وهى عقوبات متتالية، أرهقتهم الذلة، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، حتى فروا من أماكنهم، فجاءتهم الغمامة فرجوا أن يستظلوا بها، أو أن يجدوا فيها الرحمة، فكانت الصيحة العنيفة وكانت الرجفة التى أصابتهم.
وقد قال فى ذلك ابن كثير: جمع الله تعالى عليهم أنواعا من العقوبات وصنوفا من المثلات، وأشكالا من البليات، وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات. سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عنيفة أخمدت الأصوات، وظلة أرسل منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات.
الكلمة الثانية أن أهل مدين امتازوا من بين عبدة الأوثان بأنهم جمعوا مع عبادة الشجرة فساد الأخلاق وسوء المعاملات بعضهم مع بعض، كانوا يطففون فى الكيل والميزان، وكانوا قطاع طريق، يقطعون السبيل ويخيفون المارة، يأخذون الفائدة الزائدة، ويدفعون الناقص، فإن استدانوا نقصوا من الدين، فكانوا بذلك أشد فسادا، ولذلك كان نهى نبيهم لهم عن الفساد، فقال لهم: ولا تعثوا فى الأرض مفسدين، فلا يفسد الجماعات إلا التعامل الفاسد، وهو مبيد جمعها، لقد كانوا قليلا، فكثرهم الله، ولكنهم أضعفوا نخوتهم، وأماتوا عزتهم، فانصرفوا إلى الفساد.
ولقد كان أوضح ما دعاهم إليه شعيب ﵇ هو الوفاء والمعاملة الطيبة، والتعاون على البر والوفاء بالحقوق، بدل التعاون على الإثم.
وكان شعيب فصيح العبارة، قوى البيان والتأثير، حتى لقد روى فى بعض الاثار أنه خطيب الأنبياء، ومدين من بلاد العرب على أطراف الشام، جاء فى قصص الأنبياء لأبى الفداء فى أرض مدين ما نصه:
«كان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم التى هى قريبة من أرض معان من أطراف الشام مما يلى ناحية الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدهم بمدة قريبة، ومدين قبيلة عرفت بهم، وهم من بنى مدين بن مديان» «١» .
موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:
٣٥- لقد نشأ موسى بمصر حيث ولد بها، وتربى فى دار فرعون، وترعرع فى هذا، وكان فى رعاية الله، لا فى رعاية فرعون، إذ كان يتوجس منه خيفة، ولكن صنعه الله تعالى على عينه، فحماه وأعطاه ﷾ النبوة، فكان كليم الله تعالي.
_________
(١) قصص الأنبياء ص ٢٧٥ ج ١
1 / 37