كتبت إليه عام 1936 أسأله عما ترك جبران في ذهنه من أثر، فأجاب غير عابئ بتقطع النبض وأدرجت مكتوبه في ظرف «وثائق جبران» فنام مع النائمين فيه ينتظرون الساعة، ولكن كلمة الأستاذ أبي شبكة أيقظت كتاب ابن العمة في تلميذه جبران، وهذا رأيه فيه مكتوبا يؤيد الحديث المردي:
ابن الخال الحبيب
السلام عليك، وعلى شق الطريق إلى عجوز ابن الخطاب.
كتبت إلي تستفسرني عن جبران، وهل كان من تلاميذي في مدرسة الحكمة، ثم تشعرني بتوفيقك إلى شق الطريق.
أما جبران فهاك عنه ما يعلق بذاكرة أستاذه، درس علي جبران سنة واحدة فيها كنت له لسانا وقلما، وكان أذنا تعي ما عناها، وقلبا تابعا لهوى متبوع، ونفسا وثابة، وعقلا متمردا، وعينا هازئة بكل ما تقع عليه، مقلا من الإخوان، يزرع حقله في عقله وفي يوسف سعد الله الحويك، مجتزئا به بين سائر الرفاق، كثير الانتقاد، شديد التمسك برأيه، مفكرا قلما ترتسم الابتسامة على ثغره، طموحا تحت مهماز لا رفق معه، يجد ليجد ناظرا في أفق بعيد.
وفي قص خبر اتصاله بي ما يفتح لدرسه منفذا يطل عليه، وكثيرا ما يقاس الحاضر على الماضي (والطبخة الطيبة تعرف من العصر)، اسمع: في أواخر تشرين أول سنة قرع علي باب غرفتي، وعلى كلمة «تفضل» دخل شاب ربعة ذو وجه حنطي مشرب حمرة، وعينين ناعستين ما بين أجفان ذابلة كزهرة تطل من أكمامها، ترسلان نظرات طويلة مثبتة، وله شعر مرسل يلامس أذنيه. - الاسم الكريم، وهل أصلح لخدمتك في شيء؟ - أنا جبران خليل جبران من بشري، أنهيت دروسي في الإنكليزية، نائل شهادة الفلسفة، أتيت لبنان لأدرس آداب لغة وطني وأبدي فيها أفكاري، فكان نصيبي الصف الابتدائي. - ماذا تعرف من مبادئ العربية؟ - أحسن القراءة فقط. - أفلا تعلم أن السلم يرقى درجة درجة! - وهل يجهل الأستاذ أن الطائر لا ينتظر السلم في طيرانه؟ - إنني لم أرك قبل الساعة فمن دلك علي؟ - عيني رأتك وقلبي دلني.
اقشعر بدني من الجوابين وشعرت أن أمامي عقلية بارزة في فتى له حكمة الشيوخ، وذكرت للمتنبي: «ليس الحداثة من حلم بمانعة.» - والآن ماذا تريد مني؟ - رأيتك مرارا فسألت تلميذك يوسف الحويك من يكون هذا الخوري؟ فقال: هذا أستاذنا الحداد وله رفق بتلاميذه وعطف، وكلمته مسموعة عند الرئيس، فجئتك في أمري، دعني أحضر عندك لا أسأل ولا أسأل، وإني دافع مرتب المدرسة كله حالا، وأنا المسئول عن نفسي، لا أمي ولا أبي، وإن لم أنل مطلوبي فتشت عن غير هذه المدرسة التي تتعلق بحرفية القانون ولا تفهم تلاميذها. - مهلا وأعود، وما زلت بالرئيس حتى قال كلمته «التاريخية»: النتيجة يا حبيبي أنت المسئول، وأين راتب المدرسة؟ - حاضر.
وعدت إلى جبران، وما رآني حتى أقمر ليله وابتدرني قائلا: انقضى غرضي يا أستاذي. - ومن أين عرفت؟ - من وجهك الضاحك وعينيك.
وثاني يوم كان جبران بين تلاميذي على مقعد التدريس، وقدامي على المكتب كتابة منه: قبل مرور ثلاثة أشهر لا تسألني عن شيء وبعد ذلك سل ما تشاء.
لم يكن جبران وقت اللقاء الأمثولة يفتح كتابه بل كان آذنا وعينا، وتلك الأذن العطشى لا ترتوي وتلك العين لا تشبع، وكان يختلف إلي حينا إثر حين، يلقي علي أسئلة ويستشيرني في انتقاء كتب المطالعة فحولته على كليلة ودمنة والأغاني، ومقدمة ابن خلدون، ونهج البلاغة، ورسائل بديع الزمان، والدرر لأديب إسحاق، والمتنبي والبهاء زهير، والتوراة، ودرس الطبيعة وطبائع البشر وأخلاقهم وعاداتهم والتواريخ.
Unknown page