حكي - والله أعلم - أن المجمع الروماني حال دون تطويب أحد الرجال الصالحين، حين ثبت له بعد بحث مائة سنة أنه كان يتنشق العاطوس مثلي، أرأيت ما أصعبها خطة وما أبعدني عنها؟
أما قصة جبران فهاك حديثها: في صيف سنة 1930 زرت بشري وحدثت الخوري فرنسيس رحمة، وشبل بك عيسى الخوري، والشيخ خليل صادق بأمر شراء ديار مار سركيس؛ ليكون مأوى لجبران في آخر العمر، فأبى الرهبان الكرمليون بيعه، وبعد شهور مات جبران عن تلك الوصية التي خاب أمل ميخائيل نعيمة فيها، فغر المال الرهبان، والمال غرار، فباعوا الدير - بل الكهف المهجور - ونام فيه جبران إلى يوم يوقظه بوق ميخائيل، أو حين تلده امرأة أخرى كما توهم في نبيه.
إن كل ما يتمتع به جبران من احترام وتكريم لا يد لرجال الدين فيه، فلو مات جبران فقيرا لما عرف أحد أين قبره ولا الذبان الأزرق، أنحن في أمة تعرف أقدار النوابغ؟
ولزيادة الإيضاح راجع، غير مأمور، رسالة البطريرك إلياس الحويك تعزية لبشري بفقيدها جبران، فهي لا تتضمن العبارة «التقليدية»، كل هذا يثبت لك أن لا يد لرجال الدين في كل ما صنع ويصنع لجبران.
كتب واحد - من غير رجال الدين - فوق ضريح جبران بنور الكهرباء «هنا يرقد نبينا جبران»، فأمر بإصلاحها فأطاع وصارت نبينا «بيننا»، وأراني مضطرا أيضا إلى تفنيد زعم آخر، وهو قول الأرشمندريت بشير في مقدمة «النبي»: إن جبران مرشوق بالحرم الثقيل، فلا ثقيل ولا خفيف، ولا كبير ولا صغير، فلو كان جبران محروما لما صلوا عليه.
ما هذه المصيبة؟! ما انتهينا من إصلاح «سنكسار» جبران المخرفش حتى اصطدمنا بفنه التصويري، ليقل الشيخ في هذا ما شاء، فماذا يعني مثلي من «الفنون الجميلة»؟
هذا وقد وصلنا إلى عبارة تمس موضوعنا، قال الشيخ: «ونقرأ كتبه - أي جبران - فإذا العربية منها خليط من مقالات كتبت لمناسبات معلومة وروايات أملتها عاطفة الشباب، بعضها يمت إلى الأدب بصلة، وبعضها يمت إلى الفلسفة بصلات.»
كيف تكون الرواية والمقالات يا ترى؟ ومن يكتب غير متأثر بحال من الأحوال، بل من يطلب من الكاتب أن يصير جنيا حين يكتب، فلا يحس ولا يشعر؟
ثم قال: «ولكن أكثرها لا يجعل من جبران الأديب الخالد والفيلسوف صاحب المذهب المعروف.»
إذن بقي اسم صالح من أدب جبران، وحيث إنه لا منهاج في الدنيا يدرس الكاتب جملة، فلينتق لنا جناب الشيخ هذا «البعض»، وبهذا يكون حل جزءا من مسألة جبران الهندسية.
Unknown page