الجزء الأول
نشأته- شبابه- بعثته مصابرته المشركين اتصاله بالقبائل هجرته ﷺ
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
محمد رسول الله وخاتم النبيين
لله الحمد على ما أنعم، وله الفضل فيما أكرم، إذ أكمل الدين، وأتم الرسالة الإلهية، بإرسال محمد ﷺ بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، فأكمل الهداية، وأبلغ الغاية، وكشف المحجة، وبين الجادة، ورفع راية الاسلام القوى العزيز، المكين، وحمل الحواريون من أصحابه ما حملهم الله، فقاموا بواجب التبليغ، وأدوا الأمانة التى حملوها، فكانوا منارا مقتبسا من نوره، فرضى عنهم، ورحم الإنسانية بما اقتبسوا من معانى الرسالة المحمدية.
يا رسول الله:
إن الله خلقك بشرا سويا، ولكنك فوق سائر البشر، واثارك التى حملتها الأجيال من بعدك فوق القدر، ونحن معشر المتبعين لك إن كان فينا شرف هذا الاتباع إنما ندرك بالتصوير أمثالنا. فمن خواطرنا ومنازع نفوسنا نتعرف نفوس غيرنا، ونحكم على أحوالهم، وإن حاولنا أن ندرك من هو أعلى منا، فإنه يجب أن يكون علوه على مرأى أنظارنا، وفى مطالع افاقنا، فعندئذ نحاول وقد نصل، ولكنك يا رسول الله فى علو لا نصل إليه، وفى سماك لا نراه، وليس منا من يضاهئك حتى نتمثله ونتخيله، فأنّى لأمثالنا أن يكتب فى شأنك، وأن يعلو إلى شأوك، إن ذلك أمر فوق المنال، ويعلو على مدارك الخيال.
ومن أجل هذا نضرع إلى الله أن ينالنا بغفرانه، إن تسامينا محاولين الوصول إلى الكتابة فيك، فالمعذرة قائمة، والقصور ثابت، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
يا رسول الله:
قد كتبنا فى أئمة أعلام، قد قبسوا من نورك قبسة أو قبسات، أدركنا نورهم، ووفقنا الله تعالى إلى ما نحسب أننا وصلنا فيه إلى ما يفيد، وبمقدار ما قبسوا كنا ندرك ما به شرفوا، وما به أصابوا. واهتدوا.
فلما جئنا إلى ساحتك. وحاولنا أن ندخل إليها، غمرنا النور، وكف أبصارنا الضوء المنير، فأنّى ندرك، وأنّى نرى، وقد صرنا كذى رمد غمره ضوء الشمس، أما ما هو أعلى، فأصابتنا الحيرة، ولا هادى لنا يخرجنا منها، إلا أن تكون الهداية من الله تعالى كما أمر إذ قال سبحانه: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ «١» فليس لنا إلا أن نلجأ إليه ضارعين أن يهدينا لتصوير شخصك الطاهر المطهر، أو لتقريبه إذا كان التصوير فوق طاقتنا، وأعلى من أن نصل إليه، فإن التقريب يحل عند العجز محل التسديد، والعجز مغفور، والقاصر معذور، والله عفو غفور.
_________
(١) سورة ال عمران: ٧٣.
1 / 5
يا رسول الله:
إننا نكتب فى العظماء لنصور نواحى عظمتهم، ولكل عظيم ناحية واحدة من نواحى العظمة، فالاتجاه إلى تلك الناحية هو مفتاح عظمته، فتسهل معرفته، ولكنك يا رسول الله فوق عظمة الأشخاص، لأن وجوه عظمتك تعددت، حتى يعجز المحصى عن الإحصاء، والمستقرئ عن الاستقراء، وإذا نفدت الطاقة أقر مطمئنا بعجزه، ومؤمنا بأن وجودك فى هذا الوجود معجزة البشر، فإذا كنت من البشر، ولست فى كونك إلا بشرا، فلست إلها، ولست ملكا من الملائكة، فإنك فى مقام أعلى من سائر البشر ومن الملائكة، صانك ربك، وحفظك ورباك على عينه، حتى كنت وحيدا بين الغلمان، بما كلأك الله به وحماك، وصبيا فريدا بين الصبيان، وكنت الشاب الأمين عن رجس الجاهلية بين الشباب، فكل شىء فى حياتك الأولى كان من الخوارق التى علت عن الأسباب والمسببات، فلم تكن أثر تربية موجهة، ولا أثر بيئة حاملة، ولا أثر شرف رفيع، وإن كان محققا، ولكنك كنت صنيع الله، فكنت معجزة بشخصك وكونك ووجودك، فيك البشرية، وفيك المعجزة الإلهية اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «١» .
