداد على طرس، وأشرقت على بني الغبراء شمس، وبعد.
اعلم، هداك الله، أن أهم العلوم على مدار الزمان، باعتراف العلماء أهل الملل والأديان، هو ذلك العلم الذي يسعى إلى اكتشاف هذا الكون وفهمه وتفسيره، ومن ثم تسخيره في سبيل سعادة الإنسانية وخيرها، والسير بها في مدارج الكمال، وأن كل ما عدا ذلك وانحرف عن هذا الهدف من العلوم، إنما هو سفسطة ومضيعة للوقت، ومجلبة للزهو والعجب، بل هو حجر عثرة في طريق تقدم بني البشر وسعادتهم ورقيهم.
ورأس العلوم ما يوصل إلى معرفة خالق هذا الكون، عن طريق تعلم القرآن وفهمه، لأنه كتاب الله المعجز الذي يدل على مبدعه، ويوقف المرء على نواهيه وأوامره، إذ هو الخبير بما يصلح مخلقواته ويسعدهم في رحلتهم الدنيوية، وينجيهم من العذابات الأخروية.
واعلم أن هذا العلم هو علم البلاغة التي تبدأ بمعرفة الفصاحة، أو معرفة اللغة والتبحر فيها، إذ هي لغة القرآن ووعاء الفكر، ومن ثم معرفة الأساليب التي يعبر بها أصحاب هذه اللغة عن أفكارهم وما تنطوي عليه صدورهم.
والفصاحة والبلاغة، في نظرنا وفي نظر الكثيرين، هي أولى العلوم بالتعلم، وأحقها
1 / 5
بالتحفظ، إذ لا يجوز الإخلال بها مادام الهدف الذي تسعى إليه هو غاية الغايات، فليس بعد معرفة الله ﷾ حكمة.
كما أن للفصاحة والبلاغة فضائل أخرى مشهورة، ومناقب لا تخفى معروفة، ومنها كما يذكر أبو هلال العسكري١: أن من لا يتقنها لا يمكنه التفريق بين جيد الكلام ورديئه، أو بين حسن اللفظ وقبيحه، ولا بين نادر الشعر وبارده، فيظهر بذلك جهله ونقصه.
"فإذا أراد أن يصنع قصيدة أو ينشئ رسالة -وقد فاته هذا العلم- مزج الصفو بالكدر، وخلط الغرر بالعرر٢، واستعمل الوحشي العكر، فجعل نفسه مهزأة للجاهل".
"وإذا أراد أيضا تصنيفث كلام منثور، أو تأليف شعر منظوم، وتخطى هذا العلم، ساء اختياره له، وقبحت آثاره فيه، فأخذ الرديء المرذول، وترك الجيد المقبول.... وقد قبل: اختيار الرجل وافد عقله٣.
تطور علم البديع حتى عصر ابن حجة:
كان علم البديع في بداياته، سليقة لدى الكتاب والأدباء العرب، ولم يكونوا يعرفونه بهذا الاسم، وإنما كانوا يطبقونه في ما ينشئونه أيام جاهليتهم. أيام كانوا يجتمعون في الأسواق والأندية الأدبية، أمثال المربد وعكاظ وغيرها، يتناشدون الأشعار أمام زهير والنابغة الذبياني ليحكما على جودتها أو رداءتها، حسب رؤيتهما لها بمنظار هذا العلم، وإن لم يكونوا قد عرفاه بعد، كعلم مستقل له حدوده ومصطلحاته الخاصة به.
وظل علم البديع، كغيره من العلوم يتطور ويتوضح، حتى صار علما قائما بذاته، يعرف اليوم بعلم البلاغة التي تشمل ما نعرفه اليوم من علم المعاني وعلمي البديع والبيان.
ولا يفوتنا أن نذكر أن علوم البلاغة هذه، مرت قبل أن تتوضح حدودها وتقر مصطلحاتها، بمرحلة كانت فيها تعرف بما سمي "علم البديع"، الذي هو أحدها، وأن أصولها تضرب -كما قلنا- إلى العصر الجاهلي، وأن أول من حاول وضع مصطلحات
_________
١ أبو هلال العسكري، من كتاب الصناعتين، نقلا عن الدكتور عبد العزيز عتيق: علم البديع، ط١ بيروت، دار النهضة ١٩٧٤م.
٢ الغرر: أول الكلام وأحسنه. والعرر: سقط الكلام ورديئه.
٣ وافد عقله: دليل على عقله.
1 / 6
بديعية هو الشاعر العباسي مسلم بن الوليد، المعروف بصريع الغواني، الذي "وضع مصطلحات لبعض الصور البيانية والمحسنات اللفظية، من مثل الجناس والطباق".
ونذكر أن أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ توسع قليلًا في ذكر البديع، دون أن يصضع، في كتابه "البيان والتبيين" تعريفات أو مصطلحات، بل بقي البديع عنده يعني الصور والمحسنات اللفظية والمعنوية معًا.
وتبدأ علوم البلاغة بالاستقلال، بعضه عن البعض الآخر، أيام الخليفة ابن المعتز الذي ألف "كتاب البديع" فكان، بحق، مؤسسا لما يعرف اليوم بهذا الاسم.
وجاء بعده قدامة بن جعفر، في كتابه "نقد الشعر" ليزيد علم البديع توضيحًا، وليضيف إلى مصطلحاته وفنونه جديدًا، فليقتي مع ابن المعتز في خمسة محسنات بديعية، كان هذا الأخير قد عرفها، مع اختلاف في التسمية، ويزيد قدامة إليها تسعة محسنات جديدة لم يذكرها ابن المعتز.
وبعد قدامة، نلتقي بأبي هلال العسكري، في كتابه "الصناعتين" "الشعر والنثر" الذي عقد فيه بابًا خاصًّا "لشرح البديع والإبانة عن وجوهه وحصر أبوابه وفنونه".
