229

منطق القوة فوق الحق!

اقرءوا معي هذا الخبر الذي نشرته الصحف دون أن يعلق عليه أحد:

قتل موظف ابنته عمرها 17 عاما؛ لأن أحد أقاربه عنده 57 عاما استدرجها داخل الحقول واعتدى عليها مستغلا صغر عمرها وضعف بنيانها، ماذا نتوقع من محكمة عادلة؟ لكن العدل يغيب أمام القوة، تقف المحكمة مع الأب القاتل تتعاطف معه، تقول إنه فقد وعيه لحظة دفاعه عن شرفه! هكذا ضاع حق البنت المقتولة ظلما وغدرا، لكن هذه المحكمة ذاتها تحكم بالأشغال الشاقة عشر سنوات على أم صغيرة عمرها 18 عاما قتلت مولودها، الذي أنجبته من رجل أخذها عنوة، خدعها بالزواج ثم هرب، وهي فتاة صغيرة فقيرة ليس لها أحد، من شدة حبها لمولودها وخوفها عليه من قسوة المجتمع حوطته بذراعيها حتى مات في حضنها وهي تبكي، لم تتعاطف المحكمة مع الأم الصغيرة الضحية كما تعاطفت مع الأب الكبير الأقوى، وقالت المحكمة إن الأم التي تقتل طفلها امرأة تجردت من العواطف الإنسانية، لماذا لم تقل المحكمة هذا الكلام عن الأب الذي قتل ابنته؟ صورت المحكمة هذا الأب القاتل على أنه ضعيف وفاقد الوعي في لحظة القتل! أما الأم الفتاة الصغيرة الضحية فهي ليست ضعيفة، ولا يجوز لها أن تفقد الوعي مثل الرجل الكبير! كأنما الرجل هو الجنس الضعيف اللطيف الذي يستحق الرحمة، وليس المرأة أو الفتاة الصغيرة، أي قلب الأوضاع!

لم ينطق أحد مدافعا عن حق هذه الفتاة الصغيرة التي حكم عليها بالسجن مع الأشغال الشاقة عشر سنوات، ولم ينطق أحد دفاعا عن الابنة الصغيرة التي أهدر دمها، وكم من حوادث من هذا النوع تهدر فيها دماء البنات الصغار ظلما وغدرا دون أن يعترض أحد داخل البرلمان أو خارجه من المدافعين عن حقوق الإنسان.

أليس دم هؤلاء البنات الأطفال مقدسا وثمينا مثل دم الأطفال في فلسطين؟ أليس دم البنت الطفلة المقتولة بيد أبيها مثل دم الطفل المقتول بيد إسرائيل؟ لقد غضبنا عن حق لمقتل الطفل الفلسطيني، فلماذا لم نغضب أيضا لمقتل البنت المصرية؟ هل لأنها تعيش في قرية فقيرة مجهولة؟ هل لأن صورتها لم تظهر في الصحف أو على شاشة السي إن إن؟

في طفولتي سمعت أبي يقول: احترمت نفسي حين خيرتها بين السهل والصعب فاختارت الصعب، ربما لهذا السبب لا أنظر بإعجاب كبير لهؤلاء الذين يركبون الموجة، وإذا كان الجميع على رءوسهم الحكومات قد بكوا ولطموا الخدود حزنا على إهدار دم الطفل محمد الدرة، فلماذا لم يذرف أحد دمعة واحدة على هذه الطفلة المقتولة وغيرها من البنات الصغيرات المقتولات؟ بالطبع كان البكاء الجماعي سهلا وميسورا لا يعاقب عليه أحد، ومن السهل البكاء في الصباح ثم السهر في الليل مع الوزراء وأصحاب السياسة التي أدت إلى إهدار دم الطفل الفلسطيني البريء.

نشهد هذا التناقض في حياتنا كل يوم، ينتابني الغثيان وأنا أشهد الصراع الدامي حول السلطة تحت اسم النيابة عن الشعب، أصبح البرلمان هو المكان، والانتخابات هي الوسيلة، ويكيل المرشحون الوعود للفقراء والمعدمين، يعبئون لهم الوهم في الزجاجات، من أجل المقعد تحت القبة ألا تتكرر هذه الحمى في مواسم الانتخابات مثل مواسم الدودة والكوليرا والحمى الصفرا؟ وهل تحقق وعد واحد من هذه الوعود؟

المسرحية تتكرر ربما يتغير الممثلون والممثلات، إلا أن المسرحية هي هي، والوعود هي هي، القضاء على الفقر والبطالة، ويظل الفقر بل يزداد ضراوة، والبطالة تزيد عاما وراء عام، ألم تسمعوا عن الشباب المصري الذين يسافرون إلى إسرائيل بحثا عن عمل؟ ألم تسمعوا عن أم قتلت طفلها لتحميه من الجوع أو الفضيحة، فإذا تعاقب بالسجن مع الأشغال الشاقة؟

هل دافع عضو واحد أو عضوة واحدة في البرلمان عن هذا القطاع من الأمهات المقتولات، أو البنات البريئات اللائي يهدر دمهن وهن الضحايا؟ هل أدخلهن أحد المرشحين أو إحدى المرشحات ضمن برنامج الدفاع عن حقوق الشعب؟ ألا يدخل هذا القطاع المتزايد العدد على الدوام ضمن قطاعات الشعب؟

لا يمكن، فهذا هو الطريق الصعب الذي يدفع فيه الإنسان ثمنا باهظا، وليس الطريق السهل الذي يمشي فيه الجميع، ليس الكورس الذي يشارك في المسرحية المعروضة بتصريح، والذي ينتهي دوره بإنزال الستار والحصول على الأجر.

Unknown page