لست أحدثك عن كتبه المشهورة؛ لأنك تعرفها، «فحصاد الهشيم» وهو أشهر ما يقرأ من كتبه، يقبل عليه النشء لما فيه من دراسات أدبية دقيقة لابن الرومي وبشار، فالمازني كان أسبق أدباء جيله إلى التعرف إلى هذين الشاعرين الكبيرين، فكتب عنهما فصولا تغني من شاء التعرف إليهما عن المجلدات الضخمة، وقد يكون حبه العبث باللحى الكبيرة صغيرا هو الذي هداه إلى شاعرية ابن الرومي الفذة فكتب عنها دراسته القيمة.
فإبراهيم المازني كما يعترف في مذكراته «قصة حياة» يقول: «لا أعرف ما سر حبي للحى في وجوه الناس، ولكني أعترف أني ما رأيت قط لحية طويلة تتدلى كالمخلاة، إلا نازعتني نفسي أن أجعل لها من أصابعي مشطا، وقلما أرى الآن لحية تستحق أن أعبث بها، فإن الناس في زمننا يحلقونها أو يقصرونها ولا يرسلونها، اكتفاء بالمظهر واستغناء به عن الحقيقة الخشنة أو الشائكة.»
ولا أحدثك عن كتابه «صندوق الدنيا» - فهذا أيضا في متناول الناس، وقد أقبلوا عليه أيما إقبال - ولا عن كتابه «قبض الريح» الذي مر ذكره سابقا، فهذه الكتب اشتهر بها المازني، وهي معروفة من دنيا القلم، ولم يسود وجهه من كتبه الأولى غير قصته «إبراهيم الكاتب»، شاء أديبنا الكبير أن يكتب قصة فكتبها، فكانت قصتها قصة تطول، كما عبر قبلنا صاحبه ابن الرومي.
إخالك أدركت ما في عناوين كتب المازني من طرافة وغرابة، وهذه سجية الناقد الأصيل، فالمازني ناقد في جميع ما يكتب، وقصصي في كل فصل حبره، وأكثر قصصه طرافة وأحلاها هي تلك الأقاصيص التي تتصل بذاته اتصالا وثيقا، وخصوصا في الفصول التي كتبها في مجلة «الرسالة» وغيرها بعد ظهور تلك الكتب، ففي مقالة: «عجوة ببيض» وغيرها يذكرني بقصص الجاحظ وأخباره، وإن كانت هذه من نوع آخر.
لقد حلت بالأستاذ نكبة البرامكة حين صبحه أولاده وزوجه بطلب الفلوس، ولكن «العجوة بالبيض» هونت عليه الكارثة التي حلت به، وتعزى الكاتب الفارغ الجيب بالكلمة المأثورة التي خاطب بها زوجه مسليا نفسه: «أنفقي ما في الجيب يأت ما في الغيب، لا بأس، لا بأس، سيرزقنا الله.»
بيد أن الكاتب لم يرزق، فعاش غير ميسور، ومات مكثورا عليه، ولولا صرخة رفيق الرحلة الأولى لتاه بنوه في الأزقة، كما تاه من قبل ابن ولي الدين لاما أعقاب السكاير عن أرصفة شوارع القاهرة.
قلت لك فيما مر إن المازني «كاتب جامع»، ولكنه متئد السير في كل ما يكتب، يهز هزا لا يلوي، ولا يفرض آراءه وأفكاره على الناس فرضا، أسمعه يحدثنا في عام 1935 عما أسميناه منذ أعوام «الجامعة العربية»، وقد سماه هو في ذلك الوقت «القومية العربية»، ومما قال فيها: «لقد أحطنا قوميتنا بمثل سور الصين، ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهما لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ لوجب أن نخلقها خلقا، فما للأمم الصغيرة أمل في حياة مأمونة، وما خير مليون من الناس، مثلا؟ إن أية دولة تتاح لها الفرصة، تستطيع أن تثب عليهم وتأكلهم أكلا بلحمهم وعظمهم، ولكن مليون فلسطين إذا أضيف إليه مليونا الشام، وملايين مصر والعراق، مثلا يصبحون شيئا له بأس يتقى.»
قد يقال: ولكن هذا ليس إلا حلما، فنقول: نعم إنه الآن حلم لا أكثر، ولعله لا يتراءى إلا لآحاد يعدون على الأصابع في كل بلد، ولكنه على كونه حلما، ليس أعز ولا أبعد منالا مما تحلم به أمم أخرى في هذا العصر، وبالأمم حاجة إلى أحلام، والأحلام ضرورة من ضرورات الحياة للأفراد والجماعات، ومن لا حلم له لا أمل له ولا مستقبل، فلماذا يعيش إذن؟!
هذه بعض خطوط من صورة أديبنا المازني، وإذا أردنا أن نرسم لكاتب عظيم مثله صورة تامة الخطوط، فمثل هذا الإطار لا يتسع لمثل هذه المادة الغريرة، فكتاب بكامله يكاد لا يفي بالمازني، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فشكرا لمحطة الشرق الأدنى التي تذكرنا في كل مناسبة بإخواننا الذين طواهم الموت، وكم في التذكر من منافع وعبر.
رحم الله المازني، وما أحوج الأدب العربي إلى بضعة كتاب من طرازه، فينتعش لسان الضاد وتدب الحياة في كتبه، فالرجل كان غني النفس على بؤسه، كريما معطاء على خصاصته ، وربما كان البؤس مصدر هذه الثروة الأدبية. من يدري! (8) المنفلوطي ورسالة الغفران
Unknown page