وإذا كان ابن المعتز قد توصل إلى معرفة ثمانية عشر نوعًا من أنواع البديع، زاد عليها قدامة تسعة أنواع، فإن أبا هلال العسكري قد بلغ بها واحدًا وأربعين نوعًا، أي بزيادة أربعة عشر نوعا على ما كان عرف قبله.
وفي القرن الخامس الهجري، تزداد علوم البلاغة استقلالًا وتحديدًا، إذ يبدو، من خلال بعض المؤلفات في هذا القرن، أنه بدأ يستقر في الأذهان أن البيان شيء، والبديع شيء آخر.
فقد أورد ابن رشيق القيرواني، في كتابه الشهير "العمدة" أبوابا خاصة لمباحث علم البيان، وأخرى تهتم بدراسة علم البديع. وقد ذكر فيه تسعة وعشرين نوعا من أنواع البديع، منها تسعة أبواب لم يسبقه إليها غيره ممن تقدموه في هذا المضمار. وبذلك يصبح عدد الأنواع البديعية المعروفة إلى أيامه، خمسين نوعًا.
ويعتبر عبد القاهر الجرجاني، في هذا القرن "الخامس الهجري" واضع علم المعاني، في كتابه دلائل الإعجاز. كما أنه يعد منظر علم البيان، في كتاب أسرار البلاغة دون أن يحاول وضع نظرية لعلم البديع؛ وإن كان قد تكلم عن أنواع منه، بقدر اتصالها بعلم البيان فقط.
1 / 7
أما في القرن السادس الهجري، فنلتقي بالزمخشري والوطواط وبأسامة بن منقذ.
فقد أكمل الزمخشري، في تفسيره "الكشاف" ما بدأه الجرجاني، بإضافات جديدة بثها في ثنايا كتابه.
أما الوطواط فقد حاول تطبيق قواعد البلاغة العربية على الأدب الفارسي، في حين ألف ابن منقذ كتاب "البديع في نقد الشعر".
ويحمل الراية، بعد هؤلاء، نفر من علماء القرن السابع الهجري الأفذاذ، منهم: الرازي والسكاكي وضياء الدين ابن الأثير والتيفاشي المغربي وزكي الدين بن أبي الأصبع المصري وعلي بن عثمان الأربلي وبدر الدين بن مالك.
وقد أولى هؤلاء علم البديع عناية خاصة، في ما ألَّفوه من كتب وتصانيف.
وإذا ما انتقلنا إلى القرنين الثامن والتاسع الهجريين، نجد أنهما قد امتازا بإيلاء العلماء والشعراء والأدباء علم البديع عناية ما بعدها عناية، إن لم نقل إنهم تفرغوا له، وجفت قرائحهم إلا منه.
وتميز بعض الشعراء والأدباء، في هذين القرنين، بنظم "البديعيات" التي تعتبر، بحق، دراسات في هذا المجال تكاد لا تعدوه. ومن هؤلاء: يحيى بن حمزة العلوي، صاحب كتاب "الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز والتنوخي"، محمد بن عمرو، صاحب كتاب "الأقصى القريب في علم البيان"، وابن قيم الجوزية صاحب كتاب "الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن وعلوم البيان"، وصفي الدين الحلي الشاعر المشهور، صاحب البديعية الشهيرة التي تبلغ ماية وخمسة وأربعين بيتًا من الشعر، قالها الحلي في مدح النبي محمد ﷺ ومطلعها:
إن جئت سُلعًا فسل عن جيرة العلم ... وأقر السلام على عُرب بذي سلم
ثم ابن جابر الأندلسي الضرير، صاحب البديعية المسماة "الحلة السيرا في محد خير الورى"، وهي في ماية وسبعة وعشرين بيتًا بدأها بقوله:
بطيبة أنزل ويمم سيد الأمم ... وانثر له المدح وانثر طيب الكلم
وقد سرد فيها ابن جابر المحسنات البديعية حسب ما أورده الخطيب القزويني.
ونلتقي قبل أن نصل إلى القرن التاسع الهجري، بعز الدين، علي بن الحسين الموصلي، صاحب البديعية التي عارضها فيها بديعية الصفي الحلي، وزاد عليه فيها، بأن ذكر في كل بيت منها لفظة تدل على اسم النوع البديعي الذي استخدمه فيه.
1 / 8
وقد نظم الموصلي بديعيته في مدح النبي محمد ﷺ في ماية وأربعين بيتا استهلها بقوله:
براعة تستهل الدمع في العلم ... عبارة عن نداء المفرد العلم
وإذا ما وصلنا إلى القرن التاسع الهجري، يطالعنا أديبنا البارع ابن حِجة، صاحب هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والذي نظم بيديعية في مدح الرسول الكريم، وعد فيها من أنواع البديع ماية واثنين وأربعين نوعًا، استهلها ببراعة الاستهلال قائلًا:
لي في ابتدا مدحكم يا عُربَ ذي سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم
التعريف بخزانة الأدب وعملنا فيه:
"خزانة الأدب" في الأصل، وكما يذكر صاحبه في مقدمته له، هو شرح لبديعيته الآنفة الذكر، والتي أنشأها كما يذكر هو "برسم من محمد بن البارزي الجهني الشافعي" صاحب ديوان الإنشاء بالممالك الإسلامية، وقد حذا فيها حذو "طرز البردة" بعد أن وقف محمد بن البارزي على بديعية الشيخ عز الدين الموصلي التي التزم فيها تسمية النوع البديعي، وورى فيها من جنس الغزل، ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي، الذي لم يلتزم ذلك في بديعيته.
وقد سمى ابن حِجة بديعيته تلك "تقديم أبي بكر" وحاول فيها أن ينسج على منوال عز الدين الموصلي، في تضمين الأبيات ألفاظًا يشير بها إلى الأنواع البديعية التي بلغ بها ماية واثنين وأربعين نوعًا، دون تمييز بين البديع وغيره من علوم البلاغة، محاولًا أيضًا أن يجاري صفي الدين الحلي في رقة الشعر وجمال النظم والسلاسة.