يا رسول الله يا خير البشر:
كنت ذا الخلق القويم، والسياسى الحكيم، والقائد العظيم، والحاكم الرفيق، والمربى لأمتك بالشورى، والوحى ينزل إليك، وكنت الرؤف بأمتك، والمحارب الرحيم، وحامل لواء السلام فى مرحمة النبى، وعزة القوى، أنشأت جماعة مؤمنة ابتدأت بها بذرا صالحا، وأخذ ينمو فى بيئتك الطاهرة، مختفيا فى خلايا الإيمان، حتى أخرج شطأه، فظهر متعرضا لمقاومة الحدثان، قويا فى تكوينه حتى استغلظ واستوى على سوقه، وصار قوة الحق فى الأرض، وكنت كما قال الله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ، وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ «٢» وكل ذلك بتوجيه ربك، وإلهام نفسك، وعلو فكرك، وقوة قلبك، فمن أى ناحية يدرس حياتك الدارس، وقد كان كل شىء فيك قويا عظيما، كما قال فيك ربك، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «٣» .
اللهم ربى، ولا خالق سواك، ولا إله غيرك.. وليس كمثلك شىء، وأنت السميع البصير، خلقت محمدا من البشر، وجعلته سيد البشر، وأرسلته رحمة للعالمين، وإذا كان وجوده وما أحاط به خارقا للأسباب والمسببات فقد أرسلته بمعجزة لا تزال تتحدى الخليقة إلى يوم الدين.
_________
(١) سورة الأنعام: ١٢٤.
(٢) سورة الفتح: ٢٩.
(٣) سورة القلم: ٤.
1 / 6
ربى العظيم:
لقد تطاولت فاعتزمت أن أكتب فى سيرة نبيك وخاتم أنبيائك محمد ﷺ، فاغفر لى يا رب ذلك التطاول، إنك أنت الغفور الرحيم، وأمدنى بعونك وتوفيقك فى هذا المقام الذى يعلو عن طاقتى، وتعجز فيه قدرتى إن لم يكن منك العون.
رب لا تخزنى، فإنه لا قدرة لى إلا بتوفيقك، ولك الفضل، والمن، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ «١» .
وإنى قد اتجهت إلى القصد فى القول. فمهما يكن الإطناب، فإنه لا يصل إلى الغاية ولا يبلغ الشأو. ولذلك اجتهدنا فيما هو تحت سلطان قدرتنا، ومع ذلك استطال بنا القول، وإن لم ندرك النهاية، فهى فوق قدرة عاجر مثلى، ولقد قسمت الكتاب إلى ثلاثة أجزاء:
أولها- ذكر حياة النبى ﷺ من ولادته التى حاطتها الخوارق، وحياته التى كانت كلها إرهاصات بالنبوة، حتى بعثه الله تعالى بشرا رسولا، وأوذى هو وحواريوه فى الله، وصبر وصابر، حتى كانت الهجرة التى أنشئت بها مدينة الإسلام، ودولة الإيمان.
والثانى- فى جهاده، وقمع الشرك، وفتح الطريق للدعوة المحمدية، وإزالة المحاجزات من طغيان الظالمين، وفتنة المؤمنين، حتى تسير الدعوة فى طريقها من غير عوج، وفى طريق معبد لا يحاجزه الشر، ولا يدعثره الإيذاء. وإن هذا الجزء ينتهى بصلح الحديبية، حيث يئس الشرك من أن ينال من أهل الإيمان، وعجز عن أن يغزو المؤمنين، وصارت الكلمة العليا فى الجزيرة العربية للإيمان، وسارت الدعوة فى كل مسار.
