وكيف يوفق بين كون مدين ببلاد العرب على أطراف الشام، وكون موسى كلف الرسالة بجانب الطور. يجيب عن ذلك السؤال أبو الفداء فى قصص الأنبياء: «وسار بأهله» أى من عند صهره ذاهبا فيما ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم أنه اشتاق إلى أهله فقصد زيارتهم ببلاد مصر فى صورة مختف، فلما سار بأهله، ومعهم ولدان وغنم قد استفادها مدة إقامته بمدين، ومهما يكن من الأمر، فإن الله اصطفى موسى كليما له ورسولا إلى فرعون، وشعيب استنقذه من أرض مصر، مدة عشر سنين، بعد فيها عن جو فرعون المعتم، ليلقى أمر ربه بتبليغ رسالته إلى فرعون الذى طغى أن راه استغنى.
أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:
٣٦- كانت أرض العرب مأوى لأصحاب الديانات الذين فروا من الضطهاد، فاتخذوها مستقرا ومقاما، فهى أرض النبيين أصحاب الرسالات العامة، وهى أيضا مأوى الديانات التى نبتت فى غير أرض العرب عندما اضطهدوا فى ديارهم، ونزل بهم البلاء من التتار الذين جاسوا خلال ديار بنى إسرائيل ومزقوهم كل ممزق، وهم أولو البأس الذين بعثهم الله تعالى، ثم من بعد ذلك الرومان الذين ضربوا عليهم الذلة والمسكنة، وكانوا لا يعترفون لهم بحقوق الرومان، ولم يدخلوهم فى الجنسية الرومانية مع أنهم فى حكمهم وتحت سلطانهم، ورعاياهم، ولكنهم الرعايا الأدنون، وهم من فوقهم، ولذلك لم يجد كثيرون منهم مأوى يأوون إليه إلا البلاد العربية التى كانت حصن الذين يفرون بدينهم، ولا يجدون ملجأ إلا أرض النبيين الأولين التى لم يتغلب عليها.
وقد وجدوا الملاذ ابتداء فى أرض اليمن فاستظلوا بظل قوم تبع، ومع أنهم كانوا وثنيين وجدوا فى حكمهم ظلا ظليلا، استظلوا به، وأخذوا حريتهم فيه، وقد اعتنق اليهودية بعض اليمنيين، ولكن اليهود لا يعتبرون اليهودية دينا فيه إصلاح البشر وصلاحه، ولكنهم يعتبرونه جنسية، ويقولون مقالهم المزعوم الفاسد، نحن أبناء الله وأحباؤه، ولذلك لم يضموا اليمنيين الذين دخلوا فى اليهودية إليهم، ولم يضعوهم فى جماعتهم، ويسمونهم السامرة، ولقد عاشروا الأوس والخزرج فى موطنهم الأصلى باليمن.
ولما هاجر أولئك الوثنيون إلى يثرب حيث الجناب الخصيب، وحيث المنجع المريع، هاجر اليهود أيضا، إلى ما حول يثرب فهاجر بنو النضير وبنو قريظة، وبنو قينقاع، وخيبر.
ولم يندمجوا فى الشعب العربى، بل اتخذوا حصونا تحتويهم حيثما أقاموا، وانتجعوا الخصيب من الأرض، فكان لهم النخيل والتمر فى يثرب، امتلكه الذين أقاموا فيها من بنى قينقاع والنضير، وقريظة.
وامتلك أهل خيبر مثلها.
وكانوا كشأنهم أثرين يحبون أنفسهم. ولا يتعاونون مع أهل البلاد، فكانوا لا يتعاملون مع العرب، وإن تعاملوا معهم بخسوهم وخانوهم عهودهم، كما قال تعالي: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ
1 / 39