ثم إنه، أعني ابن حجة، وضع هذا الشرح المطول لبديعيته، وأسماه "خزانة الأدب وغاية الأرب" فكان أكثر أهمية وفائدة من البديعية ذاتها، إذ جاء كما يدل عليه اسمه، خزانة للأدب مليئة بدرر علومه وجواهر معارفه، وغاية ما يحتاجه المتأدب.
و"خزانة الأدب" أشبه بالموسوعات الأدبية التي تجمع فنون الأدب المختلفة: من اللغة والبلاغة والنقد والتاريخ والتراجم، ومنثور الكلام ومنظومه، حتى المواليا١ والأزجال لكثرة ما يورده صاحبه فيه من الشواهد، والأمثلة والاستطرادات، وأحيانا النكت
_________
١ المواليا: نوع من النظم العامي من البحر البسيط اشتهر في العصر العباسي.
1 / 9
والمساجلات الأدبية. ولا نبالغ إذا قلنا إنه مرجع أدبي خاص، للعصرين: المملوكي والأيوبي، بل هو مرجع أدبي عام.
لذلك رأينا أن نوليه ما يستحقه من الاهتمام، تسهيلا للاستفادة منه، فقمنا بشرحه والتعليق عليه، وتخريج الآيات القرآنية الواردة فيه، وتحريره بضبطه، وتعيين بداية الفقرات ووضع النقاط والفواصل، وترجمنا لصاحبه، ومن ثم أشرفنا على طباعته، وقمنا بتصحيحه، حتى خرج بهذه الحلة، والله ولي التوفيق.
ملاحظات حول الكتاب:
من شروط البديعيات التي كان متعارفا عليها، أن يلتزم ناظموها بأن يكون كل بيت منها شاهدا على نوعه بمجرده، ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده. ومن هذه الزاوية وبناء لهذا الشرط، ولغيره من الشروط البديعية والبيانية، يقارن ابن حجة بين بديعيته وبديعية صفي الدين الحلي، وبديعية عز الدين الموصلي، وبديعية العميان فيقول: "أما براعة بديعيتي ... فإني جمعت فيها بين براعة الاستهلال وحسن الابتداء، بالشرط المقرر لكل منهما، وأبرزت تسمية نوعها البديعي في أحسن قوالب التورية، وشنفت١ بأقراط غزلها الأسماع، مع حشمة الألفاظ وعذوبتها، وعدم تجافي جنوبها عن مضاجع الرقة.
وبديعية صفي الدين الحلي، غزلها لا ينكر، غير أنه لم يلتزم فيها بتسمية النوع البديعي ... ولو التزمه لتجافت عليه تلك الرقة. وأما الشيخ عز الدين الموصلي، فإنه لما التزم ذلك نحت من الجبال بيوتا".
وإذا نحن نظرنا إلى الكتاب من هذه الزاوية، فإننا نلاحظ فعلا، شدة مراعاة ابن حجة لهذا الشرط، وعدِّه عدم الأخذ به عيبا وقع فيه البعض ممن نظموا البديعيات غيره.
وأول ما يمكن أن نلاحظه على ابن حجة في "خزانة الأدب" أنه لم يتورع عن ذكر الأشعار التي فيها الكثير من الفحش، الذي يجدر بأرباب الأدب أن يربأوا بأنفسهم عن ذكره أو التلفظ به. خاصة وأنه كان باستطاعة ابن حِجة الابتعاد عن مثل هذا الشعر الفاحش، لأنه إنما أورده في مجال التمثيل على الأنواع البديعية، وكان يمكن أن يوجد له عذر في إيراده، لولا أن بعض أمثلته، وهو قصيدة لابن الفارض، بلغ أربعة وستين بيتا، مما لا يعقل معه أن يسمى مثلًا؛ أما وقد ظهر تعمده في إيراد فاحش الشعر، فلا عذر له عندنا.
_________
١ شنّف: حلّى وزيّن.
1 / 10
ومما يلفت النظر في الخزانة أيضا ما نراه من الإطالة في الشرح. والتي قد تصل إلى حد الملل أحيانا، وإن كان ابن حجة أيضا يتحاشى الوقوع فيها فيقول: "ولولا الإطالة لأفعمت الأذواق من هذا السكر النباتي". وإن كان يبرر تطويله بمثل قوله: "فإن الشرح قد طال، ولم أطله إلا ليزداد الطالب إيضاحا، ويداوي علل فهمه بحكم المتقدمين، ويتنزه في رياض الأدب على النبات الغض من نظم المتأخرين".
فإذا عرفنا أن الكتاب يحتوي ماية واثنين وأربعين نوعًا من أنواع البديع، وأن شرحه لنوع واحد، هو التورية، استغرق أكثر من ربع الكتاب، عرفنا مدى ما وصلت إليه الإطالة والاستطراد عند ابن حجة في "خزانته".
بعد الإطالة والاستطراد، يطالعنا ابن حجة في كتابه بالتكرار، فنراه يكرر البيت أو الأبيات أكثر من مرة، ربما حسب ما يقتضيه الاستشهاد على النوع البديعي بأبيات يمكن الاستشهاد بها على أنواع أخرى، وأكثر ما يبرز هذا التكرار في إيراده لما أخذه جمال الدين بن نباتة عن علاء الدين الوداعي.
ورغم أن ابن حجة يبدو من خلال "خزانة الأدب" واسع الاطلاع، مع ما تقتضيه هذه الصفة من صقل ملكة النقد الأدبي عنده، فإنه يبدو ناقدًا تعوزه الدقة ووضوح المقياس النقدي.
