فالتفتت نحوه جهان وعيناها مغرورقتان بالدموع: «ليس هذا بصحيح يا أبي، معاذ الله أن أكون عقوقة.» - ولكنك يا حبيبتي جهان لم تعودي تكترثين بأوامري كالسابق، بل تتنحين عني، ولا تستنصحينني أو تستشيرينني بما تفعلين، ولم تعودي على الأقل تقرئين أمامي ما تكتبين. - ذلك لأنك لم تكن قاسيا جائرا كما أنت اليوم، واعذرني إذا قلت إنك مقاوم آرائي ومقاصدي اليوم على غير عادة منك في الماضي. - أفلا ترين أن الجواسيس ملئوا المدينة - ألمان وأتراك - حتى أصبح المرء مسالما كان أو مشاغبا لا يستطيع أن يعيش بطمأنينة، وليس من الناس من يأمن على حياته في هذه الأيام، أفيحسن منك - والحالة هذه - أن تتدخلي بالشئون السياسية وأنت ابنة رضا باشا، أو يليق بشرف محتدك ومقامك أن تترددي إلى الباب العالي، وإلى النوادي، والنزل في بارا؟ أيجوز أن تذهبي لمقابلة الجنرال فون والنستين؟ أوتظنين أن المرأة الأوروبية تستحسن مثل هذا التصرف منك؟ - ذهبت مرة واحدة لقضاء شغل يتعلق بالمستشفى. - كان حريا بك أن تكتبي إليه عن ذلك. - ولكنه أمر مهم ضروري، ولم يكن لي منفسح من الوقت. - إذن كان عليك أن تبعثي رسولا.
فتململت جهان، وانتقلت من كرسيها إلى الديوان، وقالت: بدرم لماذا تعذبني ثانية بشأن هذا الرجل؟ - لا أكتمك أني أكرهه، وأوجس شرا من تردده إلى منزلنا، وأعيد عليك ما قلته الليلة البارحة: «إن ما تذيعه الصحافة عنك وعنه عار لاسمي»، لم أبحث معك قبلا بمحالفتنا مع ألمانيا، تلك المحالفة التي لا أزال أعتقد أنها جريمة على أمتنا، بل جريمة على الإسلام والمسلمين قاطبة، فلك ما ترتأينه في هذا الموضوع، ولكني أضطر أن أعيد ما قلت البارح، إن محالفة بيتية مع ألماني لضرب من المستحيل، ولا مراء أنك توافقينني على الأقل بأنها مجردة من كل حكمة، ولا تظني أني أقاومها لأسباب دينية، كلا فلست من رجال الدين، ولا من رجال الفقه، ولكني لا أريدها لأسباب حسية وعقلية، أنت يا جهان عاقلة حكيمة، ذات رأي أصيل، فماذا تقولين في هذا الرجل؟ إنه اليوم الحاكم بأمره في الأستانة، ينبغي أن نتقرب منه، أليس غريبا هو عن حياتنا وعاداتنا، ولغتنا وأخلاقنا، وديانتنا وتقاليدنا؟ وعدا هذا فهو أرمل، وعمره ضعف عمرك. - بدرم، أوافقك على كل ما ذكرت، ولكن ...
قالت هذا واستسلمت للتأمل. - ولكن ماذا؟ - لا أدري، بدرم، فإني لا أجد كلمة تعبر عن عواطفي، والحق أني لا أفهم عواطفي. - لا يليق بك مثل هذا العذر، أفصحي عما يجول في خاطرك، ولا تخفي شيئا عني. - أخاف أن تزدري بي. - معاذ الله، أنت امرأة حصيفة ولا أرى ما يدعوك إلى الخوف من توقع الازدراء. - حسن، مساء اليوم الذي به قابلت هذا الرجل لأول مرة تراءت لي رؤيا، ليست حلما، بل رؤيا، وكنت إذ ذاك جالسة وراء منضدتي أترجم نيتشى، فأسدل سجل على عيني فجأة، وأصبح عقلي كخلية النحل غليانا، وابتدأت أرى نقطا صفراء تتراقص أمامي على صفحات الكتاب، فسقط القلم من يدي، ورأيت هذه الغرفة تدريجا تمتلئ ... ولكن ما الفائدة؟ تهز رأسك قائلا: إنها أضغاث أحلام.
فأجاب الباشا وعلى وجهه أمائر الرغبة باستماع الحديث: أنا مصغ تمام الإصغاء، كملي حديثك. - خيل لي في هذه الغرفة شبح امراة كأنها والدتي، وقد شاهدت الشبح جليا، ثم ابتدأ يتضاعف عدده، وتتكاثر الأشباح كلما حدقت بها بصري حتى رأيت أمامي مئات من النساء مرتديات أردية سوداء راسفات بالسلاسل والقيود، وعيون الكل منصوبة نحوي ملؤها استرحام كأنهن يرغبن بمخاطبتي بإبلاغي حقيقة هائلة، بالتماس عمل ذي شأن، وقد أرسلن إلى مسمعي هذه الكلمات «إما تضحية أو انتقاما»، وهي كلمات لفظها صوت طالما اعتادت أذناي استماعه، كأنه صوت أمي. انظر، فقد كتبت الكلمات كما سمعتها.
