فمزقت جهان مذكرتها، وكتبت إليه عجالة أخرى، وقد كانت تخشى قدومه إليها قبل أن يعود أبوها، وهي تأبى أن يشاهد ما هي فيه من الذل والغم؛ ولهذا اقتضبت العجالة بما يأتي: لا تزعج نفسك بالقدوم؛ فإني ذاهبة لمقابلة الجنرال فون والنستين في منزله، وسأراك بعدئذ، وفي أية حالة من الأحوال لا تبرح منزلك قبل الظهر.
ثم كتبت مذكرة إلى الجنرال، وأخرى إلى وزير الحربية ملتمسة من كليهما السماح لشكري بك أن يبقى يوما آخر إلى أن تتمكن من مقابلتهما بعد الظهر، وقد بعثت بالمذكرتين مع سليم عبدها الأمين، ونحو الساعة العاشرة عندما دنت الجارية من الباب لتنبهها أن كاتم الأسرار الخصوصي في وزارة الحربية يرغب في مخاطبتها بالتليفون كان أبوها لم يزل خارجا.
فقالت لجاريتها: قولي له يا زليقة، إنني في الحمام، وأصغ جيدا لما يكون جوابه.
وللحال عادت زليقة، وقالت لها: إن سعادته يتأسف جدا أنه ليس في إمكانه قضاء الحاجة التي سألته قضاءها.
وعاد سليم بعد هنيهة، وبيده جواب من الجنرال فون والنستين، وبه يعد جهان «الحسناء البارعة» بأن سيخاطب في الحال وزير الحربية بالتليفون، ويطلب إليه أن يقضي ملتمسها، فتنفست جهان الصعداء وهي تشكر الله، وقد عرفت عندئذ معنى كلام وزير الحربية، وأيقنت أن كلمة فون والنستين شرع في القسطنطينية فإنه ذو السلطة العليا، والحكم الحاكم النافذ حتى إن البادشاه ذاته كان يستشيره قبل إصدار إرادة سنية؛ ولهذا لم يكن لها أدنى شك في أن ستجاب طلبتها.
الفصل الرابع
فلما خرج شيطان الوساوس معنا إذا طلبنا النزهة فرارا منه، وإذا فعل بعد أن يكون قد نال منا مراده فلا يعتم أن ينفصل عنا إذا ثابرنا في الطريق ماشين، وإننا في ابتغائنا البعد منه، ومن أنفسنا المشتعلة غيظا إنما نبتغي في الحقيقة ملاشات هاجس مزعج، أو فكرة منكرة، عاملين بها السياط كأنها أتان منهوكة، وإن هي إلا أتان الشيطان نمتطيها رواحا، فنقتلها ونعود على الأقدام مستبشرين راضين، تصحبنا رفيقة صالحة أمينة يدعوها الناس «الحكمة».
عاد رضا باشا إلى منزله مرددا المثل المأثور: «العجلة من الشيطان»؛ لأن نزهة الصباح أثمرت خيرا في نفسه، فسرت عنه قليلا، وأعادت إليه عطفه الوالدي، ورأفته المعهودة، ولما فتح الباب على جهان كانت نار غلوائه قد همدت تماما، ومع أن ما بدر منه مساء البارح لا يستوجب الندم في حال غير الحال الحاضرة، فأشفق أن يدفع بابنته جهان إلى تطرف في تصرفها فتفسد عليه أقصى أمانيه، كيف لا وقد وطن النفس أن ينقل من الأستانة إلى قونية العاصمة العثمانية القديمة حيث يود أن يقضي آخر أيام حياته بسلام الله ورضائه، مصطحبا ابنته وصهره المقبل شكري بك؛ ولذلك رأى أن يداري جهان، ويطيب خاطرها.
كانت جهان جالسة على مقعد قرب منضدتها، ورأسها مطأطئ على صدرها، وقد شبكت يديها حول ركبتها، مطرقة مفكرة، ولما دخل أبوها وتقدم نحوها وهي على هذه الصورة، دافعا إليها المفتاح، ولكنها لم تتحرك ولم ترفع نظرها إليه، فجلس بالرغم من ذلك على كرسي بجانبها، وأخذ يدها بيده قائلا: جهان - عزيزتي - تأسفت كثيرا لما حدث، وعسى أن لا يعود مثله، ولن يعود إن شاء الله.
ثم تصدر أمامها وقال: تطلعي إلي الآن، وقولي لي: أبين البنات حتى القرويات منهن من تخاطب أباها كما خاطبتني ليلة أمس؟ ألا ينتظر منك وأنت السيدة المهذبة ذات المواهب السامية أن ترعي البر، وتقيمي على الطاعة البنوية التي هي من مزايا عنصرنا الخاصة، ومن أقدس تقاليدنا؟ وماذا يقولون عنك الذين يقرءون كتاباتك في الجرائد، والذين يسمعون خطاباتك، والذين ينظرون إليك كحاملة نبراس النور والمعرفة إذا أخبرتهم اليوم أن جهان تعصي أوامر أبيها، وتستخف بكلامه، وتقاوم رغائبه، بل هي لا تحترمه ولا تحبه، حتى إنها لا توجد من نفسها رادعا عن أن تسمعه المهين من الكلام.
Unknown page