هذا، والمراد باللغات السامية فيما سبق ذكره: اللغات المنسوبة إلى سام بن نوح - عليه السلام - وسبب هذه النسبة: كون أكثر المتكلمين بها من نسله، وأشهرها: العربية، والعبرانية، والسريانية. وقد نشأت هذه اللغات الثلاثة من أصل واحد هو لهن بمنزلة الأم، وهي اللغة الآرامية نسبة إلى آرام أحد أبناء سام، وقد عدت هذه اللغات الثلاث أخوات لما ذكر، ولكثرة التشابه بينهن، وقال بعض العلماء: كانت لغة العبرانيين في أول الأمر هي السريانية؛ إذ كان جدهم إبراهيم - عليه السلام - سريانيا مولدا وموطنا، فلما هاجر إلى أرض كنعان، واختلط بنوه بالكنعانيين سكان تلك الأرض تغيرت لغتهم تغيرا ما ونشأت عنها اللغة العبرانية، والكنعانيون هم أولاد كنعان، أحد أبناء سام، وقد عرفهم بعض اللغويين بقوله: «الكنعانيون أمة تكلمت بلغة تضارع العربية.»
عبارة في اللغة العربية وأخواتها منقولة من كتاب الإحكام
قال الإمام ابن حزم في كتاب «الإحكام لأصول الأحكام»: «لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها، بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها، ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم - عليه السلام - عليها أولا، إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها، وأبينها عبارة، وأقلها إشكالا، وأشدها اختصارا، وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز وجل:
وعلم آدم الأسماء كلها . فهذا التأكيد يرفع الإشكال ويقطع الشغب فيما قلناه، وقد قال قوم هي السريانية، وقال قوم هي العبرانية، وقال قوم هي العربية، والله أعلم، إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها؛ فحدث فيها جرس كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي، ومن الخراساني إذا رام نغمتهما، ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط - وهي على ليلة واحدة من قرطبة - كاد يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة، وهكذا في كثير من البلاد، فإنه بمجاورة أهل البلدة لأخرى تتبدل لغتها تبدلا لا يخفى على من تأمله.
ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلا هو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق؛ فتجدهم يقولون في «العنب»: «العينب» وفي «السوط»: «أسطوط» وفي «ثلاثة دنانير»: «ثلاثا»، وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول «الشجرة» قال: «السجرة». وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول: «مهمد» إذا أراد أن يقول «محمد» ومثل هذا كثير، فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبدل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل، وإذ قد تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معا، والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل - عليه السلام - فهي لغته ولغة ولده، والعبرانية لغة إسحاق ولغه ولده، والسريانية بلا شك هي كانت لغة إبراهيم - صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم - بنقل الاستفاضة الموجب لصحة العلم؛ فالسريانية أصل لهما.»
الألف ومعناها
هذا، ولنعد إلى أصل الكلام فنقول: إن كل كتاب رتب على حروف المعجم ابتدأ بالألف، وإنما قدمت لتقدمها في حروف أبجد التي هي الأصل، ولتقدم مخرجها على سائر المخارج؛ فإنها من أقصى الحلق، ولكثرة ورودها في الكلام، وقد قيل: إن جميع أهل اللغات المشهورة يبتدئون بالألف عند تعداد الحروف إلا الحبشة، والمراد بالألف هنا: الهمزة لا ألف المد؛ لأنها لا توجد في أوائل الكلم حتى عند الذين يجوزون الابتداء بالساكن؛ لأنها لا تحدث إلا إذا سبقها حرف متحرك بالفتحة إذا مد، فمن ثم لم توجد إلا في الوسط أو في الآخر، على أن الألف في أصل الوضع كان اسما للهمزة، وأما ألف المد كألف قال، فلم يجعل لها الواضع اسما لعدم استقلالها بنفسها، وإنما يطلق عليها الألف مجازا حيث تظهر بصورته في الكتابة، وإنما كتب بصورة الألف لأن الألف كثيرا ما تقلب إليها حين التخفيف، وذلك في مثال «سأل» و«قرأ»، قال المحققون: إن الواضع لأسماء الحروف قد راعى أمرا بديعا؛ وهو أنه جعل مسمى كل حرف في صدر اسمه، ولا يخفى أن أول الألف هو الهمزة، وقد وهم من ظن أن الألف كانت في الأصل اسما لذلك الحرف الذي لا يقوم بنفسه، فقال: إن الذي يذكر في حروف التهجي هو الألف لا الهمزة، وكل الحروف قد صدر فيها المسمى بالاسم إلا الألف؛ فإنه لا يتأتى فيه تصدير الاسم بالمسمى.
في أن الهمزة اسم حدث فيما بعد
وأما الهمزة فهو اسم حدث فيما بعد، ولما شاع كثر إطلاقه على الألف وكثر إطلاق الألف على ذلك الحرف الذي لا يستقل بنفسه؛ حتى صار لفظ الألف كأنه خاص به، وهذا في عرف المتأخرين.
وأما المتقدمون فإطلاق الألف على الهمزة شائع عندهم ذائع؛ فيقولون: هذه ألف قطع، وهذه ألف وصل، وهذه ألف استفهام، وأما لفظ الهمزة فلم يطلقه أحد على ألف المد أصلا، وفرق بعضهم بين النوعين فسمى ألف المد بالألف اللينة والهمزة بالألف اليابسة، وقد أطلق بعضهم الألف المتحركة على الهمزة مع أنها قد تكون ساكنة اعتمادا على فهم المقصود من ذلك؛ لأنها في مقابلة ألف المد التي لا تقبل الحركة، وينبغي أن لا يذكر الألف مطلقا في موضع يقع فيه التباس، والذي حملنا على إطلاقها هنا ما ذكرنا من أن ألف المد لا توجد في أوائل الكلم فارتفع اللبس، ولأنه الاسم الأول للهمزة، ولأن حروف المعجم لا يذكر فيها غيره؛ ولذا التزم كثير ممن رتب كتبهم على حروف المعجم أن لا يطلق غير هذا اللفظ في العنوان، ولأنه الوارد في الكتاب العزيز، قال تعالى:
Unknown page