أما أبوها، فكان يلهو بسبحته ليهدئ ثائر أفكاره، وبعد أن شزر الوريقة التي أرته إياها سألها قائلا: ما فحوى هذا؟ - اعلم أن ذاك الصوت إنما هو صوت الأم، أم عنصرنا، أم ألوف من الأجيال أم ماضينا، هو صوت يدعوني إلى المفاداة في سبيل أم مستقبلنا، وهو عمل خطير لا بد أن تتمه إحدى نسائنا إن لم يكن أنا فغيري «إما تضحية وإما انتقاما»، هذا تفسيري تلك الرؤيا التي ما تراءت لي إلا وشعرت أن شيئا فائق القوى الطبيعية يقودني نحو هذا الرجل، ولقد كذبتك إذ قلت إني ذهبت لمقابلته مرة واحدة فقد زرته في منزله ثلاث مرات منذ آخر زيارته لنا. - أأنت ذهبت إلى منزله؟ جهان ابنتي؟ - نعم ذهبت ولكن زياراتي كانت لشئون تتعلق بالأمة.
لعبت النار في عين رضا باشا، ولكنه جمع من نفسه قوة لتسكين جيشانه، ثم سألها: أوتحبينه حقيقة؟ - كلا. - أوتقصدين إذن أن تقترني به لسبب من الأسباب؟ - كلا. - إذن؟ - بدرم، أناشدك الله ألا تسألني سؤالا آخر عن هذا الأمر، فإني لا أستطيع، لا أستطيع أن أجيب، لا أدري كيف أجيب ...
فصاح بها وفي صوته غصة وارتعاش: جهان ابنتي؟ والله لقد صدقت ظنوني، صدقت والله ظنوني. قال هذا ونزع عنه طربوشه ليمسح العرق عن جبينه.
عندئذ تقدمت إليه جهان فجثت حياله باكية، وكلمته بصوت مضطرب: كلا، كلا، يا أبتاه ليس الأمر ما ظننت، أقسم لك بالله وبالنبي إن الأمر ليس كما ظننت، لقد أسأت فهمي، فصدقني إن حقيقة الحال ليست كما تتوهم، أجهان ابنة رضا باشا، أواه! تقسو بي بدرم إلى هذا الحد بالظنون الباطلة؟ - إذن ما معنى كتابتك السرية إليه الليلة البارحة؟ - أوظننتها للجنرال فون والنستين؟ - إذن لمن؟ - لشكري.
تنفس الأب الصعداء، واستبشرت الابنة بشيء من الفرج، وكلاهما وقف عند هذا الحد من الحديث لاجئا إلى السكوت كما يلجأ الإنسان إلى مخبأ من العاصفة؟ وظلا كذلك برهة، ثم قال الأب: ولم المكاتبة السرية مع شكري، وعلى الأخص في ساعة كهذه؟ - لأنه تلقى أمرا عسكريا بأن يسرع إلى ساحة الحرب، وموعد ذلك اليوم بعد الظهر.
ما سمع الباشا هذا الخبر إلا وانتصب على قدميه ثانية قابضا على لحيته بيده المرتجفة، وشرار السخط والغضب تبرق في عينيه. - ولكني كتبت إليه أن لا يبرح قبل أن يراني، وهو ذا مذكرته التي استلمتها منه باكرا في هذا الصباح. - قسما بالله ونبيه، لن يسير شكري بك إلى ميدان القتال، لقد وهبت الأمة ثلاثة أبناء، وهو ذا رابعهم أيضا في ساحات الوغى، وقد لا يعود لي حيا، وقد لا أراه مرة أخرى، وقد كان باستطاعتي أن أوقد شرار ثورة تقضي على الألمان، أو تقصيهم بيوم واحد عن الأستانة، لقد طفح الكيل، ولم يعد ضباطنا يحتملون غطرسة الألمان وتفوقهم، لم يعد بإمكانهم أن يذعنوا لأوامرهم الوحشية، أما أنا فقد أخلدت إلى السكينة لا لأجلهم، بل لأجل سيدي ومولاي البادشاه الذي لا أحني هامي مطيعا لسواه، وإني ذاهب في الحال لأسعى بمقابلة جلالته ... شكري بك لن يسير إلى ساحة الحرب ليخدم هواء ظالم أجنبي. - ولكني كتبت إليه. - إلى من؟ - إلى الرجل الذي ذكرته الآن، وقد وعدني أن يلغي هذا الأمر أو أن يؤجله. - كان ينبغي لك أن تستشيريني قبل أن تفعلي ذلك، فإن كتابتك إليه في هذا الأمر لا تأتي بفائدة ما؛ فهو إذا تباطأ في استكشافه حقيقة ما بينك وبين شكري لا يتباطأ في اتخاذ الوسائط التي تفسد عليك مساعيك، وسيرسل شكري إلى ساحة الحرب، وربما كان إلى حتفه، موقنا أن في ذلك ينال منا مراده، ألا إنه لمخطئ، فشكري لن يذهب إلى ساحة الحرب حتى وإن حكم عرفيا لعصيانه، وأنت ستتزوجين منه غدا، لا بل اليوم، اليوم. - أتزوج منه، ثم يرسل إلى قبره أليس كذلك؟ - قلت لك لن يذهب إلى ساحة الحرب.
Unknown page