فقد نراه، في أحيان كثيرة، يطلق أحكامًا تنقصها الدقة والصوابية، أو دون تعليل في كثير من الأحايين، وإن كانت له في أحيان أخرى، أحكام نقدية معللة لا تجانب الصواب؛ فإن له أيضا أحكاما خاطئة، وأخرى يتابع فيها غيره، دون روية أو إعمال فكر.
فهو في معرض تعليقه على استهلال محي الدين بن عبد الظاهر، كاتب الملك الظاهر إلى الأمير سنقر الفراقاني، يقول: "الله أكبر! إن من البلاغة لسحرًا، والله ما أظن هذا الاتفاق الغريب اتفق لناثر". دون أن يذكر ابن حجة سبب إعجابه وهيامه بهذا الاستهلال.
وكذلك نراه يفعل عندما يستحسن قول آخر. إذ يقول: "سبحان المانح! هذا الأديب الذي لم ينسج الأوائل على منواله. ولا تتعلق الأفاضل من المتأخرين بغبار أذياله".
أو نراه يقول: "سبحان المانح! والله من لا يتعلم الأدب من هنا فهو من المحجوبين عن إدراكه". لماذا؟ وما هو المقياس؟ فإن ابن حجة لا يفصح عن شيء من ذلك.
1 / 11
ولكن ابن حجة في معرض انتقاده لابن رشيق القيرواني، والحاتمي في كلامهما على الجناس الملفق، نراه بعلل نقده ذاك فيقول: "ولعمري لو سموا الملفق مركبا، والمركب ملفقا، لكان أقرب إلى المطابقة في التسمية؛ لأن الملفق مركب في الركنين، والمركب ركن واحد، كلمة مقررة، والثاني مركب من كلمتين، وهذا هو التلفيق".
كما أننا نراه، في معرض نقده لبيتين أخذهما الشيخ صلاح الدين الصفدي عن ابن نباتة، يقول معللًا: "وما أظن الشيخ صلاح الدين، غفر الله له، لما سمع ما قاله الشيخ جمال الدين، ونظم بعده هذين البيتين، كان في حيز الاعتدال. وأين انجذاب القوس إلى الحاجب، من انجذاب الدم إلى الخد"؟
وقد يستلطف ابن حجة في خزانته ما لا سبيل إلى استلطافه، فيذكر أن "من لطائف" مجون ابن تميم قوله:
غطت محاسن وجهها عن ناظري ... هيفاء لم أر في البرية شبهها
وغدت تمانعني فقمت مبادرًا ... وكشفت من بعد التمنع وجهها
ترى! أي لطافة في هذين البيتين؟ إذا كانت اللطافة الأدبية تعني نكتة بديعية تعشقها الآذان، أو صورة بيانية تهيم بها النفوس؛ اللهم إلا أن يكون المجون مدعاة للاستلطاف! أو يكون أحد استلطف هذا المجون لانحراف في ذوقه الأدبي، فتابعه ابن حجة مستلطفًا على عادته، دون تدبر ولا روية أو إعمال فكر، كما فعل غير مرة حيث يبدو ذلك من قوله: "وعدوا من البديع قول فلان.... وعدوا من الحسن قول فلان.... وعدوا من اللطيف قول فلان" إلى آخر هذه المعزوفة، دون إبداء رأيه الشخصي.
ليس هذا فحسب، بل إن ابن حجة يخطئ حين يذكر أنه "تقرر وتكرر أن تشبيه المحسوس بالمحسوس هو المقدم في باب التشبيه" إذا عرفنا أن المقرر: أن أبلغ التشبيه هو تشبيه المعقول بالمحسوس، أو إخراج ما لا يحس إلى ما يدرك بالحواس.
وأخيرًا وليس آخرًا. فإننا نأخذ على الشيخ ابن حجة انحيازه في الحكم أثناء تحكيمه بين الشيخين، صفي الدين الحلي وجمال الدين ابن نباتة، إذ يقول:
تصفحت ديوان الصفي فلم أجد ... لديه من السحر الحلال مرامي
فقلت لقلبي دونك ابن نباتة ... ولا تتبع الحلي فهو حرامي
وكذلك نأخذ عليه تحامله على المتنبي الشاعر، وجوره عليه وغمطه حقه، خاصة وأنه هو نفسه، أعني ابن حجة، أخذ على الشيخ صلاح الدين الصفدي وعجب منه
1 / 12
"كيف أخل، في كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام، بذكر علاء الدين ابن المظفر الكندي الشهير بالوادعي، وهو أشهر من "قفا نبك" في نظم التورية، بل هو امرؤ قيسها وكنديها".
ولو كان ابن حجة، قد أخل بذكر المتنبي في كتابه هذا، لما كان لنا عليه مأخذ، وإنما نأخذ عليه ذكره له والتجني عليه، مع محاولته الخبيثة في إيهام القارئ بأنه هو، أي ابن حجة، من أنصاره ومريديه، بينما يبدو لنا أنه يغمطه حقه ويجور عليه في الحكم، حين نراه يتجاهل سبقه إذ يقول في معرض حديثه عنه وعن الطغرائي: "انظر إلى محاسن هذين الفحلين إلى الغاية التي تمثلا بها ... وتأخر سوابق الأفهام عن معرفة السابق منهما إلى الغاية".
كما أننا نرى أن ابن حجة يحاول، في مكان آخر، التغطية والتعمية على القارئ، بإخفاء بغضه، وربما حسده، للمتنبي، مع الغمز الخفي من قناته فيقول: "وقد عن لي أن أجمع هنا ما حلا بذوقي من أمثال أبي الطيب المتنبي، وإن كان فيها ما ولّده من شعر أبي تمام".
فإن في هذا الكلام ما يفهم منه أن المتنبي كان عيالًا على غيره من الشعراء، وفي هذا ما فيه من غمز من قناة هذا الشاعر الفحل، مع أن هذا لم يقل به غير ابن حجة، إذ المعروف بين الباحثين والنقاد أن الكثيرين من الشعراء هم عيال على المتنبي، ويقصر الكثيرون منهم عن التحليق في سمائه.
