مخازيك اللواتي لن تبيدا
وما للحي في أكفان ميت
لبوس بعد ما امتلأت صديدا
أرأيت ماذا تعقب خيبة الشاعر؟! وإن تسمع بالأخطل المدلل فهذا واحد لا غير، وقد مات ذلك الدلال بموت ممدوحه عبد الملك، وعفى عليه عمر بن عبد العزيز، فطرد الشاعر، فانزوى في صحرائه القاحلة حتى مات، وهو يذكر بطن الغوطة و«الخبر» الذي أتى.
مساكين الشعراء! مات المتنبي وفي قلبه جرح أليم من ضربة الدواة التي خلد مدادها سيف الدولة، وإن قال: «فما لجرح إذا أرضاكم ألم»، فلا تصدقه، فقد رافقه ذلك الألم إلى القبر. وخيبة أبي نواس بالخصيب، والمتنبي بكافور، تنبئك كم كان يكدح قوالو الشعر في إدراك الرغيف، فتركض ويركضون، ويعلم الله من يسبق. وإن شبعوا حمدوا الله على تلك النعمة وقالوا في الأمير ما يزهى به كالغراب، والجسور منهم كان يهجو إذا استبطأ العطاء؛ فطورا يأتيه، وتارة يقضي عليه.
وما كانت حال الشعراء في غير أمتنا إلا كحالهم عندنا، فهذا كورنيل يسترحم القصر ليجري على بوالو قليلا من المال يتقوت به، كما أوصى قبله أبو تمام أمراء المعرة بابن البحتري، فأكرموه على بذاذته، وأخيرا نهض الغرب، فأبى أن يكون كالدجاج، يزرب في الحوش، وينثر له الحب، ويشرب الماء الآسن من الجرن، فطار في الأفق الفسيح، يفتش عن هواء طليق، وشمس حرة، وماء طهور، وألف الجنان، فألهمته غناء أطرب القصور والأكواخ، وزأر - والشعراء أسد وطير - فأرعد فرائص العروش، وشعر أنه ملك دولة الرأي العام فبسط عليها سلطانه ، وأوغل في طلب حريته، وذاقت الأمم حلاوتها، فتهافتت على ما يطبخ وينضج، فكان للنابغ الثروة والسعادة والمجد. ألم يتوجوا فولتير قبل موته بأشهر؟ ألم تمش فرنسا في مناحة هيغو؟ ... إلخ.
أما المتطفل على موائد الأدب، في كل جيل وأمة، فظل قلبه يتعصر مشتهيا عضة كسرة، كاليعازار، ولا يجدها، وإن يئس علل نفسه بالجلوس في حضن إبراهيم، ولكن ليس في الأدب لهؤلاء المعاتيه جنة يخلدون بها.
أما عندنا، فظل الأدب يتسكع في الظلال حتى كانت الحرب الكبرى التي نفخت في العالمين روحا جديدة، وخلقت أدبا جديدا، فأدرك أدباؤنا أنهم خلقوا لغير التسول والشحاذة، فأبت عليهم أنفسهم أن يظلوا راسفين في تلك القيود - إلا الذين ما برحوا مداحين نواحين - فنحوا منحى جديدا في كل ألوان الأدب، وإن لم يعرفوا بعد بصنف خاص، فإنهم سيظفرون بالطابع إن فكروا بعقولهم لا بعقول جيرانهم كأكثر الناس، وإن عبروا بلغة جيلهم وزمانهم تعبيرا صحيحا، ولم يروا مثلهم الأعلى في تلك الرواسم، التي يجدحون من سويقها ولا يتأبون، ولم يخالوا الأدب كله في عبارة مقفعية، وجملة جاحظية، وسجعة همذانية، فالجاحظ الأديب الساخر لم تقر له الأجيال بالإمامة إلا لأنه فكر بعقله، ونطق بلسان جيله، وأبى أن يتكلم كالمتقدمين، فقال للناس: أنا أبو عثمان، أنا الجاحظ، ولست قسا ولا سحبان، ولا أكثم بن صيفي.
لسنا نبحث الآن تطور الأدب ونهضته الحديثة - هذا بحث طويل كشهر الصوم، وأنا صائم دائما ولا أرتجي أجرا - ولكنها كلمة عرضت، ساقنا إليها فرحنا ب «بنك مصر» الواهب الألف الجنيه، ولمن يأخذونها المنة والشكر، فلا عذر بعد اليوم، ولا شكوى لأدباء القطر الشقيق. فإلى الميدان أيها الجياد، وأرونا فتحا لا غزوا، أرونا تأليفا لا ترجمة ونقلا.
قلنا فيما مضى للأستاذين الرافعي والعقاد إن المستقبل للقصة، فليتركا الشباب وشأنهم فيها، فجادلا وماحكا لأن ليس لهما قصة، فما يقولان اليوم وقد رددت أجواء مصر صدى النفير العام، عفوا بل النفير الخاص، ينفخ فيه بنك مصر داعيا الكتاب إلى الجهاد القلمي، وما علينا نحن إلا أن نردد : نصر من الله وفتح قريب.
Unknown page