عندما أستفيق أحيانا في منتصف الليل وأرى الظلمة تكتنفني من كل الجهات، أسترسل لذكريات بعيدة، غير منتبه للورانس راقدا بالقرب مني، ذاهبا في مذاهب الفكر إلى أويقات عذبة وقد طواها الزمان ومرت عليها الحوادث بأثقالها، ثم أستفيق من ذكرياتي فأسمع أنفاس رفيقي تتصاعد من صدره كنسمات متعادلة، تلك الأنفاس الموسيقية الخارجة من ولد نائم، فأنهض نصف نهضة وأسجد أمامه كما تسجد الأم أمام وسادة ابنها، وأجعل أصلي إلى الله شاكرا إياه على ما أسداه إلي من النعم بإرساله هذا الملاك لحراسة قلبي، وأشعر بأن روحي تتنفس وتحيا بقلبين ولهاثين، فأقول في نفسي: «أية موسيقى في هذا العالم تعزف بمثل هذه الأنغام؟» ثم أعود إلى فراشي وأنام!
في 6 كانون الثاني سنة 1794
بينما العالم يتمرغ في أوحال الأراجيف، والأيام تذيب في الأيام جوامد الدموع والدماء، تسود السكينة في هذه الأنحاء، ويهبط عليها السلام من يد الخالق، والمحبة العذبة التي تمقت المجتمعات تصنع لنا وجودا هادئا من الوحدة والانفراد!
من يستطيع أن يفرق بين نفسينا وقد جمعتهما السماء والأرض بخيوط متينة من الحب؟ ونشأتا مع الأيام تحت جزع واحد ودوحة واحدة؟ ولكن المشابهة غير كاملة! فأنا أتذكر أن صديقي في أيام حداثتي كان كلبا أبيض ذا مخطم كمخطم الغزال، وعنق كعنق الحجل، وشعور جعدية كالحرير المتموج، ومقلة عميقة وعذبة كمقلة الإنسان، أجل، كان صديقي كلبا وديعا لا يأكل إلا من يدي، ولا يجيب إلا لندائي، ولا يتبع إلا آثاري، ينام على أقدامي، ويشتم رائحة مكاني، كان يثب على زجاج النافذة ويبقى برهة ملصقا يديه على لوحها البارد، ناظرا إلى جميع الجهات حتى يراني قادما فيسرع لملاقاتي، أو يطوف في غرفتي فيقف طورا أمام ثيابي المعلقة على الجدار وتارة أمام كتابي أو دواتي، حتى يسمع وطء أقدامي على السلم الخارجية فيقفز إلي ويترامى على أقدامي، ثم يجعل يدور حولي ملاعبا ذنبه الأبيض في الهواء، وإذا جلست إلى كتابي لأطالع بعض سطوره يجلس أمامي على الأرض ويأخذ بالنظر إلي منتبها لكل حركة من حركاتي، مصغيا إلى تمتمة شفتي، رافعا رأسه لدى اضطراب الأوراق بين أناملي، وحين مات كانت عيناه محدقتين إلى عيني، كم بكيت ذلك الصديق الأمين! ولكن، تلك الذكريات البعيدة لا تلبث أن تتجسم في قلبي عندما أفكر بلورانس، فهذا الصديق المسكين يحبني حبا لا حد له، حتى إنه لا يستطيع البقاء دقيقة واحدة بعيدا عني، يمشي حين أمشي ويفكر حين أفكر، ويتبعني بنظراته أين اتجهت وكيف تحولت، ولكن هذا الولد، ربيب الأحراج والغابات، سيصير وحشيا فيما بعد!
يا إلهي! إن هباتك لتفوق وعودك دائما! لم أكن أفكر، حتى في الحلم أن عاطفتك وحنانك سيعيدان إلي نصف كياني بين هذه القمم المنفردة والصخور الجرداء!
العهد الرابع
عن مغارة النسور في 15 نيسان 1794
هذا الصباح، وجدت في جوف الصخرة بعض الخبز الذي يجيء به الراعي كل شهر متسترا تحت جلباب الظلام، ورأيت ورقة مع الزاد مكتوبا عليها هذه الكلمات: «كن حذرا، فالويل لمن ينزل إلى مدينتنا الخالية من وجود الله؛ لأن مقصلة الشهداء لا تزال ظمأى إلى الدم!»
رب! حطم سيوف الغضب والحقد، واختصر أيام اليأس والاضطرابات التي تحجب اسمك العظيم عن أعين الأمم، وأنزل ملاك السلام على الأرض، أما أنا فلا يسعني إلا شكرك على نعم أسديتها إلي!
عن المغارة في 6 أيار 1794
Unknown page