ويجيء النثر فنرى ابن المقفع في كليلة ودمنة يعلو ويسفل كالمكاء، فنقول ما يحضرنا في أسلوبه، وحسبنا منه أنه عدل عن سجع الكهان وفصل الكلام ثيابا للأفكار، وتنسى التعب إذ يواجهنا الجاحظ أبو الطرف الكحيل، يحمل على لسانه أدبا نابضا في كلام راقص، فنمرح في مقاصيره وجناته التي تجري من تحتها الأنهار، فيهزنا الفكر يزهو بثوب النكتة الشفاف.
وننتقل إلى مقلده بديع الزمان فنرتاح إلى أدبه الشخصي ونعذره على تقليد بارى فيه معاصريه، ثم ننتقل إلى الحريري - شيخ لنا من ربيعة الفرس - فينعس الصف وليس على الأستاذ إلا أن «ينتف عثنونه من الهوس» ويرفع الصوت جهرة، ولا بأس عليه من آية أنكر الأصوات، فهو إن لم يفعل يرقد تلاميذه رقدة أهل الكهف، ونختم درس الكتاب بالترحم على الجاحظ الذي خلق أسلوبه الأصفهاني وكتابه الأغاني خزانة الأدب العربي.
أما ابن الأثير وحظه قليل من المدرسين والدارسين، فما أحوجنا إلى درسه، فهو مهذب الذوق اللفظي وأستاذ نقد بصير بمواضيع الكلام، وإن نفخنا ادعاؤه فالصبر جميل، ولا سيما أزمة البكالوريا كانت تقتل الإنشاء، فأمسى الطالب وليس يهمه إلا «المنهاج» ليحمل شهادة.
ونشرف على النهضة الحديثة فنرى على قمتها أحمد شوقي، وفي يده كتابه مرآة العصور السالفة كلها، فنرد الكثير من شعره إلى أصحابه، وندل على إبداعه ونلهو وأولادنا بمسرحياته أياما، ثم نتركه لنزور بضعة نفر من أضياف المنهاج: اليازجي والبستاني والمنفلوطي وولي الدين، فنرى الثلاثة يقلدون القدماء ولا يزيدون إلا صقلا وتمليسا، ونرى عند الرابع تجديدا استمده من نفسه الحانقة لا من جملته.
وهكذا تمسح أيدينا من تراب المنهاج اللبناني الذي يستغني عن نصفه ويظل حملا ثقيلا، لا نسمع ذكر لبنان إلا مرتين عند المتنبي، حين رأى جبلنا من خلف، وعند شوقي في قصائد أنطقته بها المآدب والأوسمة، هذا في القسم الأول، أما في القسم الثاني فلا شيء من هذا، فلبنان شاعر لا فيلسوف، فكيف تكون البكالوريا لبنانية ونوابغ لبنان مطرودون خارجا.
أين زعيم النهضة جبران خليل جبران، جبران الشاعر الناثر الأديب الفيلسوف، جبران أبو القصة اللبنانية الحديثة، جبران الخالق أدبا لبنانيا شرقيا، فموسيقاه من عيوننا وجداولنا، ورهبته من أوديتنا وكهوفنا، وأبهته من ربانا وقممنا، وسفينته من أخشاب غاباتنا، ومداد ألوانه من قوس قزح لبنان.
جبران الذي عاش لبنانيا بين ولولة المعامل وعجيجها، فما التهى بجسر بروكلين عن قنطرة المدفون، ولم ينس نواح المعصرة وهزج البيادر، فنظم لبنان نشيدا سليمانيا، استوحى هذا الجبل فكان له برقه ورعده، وصواعقه وعواصفه، وصفاؤه وهدوءه، لم يبال بناطحات السحاب فمات وهو يحن إلى شماريخ لبنان، رأى الخلود كله على القرنة السوداء فنام نومة الأبد مغطى بأذيال برقعها الناصع البياض.
يا حضرة الوزير
إن منهاج البكالوريا اللبنانية ناقص جدا جدا، ولا يتمه إلا اثنان: الشدياق وجبران، فهذان كاتبان مبدعان حقا، ونواحيهما شتى ككبار كتاب العالم وأدبائه، وما أبعد النوم والضجر من الدارس والمدارس في ناديهما العامر، فمر بصف كرسيين للأميرين تغنم ثناء الأدب الحي، وأرحنا من بعض أوثان الأدب، وأجرك على الله.
أما أنت يا جبران، يا عريس نيسان الذي غنيته في موكبك، فلا تقنط من رحمة تاريخ الأدب، إنك لحي في الكثيرين وإن لم تتجمع عناصرها كلها في واحد.
Unknown page