توارى وجه الأب هنري لامنس في ظلمة القبر، فانطوت صفحة مجيدة من محققي تاريخنا المجيد، وآثارنا الدالة على من سلكوا هذه الطرق قبلنا.
كان لامنس لا يصيح ولا يماحك ولا يطفي سراجا مشعلا، حياة كلها عمل لا تعرف الملل، وعزم لا يفله الكلل، لقد ترك فيما كتبه هذا العلامة المفكر منارة للتائهين في مجاهل التاريخ، يقرءون على ضوئها الوهاج سطور المعضلات المبهمة، ويفكون أختام الأمس، عاش الرجل مجردا عن الأهواء، وكتب منزها عن الغرض لا يتعثر علمه بدينه، فمات بريء الذمة.
حرث كرم ربه من الصبح إلى المساء، واشتغل من الفجر إلى العتمة، فاستحق دينار ربه حلالا زلالا، لقد ترك آثارا تدل عليه فلننظر إليها باحترام وإجلال.
لقد أحيا الأب لامنس آثار لبنان، فعلى لبنان أن يمجده.
لقد أحيا لامنس صفحات مجيدة من تاريخنا العربي، فلنكتب اسمه في أمثل صفحة من هذا التاريخ.
كان لامنس ضيفنا، ولكنه ضيف فعل ما عجز عنه رب البيت، فلنتعاون على تكريم ذكرى هذا الضيف الذي لم يحسب قط أنه غريب، فمنذ أربعين عاما كتب «هيا بنا على درس تاريخنا»، ثم درسه فأحياه.
أرأيت هذه «النا» في تاريخنا ما أعذبها وأحلاها في ذلك الفم الطاهر، لقد أنطق لامنس خرائب لبنان المبعثرة، وخلق من صخورنا الأرملة لسانا فصيحا يخبر بأعمال السلف، وجعل من قلمه دعامة تقيها الانهيار، ولكن يد الجهل محت كثيرا مما أبقت يد الدهر منها؛ إذ لم تتحقق فكرة الأب لامنس بتأسيس جمعية وطنية تصونها (راجع كلمة الدكتور كمبفماير).
إن لبنان يا لامنس، بقلاعه وحصونه، ومعاقله وكهوفه، بكنائسه المسيحية، وهياكله الوثنية ، من قرن رأسه إلى كعب رجليه، من الشمال إلى الجنوب، يذكر وجهك الصابر على معارجه وأوديته، وجباله وقممه، وهو يقف اليوم حيال قبرك يرثي ذلك الجهاد الصامت والثبات الباش.
حدثتنا في ما كتبت عن آثارنا كأنك ابن عمنا، وواحد منا، وقمت تحثنا على حفظ آثارنا، وتقرئنا سطور أمجادنا بالمدل، فليشاركنا اليوم في تمجيد ذكرك من أرخت معابدهم، وانتزعت ذكراهم من فم العوادي.
إن ابني بلدي، أدونيس والزهرة، يمشيان معي في موكب مجدك، فهل تقبل تمجيدهما لك؟ لست أشك في ذلك، فأنت عشت للتاريخ، والتاريخ لا دين له، وهما من أبطاله الخالدين، هما بطلا الأساطير اللبنانية العالمية، أنعشت سيرتهما الحياة العقلية زمنا في هذا الجبل الذي سرحت بصرك في آثاره، ثم شاء ربك أن تنام على ساحله الضحوك تناجيك نجومه الساهرة وشمسه المتجردة، فنم بأمان الله يا لامنس.
Unknown page