إن من الأيام الزاهية والفصول الجميلة ما تكون ملأى بأزهار الحياة الناضجة، تلك الأزهار الملونة، المبللة بالأنداد والمضخمة بالعطر، والتي يذوقونها فترة ويستنشقونها مدة فجر واحد، ثم يتساءلون عما إذا كانت تلك البراعم هي التي تحمل بين أوراقها ذلك الشذى الطيب والعطر الفواح!
هذا النهار كان زاهيا زاهرا، فاستفقنا على زقزقة الشحرور التي تشابه أنغام الشاعر برقتها، وعلى خرير البحيرات المضطربة لدى خطرات الهواء، فرأينا الطبيعة تبسم عن أبدع ما وهبها الله من الجمال، وشاهدنا الربيع رقاصا طربا، يشدو على قيثار الأغصان ألحان الطبيعة السكرى، وأبصرنا الثلوج ذائبة لدى الأشعة الوردية قبل أن تعطي التلال ذلك اللون الأبيض، وكانت كل قطرة متسقطة من الفضاء تبرز بشكل يقرب إلى كريات النور كأنها نحلة ذهبية تنثر الجواهر اللماعة من أجنحتها التائهة في مذاهب الجو، ثم تتوارى عن الأعين وترتمي على فراش الأعشاب في مطارح الوادي، حيث تنحني الأزهار تحت ثقلها اللطيف مستبقية على براعمها نثارا من الزبد اللؤلؤي ثم تأتي النسمات فتمسح ذلك الزبد بأطراف ردائها الشفاف، وكان الهواء الفاتر العليل يزحف مع الشعاع السماوي كأنه الهواء العذري يذيب الأنهر الراقدة في أوائل الشتاء، ويطلق زفرات لطيفة تهتز لديها الثلوج المتجمعة على رءوس التلال، كأنما تلك الزفرات أغاني العاشقين تردد صداها الأرض والمياه والسماء والأثير! كل شيء كان يستفيق لدى مرور الهواء، فأوراق الصباح كانت تأخذ حجما كبيرا، وأعشاب الوادي تمتد بساطا أخضر، فتخرج تارة من بين الصخور، وتلتفت طورا على جذوع الأشجار، مالئة نواظرنا بأمواج من الألوان الجميلة المسكرة، وكأن الماء يتدفق من قشور الأغصان ويجري صموغا من الذهب فتزعج أجنحة الشحرور وهو خارج من بين الأوراق أو مختبئ تحت طياتها، وكانت الأوراق تضطرب لدى النسمات فتظهر كأنها بحيرة ذات أمواج خضراء توحي أسرار الحب إلى القلوب العاشقة، وكانت العصافير والحشرات والفراش تتصاعد أعمدة في الفضاء، ثم تنقلب على الماء أو على الأعشاب كأنها غبار ينتشر في الطرقات فيتصاعد تارة ويقع طورا، من يا ترى سكب تلك الخمرة المسكرة على أجنحة الهواء والنهار والفراشة؟ من دفأ لهاث الهواء فأذاب الثلوج وأمطر الشتاء؟ من حرك الشباب في أفئدة الفتيان فكادت تجري الحياة في صدورهم وتتدفق من أعينهم؟
كنا نركض على الأعشاب ونتسلق الصخور الضخمة ويختفي كل منا عن عيني الآخر، ثم يظهر فجأة على مرتفع تلة أو وراء شجرة، وكنا تارة نضحك ونغني ونتسابق بالركض، وطورا نجلس إلى أحلامنا محدقين إلى الجبل العالي وإلى غيوم الصيف راكضة كالمجنونة على قمته الشاهقة، تلك الغيوم لم تكن إلا زغبا حاميا تنزعه الأشعة المتوقدة من الجليد وتندفه رضابا أبيض، وكانت أخيلة الأشجار المترامية على الخضرة تتقطع قطعا قطعا على الأعشاب وتسكب في بعض الأوداء الصغيرة التي تبرز كأنها أسرة لا تزال مضطجعة أسرارا تحمل في طياتها نغمات عذبة من نغمات الجمال، وأخيرا عندما تعبنا من اللهو والغبطة استرحنا على حضيض منبسط كأنه جزيرة من الأزهار داخلة في بحيرة عميقة ذات أمواج من الظلال، وفي قلبينا صمت ممزوج بسكرة لا حد لها، فجعل كل منا ينثر على المياه أوراقا خضراء، ناظرا إلى كل موجة يلاعبها النسيم ويدغدغها بأنامله الأثيرية، كأنه يبحث عن نفسه الضائعة بين تلك التموجات اللطيفة، وعندما رفعت صدفة نظري إلى لورانس رأيت جبينه يستعيد لونا أحمر وشفتيه تضطربان وشاهدت دمعتين تترددان بين أهدابه كأنهما من دموع الليل التي يلونها الشعاع النقي ويجففها الهواء الفاتر. - ماذا يجري في نفسك يا لورانس؟ أفي قلبك ثقل يضغط على عواطفك كما في قلبي؟ - آه! إني أشعر، أجابني، بأن فؤادي يذوب في صدري، فنفسي تبحث بلا جدوى عن كلمات تطلقها وتود أن تخلق لغة نارية تحمد بها الله والطبيعة. - قل لي يا صديقي، أجبته، أية قوة تدفع نفسي إلى التفكر بمثل الذي تفتكر به أنت، كنت أشعر بنزوات الشوق وإيثاق الحب، فتثب عاطفتي إلى شكر الخالق، غير أن لساني المثلج يقف متلجلجا في فمي، فالطبيعة هي أنشودة غير كاملة، والمبدع القدير لا يتقبل التسابيح التي تروق له؛ لأن الإنسان الذي خلقه الله ليرى مثاله في صورته لا يرفع إليه صوته الحقيقي، أجل، إن الطبيعة لمشهد ونفسنا صوته، فلنجتهد يا صديقي، كما يصنع الطائر أو نسيم الأشجار، أن نلقي على قدمي ذلك الإله حملنا الثقيل ونشدو ألحاننا أمام جلاله، ولنكن كاهني هذه الأصقاع باسم الحب الذي يربطنا.
لورانس :
أيتها النسمات الطاهرة،
الملأى بالحياة والأشذاء الفواحة،
أين كنت؟ ومن أين أنت قادمة؟
أيتها النسمات الخفاقة،
خفاقة كقلبينا في هذه الأصقاع،
لما أنت تتدفقين أوراقا خضراء وأزهارا طاهرة،
Unknown page