ومهما يكن من أمر صاحب "الخزانة" فإننا لا يمكن أن نغمطه حقه وجهده في كتابه الموسوعي "خزانة الأدب" إذ إنه يبقى خزانة حقيقية للأدب. لا غنى عنها للباحث الأديب والمتأدب، بل تكاد تكون فريدة في عصرها، وفي غزارة مادتها وتنوعها.
بيروت في ٨/ ٦/ ١٩٨٦م.
عصام شعيتو
1 / 13
التعريف بالكاتب: ١
حياته وعلمه:
هو الشيخ تقي الدين أبو بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري، المعروف بابن حِجة، وضبطه بكسر المهملة. وقد غلط الدكتور عبد العزيز عتيق، حين ضبطه بفتحها٢.
ولد في حماة سنة سبع وستين وسبعماية للهجرة، وقيل: سنة سبع وسبعين وسبعماية للهجرة٣. والمرجح لدينا أن تكون ولادته سنة ثمانية وستين وسبعماية، لقوله، عام ثمانية عشر وثمانماية للهجرة.
إن جاء نظمي قاصرًا عن وصفه ... عذرًا فهذي نشطة الخمسين
كان من أعلام القرن التاسع الهجري، وذكر أنه كان رئيس الأدباء وإمام أهل الأدب في عصره. فقد سئل الحافظ ابن حجر: من شاعر العصر فقال: الشيخ تقي الدين ابن حجة.
وهو زجّال، وشاعر جيد الإنشاء، طويل النفس في النظم والنثر، حسن الأخلاق والمروءة، فيه شيء من الزهو والإعجاب.
عانى، في صباه، عمل الحرير وعقد الأزرار صناعة له، فنسب إليها.
تتلمذ في صباه، على العلامة شمس الدين الهيتي الحسني النحوي، وعلى قاضي القضاة في حماة، تقي الدين بن الحسني الحنفي، كما تتلمذ على قاضي القضاة، علاء الدين بن القضاعي.
عاش في العصر المملوكي، وعاصر الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي،
_________
١ انظر ترجمته في: كشف الظنون لملا جلبي، والضوء اللامع للصخاوي، وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي، وإعجام الأعلام لمحمود مصطفى، والأعلام للزركلي، وفي النجوم الزاهرة.
٢ د. عبد العزيز عتيق، علم البيان، بيروت، دار النهضة، ط١ ١٩٧٤، ص٥٦.
٣ شذرات الذهب، ولم يذكر هذا التاريخ غيره ممن أرخ للمؤلف.
1 / 15
واتصل بخدمة المحمودي، أمير دمشق، ثم قدم بصحبته هاربا من طرابلس الشام، إلى القاهرة، بعد أن عضته حرب الثغور بأنيابها، ووصل إليها سنة اثنتين وثمانماية للهجرة، وبقي فيها حتى توفي الملك المؤيد، حيث تسلط عليه، بعده، جماعة من شعراء عصره، لأنه كان ظنينا بنفسه وبشعره، مزريًا بغيره من الشعراء، فراحوا يقذعون في هجائه، حتى أن أحدهم قال فيه:
زاد ابن حجة بالإسهال من فمه ... وصار يسلح منثورًا ومنظومًا
وظن أن قد تنبا في ترسله ... لو صح ذلك قطعًا كان معصومًا
وما زالوا به يضايقونه، حتى خرج من مصر، عائدًا إلى مسقط رأسه حماة، حيث مات فيها سنة سبع وثلاثين وثمانماية للهجرة، ودفن في تربة باب الجسر.
مؤلفاته:
لابن حجة مجموعة لا بأس بها من المؤلفات، إن دلت على شيء فإنما تدل على سعة اطلاعه وغزارة إنتاجه، وعلى طول باعه في النظم والتأليف.
وقد عد له صاحب الأعلام الكثير من المؤلفات، منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط، نذكر منها:
- خزانة الأدب وغاية الأرب، وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو عبارة عن شرح المؤلف للبديعية التي كان أنشأها في مدح الرسول الكريم، معارضًا فيها كلًّا من الشيخ صفي الدين الحلي والشيخ عز الدين الموصلي، ملتزمًا فيها بذكر النوع البديعي، وقد طبع طبعة أولى وهذه هي طبعته الثانية.
- ثمرات الأوراق، وهو عبارة عن مجموعة محاضرات، "مطبوع".
- كشاف اللثام عن التورية والاستخدام.
- حديقة زهري "مطبوع".
- قهوة الإنشاء، في مجلدين ضخمين "مخطوط".
- بروق الغيث أو شرح لامية العجم.
- بلوغ المرام من سيرة ابن هشام "مخطوط".
- بلوغ المراد من الحيوان والنبات والجماد.
- الثمرات الشهية من الفواكه الحموية، وهو من النظم "مخطوط".
- تأهيل الغريب "مطبوع".
- أمان الخائفين من أمة سيد المرسلين.
- وله ديوان شعر بديع.
