وأمي من لم ينخل له طعام، ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله عز وجل.
انظر هداك الله وإيانا إلى شدة زهده وقناعته، فإن إيراده الحديث وقوله (عليه السلام) من منع نفسه من طعام يشتهيه دليل على رضاه بطعامه وكونه عنده طعاما مشتهى يرغب فيه من يراه. وما ذاك لأنه (عليه السلام) لا يهتدى إلى الأطعمة المتخيرة والألوان المعجبة، ولكنه اقتدى برسول الله، ووطن نفسه الشريفة على الصبر على جشوبة المأكل وخشونة الملبس، رجاء ما عند الله وتأسيا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصار ذلك له ملكة وطبيعة، ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.
ومنه- وفيه دليل على ما قلته-
عن عدي بن ثابت قال: أتي علي بن أبي طالب (عليه السلام) بفالوذج فأبي أن يأكل منه وقال: شيء لم يأكل منه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أحب أن آكل منه.
ومنه عن أبي مطر قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي، ارفع إزارك فإنه أتقى لثوبك وأبقى لك، وخذ من رأسك إن كنت مسلما، فمشيت خلفه وهو مؤتزر بإزار ومرتد برداء ومعه الدرة كأنه أعرابي، فقلت: من هذا؟ فقال لي رجل: أراك غريبا بهذا البلد؟ قلت: أجل رجل من أهل البصرة، قال: هذا علي أمير المؤمنين حتى انتهى إلى دار أبي معيط وهو سوق الإبل، فقال: بيعوا ولا تحلفوا، فإن اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة ثم أتى أصحاب التمر فإذا خادمة [1] تبكي فقال: ما يبكيك؟
قالت: باعني هذا الرجل تمرا بدرهم فردوه موالي فأبى أن يقبله، فقال: خذ تمرك واعطها درهمها فإنها خادمة ليس لها أمر، فدفعه، فقلت : أتدري من هذا؟ قال: لا، قلت: علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين، فصب تمره وأعطاها درهمها، وقال: أحب أن ترضى عني، فقال: ما أرضاني عنك إذا وفيتهم حقوقهم، ثم مر مجتازا بأصحاب التمر، فقال: يا أصحاب التمر أطعموا المساكين يربو كسبكم، ثم مر مجتازا ومعه المسلمون حتى أتى أصحاب السمك، فقال: لا يباع في سوقنا طاف، ثم أتى دار فرات وهو سوق الكرابيس [2] فقال: يا شيخ، أحسن بيعي في قميصي بثلاثة دراهم، فلما
Page 172