والجزء الثالث من بعد الحديبية، وفيه تجرد النبى ﷺ لليهود الذين كانوا شوكة فى جنب العرب، وأخذ الإسلام يعم جزيرة العرب، ويخرج إلى أقطار الأرض، فكانت مؤتة، وكان الفتح العظيم الذى يئس فيه الشيطان أن يعبد فى هذه الأرض، وأخذ الإسلام يغزو ما حول العرب بكتب النبى ورسله، والسرايا يبثها، وبالخروج إلى الروم الذين قتلوا المؤمنين من أهل الشام فى أرضهم، فكان لابد من تأمين الدعوة، وإزالة الفتنة، وهذا الجزء ينتهى برحلة النبى ﷺ من هذه الدنيا بروحه إلى السموات العلا.
اللهم انفعنا بهديه، واهدنا سبله، إنك تهدى من تشاء، وإنك على كل شىء قدير.
محمد أبو زهرة
_________
(١) سورة هود: ٨٨.
1 / 7
[تمهيد]
الاضطراب الفكرى:
١- فى القرن الخامس الميلادى وما يليه، كان العالم الإنسانى يموج بالشر، وتضطرب النفوس، واستحكمت الأهواء، وتفرق بنو الإنسان، حتى صار القانون السائد المسيطر، الحق هو القوة، والقوة هى الحق، فشاهت الأفكار، وتقطعت الأسباب. وصار ابن ادم ينقض ما أبرمته الفطرة، ويحل الرابطة الإنسانية الجامعة، وعجز العقل عن أن يحكم بين الناس، بل إنه اتخذ العقل مطية لتبرير الباطل، وتزييف الحق، والعبث بالميراث الإنسانى للنبيين من بعد إبراهيم وموسى وعيسى، وشوهت المفاسد تعاليم موسى وعيسى، وغيرهم من الأنبياء المرسلين، فالنصارى قد استسلموا لحكم الأباطرة وزكوه، بل أيدوه، وتفرقوا، وصار بأسهم بينهم شديدا، وأغرى الله ﷾ بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
فالملكانيون تحكموا فى اليعقوبيين، حتى نفروا منهم. واليهود شوهوا تعاليم موسى ﵇ فضربت عليهم الذلة والمسكنة، وصاروا مع فساد قلوبهم، لا وجود لهم إلا بمعونة قوى يريد أن يكون غالبا لهم ولغيرهم، وتسربلوا سربال العداوة لبنى الإنسان جميعا، إذ يعطون لأنفسهم من الصفات العقلية، والمزايا الدينية ما ليس فيهم وينكرونه فى غيرهم، حتى زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وزعموا لغيرهم المنزلة الدون، وكانوا يقولون عن العرب الذين نكبوا بمعاشرتهم.. لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.. «١»، فهم يأخذون منهم بالحق والباطل، ولا يعطونهم شيئا لأنه لا سبيل لهم بحق، ولا بغيره.
٢- وكان الأقربون والأبعدون، والقاصون والدانون فى اضطراب فكرى، وعجز العقل البشرى عن أن يحل مشاكل هذا الوجود. فتاه العقل فى معرفة أصل الوجود، ولم تستطع الفلسفة الأيونية أن تحل مشكلة أصل الوجود، ولا أن تصل إلى منشئه، مما أثبت أن العقل مهما يؤت لا يستطع أن يفسر سر الظواهر، فهو يعرف مظاهر الأشياء، ولا يعرف الأسرار المستكنة الباعثة، يعرف مظاهر الحرارة والكهرباء ولا يمكن أن يعرف ما يحركها، إلا إذا اتجه إلى معرفة المؤثر من الأثر، والمنشىء مما أنشأ. ولكنه- وقد غمر بالمحسوسات، ومظاهر القوى، دون أن يعرف مصدرها، عمى عن الأصل وشغل بالفرع، فتاه فى هذه السماء، وصار فى عمياء، لا يعرف المبتدأ وإن عرف مظاهره.
ومع ظهور الأديان السماوية، واختتامها بالإسلام لا يزال العقل، وهو مأسور بما يحس، لا يعرف ماوراء المحسوس، وكل ما تراه من سيطرة العقل ونفاذه لا يتجاوز المظاهر واستخدامها، وهو يجهل باعثها، ولا يعرف منشئها إلا إذا كان ينفذ من المظهر إلى المنشئ المكون.
_________
(١) ال عمران: ٧٥.
1 / 9