1 / 16
مقدمة الكاتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله البديع الرفيع، الذي أحسن ابتداء خلقنا بصنعته، وأولانا جميل الصنيع فاستهلت الأصوات ببراعة توحيده وهو البصير السميع، أدّب نبينا محمدًا ﷺ فأحسن تأديبه حتى أرشدنا، جزاه الله عنا خيرًا إلى سلوك الأدب وأوضح لنا بديعه وغريبه. نحمده حمدًا يحصن به التخلص من غزل الشهوة إلى حسن الختام، ونشكره شكر من شعر ببديع صفاته فأحسن النظم، وأعوذ بالله من قوم لا يشعرون بهذا النظام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة شاعر بأنه الواحد، وأن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث من بيت عربي، فصاحته على الأعراب والإعراب أعظم شاهد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين هم نظام هذا البيت الشريف، ودوائر بحره وأنواع بديعه وديباج صدره، وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: فهذه البديعية التي نسجتها بمدحه ﷺ، على منوال طرز البردة، [و] كان مولانا المقر الأشرف العالي المولوي القاضوي المخدومي الناصري، سيدي محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب ديوان الإنشاء، الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، جمل الله الوجود بوجوده، هو الذي ثقف لي هذه الصعدة وحلب لي ضرعها الحافل، لحصول هذه الزبدة، وما ذاك إلا أنه وقف بدمشق المحروسة على قصيدة بديعية للشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله تعالى، التزم فيها بتسمية النوع البديعي، وورى بها من جنس الغزل، ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي تغمده الله تعالى برحمته، لأنه ما التزم في بديعيته بحمل هذا العبء الثقيل غير أن الشيخ عز الدين ما أعرب عن بناء بيوت أذن الله أن ترفع، ولا طالت يده لإبهام العقادة إلى شيء من إشارات ابن أبي
1 / 17
الأصبع، وربما رضي، في الغالب، بتسمية النوع ولم يعرب عن المسمى، ونثر شمل الألفاظ والمعاني، لشدة ما عقده نظمًا.
فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
فاستخار الله مولانا الناصري، المشار إليه، ورسم لي بنظم قصيدة أطرز حلتها ببديع هذا الالتزام، وأجازي الحلي برق السحر الحلال، الذي ينفث في عقد الأقلام، فصرت أشيد البيت فيرسم لي بهدمه.
وخراب البيوت، في هذا البناء صعب على الناس، ويقول: بيت الصفي أصفى موردًا، وأنور اقتباسًا. فأسن كل ما حده الفكر؛ وأراجعه ببيت له على المناظرة طاقة، فيحكم لي بالسبق وينقلني إلى غيره، وقد صار لي فكرة إلى الغايات سباقة. فجاءت بديعية هدمت بها ما نخته الموصلي، في بيوته من الجبال، وجاريت الصفي١ مقيدًا بتسمية النوع، وهو من ذلك محلول العقال، وسميتها: تقديم أبي بكر، عالمًا أن لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال.
وكان المشار إليه، عظم الله شأنه، هو الذي مشى أمامي وأشار إلى هذا السلوك وأرشد، فاقتديت برأيه، وهل يقتدي أبو بكر بغير محمد؟
_________
١ يقصد صفي الدين الحلي.
1 / 18
في حسن الابتداء وبراعة الاستهلال:
حسن الابتداء عند المتقدمين:
لي في ابتداء مدحكم يا عُرب ذي سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم
اعلم أنه اتفق علماء البديع، على أن براعة المطلع عبارة عن طلوع أهلة١ المعاني واضحة في استهلالها، وأن لا يتجافى بجنوب الألفاظ عن مضاجع الرقة، وأن يكون التشبيب بنسبها مرقصا عند السماع، وطرق السهولة متكفلة لها بالسلامة من تجشم الحزن٢ ومطلعها، مع اجتناب الحشو، ليس له تعلق بما بعده. وشرطوا أن يجتهد الناظم في تناسب قسميه، بحيث لا يكون شطره الأول أجنبيا من شطره الثاني.
وقد سمى ابن المعتز براعة الاستهلال، حسن الابتداء، وفي هذه التسمة تنبيه على تحسين المطالع، وإن أخل الناظم بهذه الشروط لم يأت بشيء من حسن الابتداء، وأورد في هذا الباب قول النابغة:
كليني لهمٍ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب٣
قال زكي الدين بن أبي الأصبع: لعمري لقد أحسن ابن المعتز الاختيار، فإني أظنه نظر بين هذا الابتداء وبين ابتداء امرئ القيس، حيث قال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل٤
_________
١ أهلة المعاني: بداياتها
٢ الحزن: من الأرض الوعر، ومن الكلام الغريب المعقد.
٣ ناصب: متعب.
٤ سقط اللوى الدخول وحومل: أسماء أماكن في الصحراء.
1 / 19
فرأى ابتداء امرئ القس، على تقدمه وكثرة معانيه، متفاوت القسمين جدًّا لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك وكثرة المعاني، وليس في الشطر الثاني شيء من ذلك. وعلى هذا التقدير مطلع النابغة أفضل، من جهة ملايمة ألفاظه وتناسب النفوس، إلا الاقتصار على سماع صدر البيت؛ فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في شطر بيت، وإذا تأمل الناقد البيت بكماله، ظهر له تفاوت القسمين.
وقال، أعني ابن أبي الأصبع: إذا وصلت إلى قول البحتري، من هذا الباب، وصلت إلى غاية لا تدرك، وهو قوله:
بودّي لو يهوى العذول ويعشقُ ... ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق
انتهى كلام زكي الدين بن أبي الأصبع.
ولقد أحسن أبو الطيب المتنبي حيث قال:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي
ومثله قوله، "أي قول حبيب":
حشاشة نفس ودّعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشيع١
وما ألطف قول أبي تمام في هذا الباب:
لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتقضت الأوطار٢
ومثله قول أبي العلاء المعري:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر
وقد خلب القلوب ابن المعتز في تناسب القسمين بقوله:
أخذت من شبابي الأيام ... وتولى الصبا ﵇
_________
١ حشاشة النفس: بقيتها - الظاعنين الراحلين.
٢ الأوطار: مفردها وطر وهي الحاجة.
1 / 20
وما أحلى ما ناسب ابن هانئ، قسمي مطلعه بالاستعارات الفائقة، حيث قال:
بسم الصباح لأعين الندماء ... وانشق جيب غلالة الظلماء١
وقال الشريف أبو جعفر البياضي، يشير إلى الرفق بالإبل عند السرى٢، وتلطف ما شاء في تناسب القسمين، حيث قال:
رفقًا بهن فما خلقن حديدا ... أو ما تراها أعظمًا وجلودا
وهذه القصيدة، طريقها الغريب، لم يسلكها غيره، فإن نسجها جميعها على هذا المنوال ومنها:
يفلين ناصية الفلا بمناسم ... وسم الوجا بدمائهن البيدا٣
فكأنهن نثرن درًّا بالخطا ... ونظمن منه بسيرهن عقودا
ومما يعذب في الذوق من هذا الباب قول ابن قاضي ميلة:
يزيد الهوى دمعي وقلبي المعنف ... ويحيي جفوني الوجد وهو المكلف
وقد نبه مشايخ البديع على يقظة الناظم في حسن الابتداء، فإنه أول شيء يقرع الأسماع ويتعين على ناظمه النظر في أحوال المخاطبين والممدوحين، وتفقد ما يكرهون سماعه ويتطيرون منه، ليتجنب ذكره، ويختار لأوقات المدح ما يناسبها. وخطاب الملوك في حسن الابتداء هو العمدة في حسن الأدب فقد حكي أن أبا النجم الشاعر، دخل على هشام بن عبد الملك في مجلسه، فأنشده من نظمه:
صفراء قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول٤
وهشام بن عبد الملك أحول، فأخرجه وأمر بحبسه.
وكذلك اتفق لجرير مع أبيه عبد الملك، فإنه دخل عليه وقد مدحه بقصيدة حائية أولها: "أتصحو أم فؤادك غير صاح". فقال له عبد الملك: بل فؤادك يا بن الفاعلة.
_________
١ الجيب: من الثوب مكان إدخال الرأس منه - الغلالة: الثوب والستر.
٢ السرى: السير ليلًا.
٣ يفلين: يثلمن - الناصية: غرة الشيء وأوله وناصية الأرض وجهها - الفلا: الفلاة: وهي الأرض الواسعة - المناسم: مفردها منسم وهو للإبل بمثابة القدم للإنسان - وسم: علّم - الوجا: نوع من السير الذي يشقق المناسم.
٤ هذا البيت في مدح هشام بن عبد الملك الأحول وهو في صفة الشمس قبيل الغروب.
1 / 21
ومن هذه الجهة بعينها عابوا على أبي الطيب المتنبي خطابه لممدوحه، في مطلع قصيدة حيث قال:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا
ومن مستقبحات الابتداء، قول البحتري وقد أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي أولها: "لك الويل من ليل تقاصر آخره" فقال: بل لك الويل والخزي، وأما قصة إسحاق بن إبراهيم الموصلي، في هذا الباب، فإني أنفعل وأخجل عند سماعها، وما ذاك إلا أنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان، فشرع في إنشاء قصيدة نزل بمطلعها إلى الحضيض، وكان هو وحكاية الحال في طرفي نقيض، وهو:
يا دار غيرك البلا ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك
فتطير المعتصم من قبح هذا المطلع، وأمر بهدم القصر على الفور، فتعوذ بالله من آفة الغفلة، هذا مع يقظة إسحاق وسير الركبان بحسن محاضرته ومنادمته للخلفاء، ولكنه قد يخبو الزناد وقد يكبو الجواد، مع أنه قيل: إن أحسن ابتداء ابتدأ به مولد، قول إسحاق الموصلي حيث قال:
هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل
فانظر إلى هذا الأديب الحاذق المتيقظ، كيف استطردت به خيول السهو إلى أن خاطب المعتصم، في قصر رياحين تشييده غضة١ بخطاب الأطلال البالية، وانظر إلى حشمة أبي نواس كيف خاطب الدمن بخطاب تود القصور العالية أن تتحلى بشعاره، مع بلوغه في تناسب الطرف الأقصى، حيث قال:
لمن دمن تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم٢
وقصة ذي الرمة مع عبد الملك تقارب قصة إسحاق مع المعتصم، فإنه دخل عليه يومًا فأمره بإنشاد شيء من شعره فأنشد قوله: "ما بال عينك منها الماء ينسكب" وكان يعبين عبد الملك رمش فهي تدمع أبدًا، فتوهم أنه خاطبه وعرض به، فقال له: ما سؤالك عن هذا يابن الفاعلة. فمقته وأمر بإخراجه.
_________
١ حديث البناء.
٢ دمن جمع مفرده دمنه، وهي آثار الناس وما سودوا - رسوم: جمع مفرده رسم وهو الأثر - أقوت: خربت.
1 / 22
حسن الابتداء عند المحدثين:
انتهى ما أوردته من حسن الابتداء للعرب والمولدين وفحول الشعراء، ونبهت على حسنه وقبيحه، ولكن جذبتني يا أخا العرب نسبة المتأخرين إلى أن أثبت، في هذا المحل، تشبيهًا ونسيبها وأظهر، في شرح هذه البديعة الآهلة، بديعها وغريبها ليعلم من تنزه في هذه الحدائق الزاهرة، أن ما ربيع الآخر من ربيع الأول ببعيد، وأن لكل زمان بديعًا تمتع بلذة الجديد، وهنا بحث لطيف وهو أن الاستشهاد بكلام المولدين وغيرهم من المتأخرين ليس فيه نقص، لأن البديع أحد علوم الأدب الستة، وذلك أنك إذا نظرت في الكلام العربي، إما أن تبحث عن المعنى الذي وضع له اللفظ، وهو علم اللغة، وإما أن تبحث عن ذات اللفظ بحسب ما يعتريه، وهو علم التصريف، وإما أن تبحث عن المعنى الذي يفهم من الكلام المركب بحسب اختلاف أواخر الكلم، وهو علم العربية، وإما أن تبحث عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال بحسب الوضع اللغوي، وهو علم المعاني، وإما أن تبحث عن طرق دلالة الكلام إيضاحًا وخفاء بحسب الدلالة العقلية، وهو علم البيان، وإما أن تبحث عن وجوه تحسين الكلام، وهو علم البديع. فالعلوم الثلاثة الأول، يستشهد عليها بكلام العرب نظمًا ونثرًا، لأن المعتبر فيها ضبط ألفاظهم والعلوم الثلاثة الأخيرة يستشهد عليها بكلام العرب وغيرهم، لأنها راجعة إلى المعاني، ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم، إذا كان الرجوع إلى العقل.
وقال أبو الفتح عثمان بن جني: المولودون يستشهد بهم في المعاني، كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ. قال ابن رشيق في العمدة: الذي ذكره أبو الفتح صحيح بين لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض، فإنهم حضروا الحواضر، وتفننوا في المطاعم والملابس، وعرفوا بالعيان ما دلتهم عليه بداهة عقولهم، من فضل التشبيه ونحوه، ومن هنا يحكى عن ابن الرومي أن لائمًا لامه وقال له: لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز، وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدني شيئًا من قوله أعجز عن مثله، فأنشده في صفة الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال له ابن الرومي: زدني، فأنشده:
كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه١
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه
_________
١ الآذريون: نبات زهره أصفر أو أحمر ذهبي في وسطه خمل أسود - كاليه: مصفرّة؟
1 / 23
فقال: واغوثاه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ذاك إنما يصف ماعون١ بيته لأنه ابن الخلفاء، وأنا مشغول بالتصرف في الشعر وطلب الرزق به، أمدح هذا مرة وأهجو هذا كرة، وأعاتب هذا تارة، وأستعطف هذا طورا. انتهى كلام ابن رشيق.
ورأيت الشيخ شمس الدين بن الصائغ، رحمه الله تعالى، قد استشهد في شرح البردة، الذي سماه بالرقم، بغالب أهل عصره، في ما عرض له من أنواع البديع، حتى أورد لهم شيئًا من محاسن الزجل.
رجع إلى ما كنا فيه، من حسن الابتداء وتناسب القسمين، وإيراد ما وعدنا به من كلام المتأخرين. قال قاضي هذه الصناعة وفاضلها والمتأخر الذي لم يتقدم عليه بغير الزمان أوائلها:
زار الصباح فكيف حالك يا دجى ... قم فاستذمَّ بفرعه أو فالنجا
انظر إلى حسن هذا الابتداء، كيف جمع، مع اجتناب الحشو، بين رقة النسيب وطرق التشبيب وتناسب القسمين وغرابة المعنى. ومثله قوله يخاطب العاذل:
أخرج حديثك من سمعي فما دخلا ... لا ترم بالقول سهمًا ربما قتلا
وما أطلف ما قال بعده:
وما يخف على قلبي حديثك لي ... لا والذي خلق الإنسان والجبلا
ومثله قوله:
سمعتك والقلب لم يسمع ... فكم ذا تقول وكم لا أعي
وما ألطف ما قال بعده:
يقول وما عنده أنني ... بغير فؤاد ولا أضلع
أما مع هذا الفتى قلبه ... فقلت نعم يا فتى ما معي
وأما مطلع قصيدة ابن النبيه، فإن الأذواق السليمة تنتبه به إلى فتح هذا الباب، وهو:
يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت ... نزحتم فهي بعد الباب ما نزحت
_________
١ ماعون: اسم جامع لمنافع البيت مما جرت العادة بإعارته.
1 / 24
والقصيدة كلها تحف وطرف، وعارضها ابن نباتة، فما حلا معها مكرر نباته، وأجرى الصفي معها ينابيع فكره، فما صفا له معها مورد، وجاراها الصفدي فتصفدت١ سوابق قافية عن لحاقها، ومنها:
وروضة وجنات الورد قد خجلت ... فيها ضحى وعيون النرجس انفتحت٢
تشاجر الطير في أفنانها سحرًا ... ومالت القضب للتعنيق فاصطلحت٣
والقطر قد رش نوب الدوح حين رأى ... مجامر الزهر في أذياله نفحت٤
ومما يحسن نظامه في هذا السلك قوله:
رنا وانثنى كالسيف والصعدة السمرا ... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى٥
ومما اختاره الشيخ جمال الدين بن نباتة، ﵀، من ديوان أبي الفتوح نصر الله بن قلاقس، وهو حسن في هذا الباب، قوله:
كم مقلة للشقيق الغض رمداء ... إنسانها سابح في بحر أنداء٦
وقوله:
قفا واسألا مني زفيرا وأدمعا ... أكانا لهم إلا مصيفًا ومربعا
وهو من الغايات التي اختارها الشيخ جمال الدين بن نباتة، من شعر ابن قلاقس، فإنه قال: طالعت ديوان الأديب البارع، أبي الفتوح نصر الله بن قلاقس، فطالعت الفن الغريب وفتح علي بتأمل ألفاظه فتلوت: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ . بيد أني وجدت له حسنات تبهر العقول فضلًا وسيئات يكاد بذكرها ابن قلاقس يقلي٧. انتهى كلام الشيخ جمال الدين بن نباتة.
ومما وقع في تناسب القسمين إلى الغاية، قول الشيخ ظهير الدين بن البارزي ﵀، وهو:
_________
١ تصفدت: كُبلت بالأصفاد والقيود.
٢ وجنات: جمع مفرده وجنة وهي كرسي الخد.
٣ أفنان: جمع مفرده فنن وهو الغصن - سحرًا: أي وقت السحر قبيل الفجر.
٤ مجامر: جمع مفرده مجمرة وهي وعاء يوضع فيه البخور.
٥ رنا: نظر - انثنى: عاد ورجع - الصعدة: القناة المستوية التي لا تحتاج إلى تثقيف.
٦ الشقيق: الأزهار المعروفة بشقائق النعمان، لونها أحمر قان. والغصن: الطري - رمداء: أصابها الرمد وهو مرض يصيب العيون. إنسانها: إنسان العين: البؤبؤ.
٧ يقلي: يبغض ويُهجَر.
1 / 25