2
وأن فوضى العقول عند الطوائف الإسلامية تأتي بما هو شر على المدنية مع تنكر نفوس المسلمين لهذا العهد؛ لما تأتي به دول أوروبا لمضادتهم ومضادة دولهم من أساليب المكر والخديعة؛ توصلا لامتهان حقوقهم وسلب استقلالهم ووطء بساط ملكهم حيثما كان.
اللهم إن المسلمين ما قذف بهم في لج الحيرة، ووقف بهم عن السير مع الأمم الراقية في سبيل المدنية الصحيحة، وكشف ما بينهم وبين الأمم المتمدنة، فرموهم بكل نقيصة ونالوهم بكل سوء إلا انفصام عروة وحدتهم الدينية والخروج عن قانونها الجامع الذي يرمي إلى غرض الاجتماع الصحيح والمدنية الفاضلة، ويريد الشعوب على توحيد الكلمة لضرورة القيام على شئون الحياة المدنية، وإنما يتحقق معنى الحياة في قوم إذا أعزوا جانبهم، وذادوا عن حوضهم، وكانوا يدا على من ناوأهم وأقسطوا في المعاملة إلى من عداهم، وهذا ما يريده الإسلام.
من الظلم أن يمثل ساسة المغرب الجامعة الإسلامية بصبغتها الدينية في صورة معكوسة ينكرها الإسلام ويأباها العدل والتاريخ ولا تنطبق على نص من نصوص الدين، كما رأيت وحسبك من الدين والتاريخ دليلا على أن الإسلام لا يحض أهله على الجامعة إلا ليكونوا يدا على من ناوأهم، وأن يقسطوا إلى من سواهم وإن افترق عنهم في الدين ما لم يبادئهم بالعدوان، ويرد بهم السوء، أن بعض القرشيين من المشركين كانوا يزورون بعض المهاجرين من ذوي قرابتهم في المدينة، فلا يقبلون عليهم ولا يحسنون إليهم؛ لما عرفت به قريش من الشدة على المسلمين والإصرار على الشرك، فنزلت في تنبيههم إلى أن الدين لا يمنع من الإحسان إلى غير أهله، ما داموا غير مناوئي المسلمين، هذه الآية:
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين .
وهذا التسامح الذي عرف به الإسلام ونبه عليه القرآن هو الذي سد كل منفذ من منافذ الأغراض السياسية التي تفسد نظام الاجتماع، وتفرق وحدة الإنسانية، وتلقي العداوة والبغضاء بين بني الإنسان، فلم يستطع زعماء السياسة في الدول الإسلامية جمع الشعوب العائشة في البسيط الإسلامي على كلمة الإسلام بقوة الإكراه، ولم يسعهم أن يعاملوا مخالفيهم في الدين بضروب من العنت تلجئهم ولو إلى الهجرة والجلاء عن بلاد بسط عليها الإسلام جناح سلطانه، وآخر من نعهد أنه حاول ذلك من ملوك المسلمين السلطان سليمان العثماني، فإنه لما رأى شغب المسيحيين في ولاياته الأوروبية وتوالي خروجهم عن الطاعة، وعلم أن بقاءهم على النصرانية خطر على تلك الولايات استفتى علماء عصره في إكراههم على الإسلام، فأبوا أن يفتوه بذلك، وكان ما توقعه ذلك السلطان من الخطر على تلك البلاد فضلا عما لاقته الدولة العثمانية من النصب والتعب في سياسة أهلها، ولم تزل تلاقيه فيما بقي منها في حوزتها إلى الآن.
إن السياسيين وأهل الأنانية المتوحشة في أوروبا الذين يرجفون بخطر الجامعة الإسلامية لا يرون أن من الخطر على المدنية والعبث بنظام الألفة الإنسانية والوحدة البشرية اضطهاد المسلمين الذين تحت كنفهم ، وإرهاقهم بضروب من الإزلال والإعنات قصد القضاء عليهم واستئصال شأفتهم باسم السياسة، ويرون أن من الخطر على المدنية وجود جامعة إسلامية تعامل باسم الدين مخالفيهم في السياسة والدين معاملة الأكفاء في الإنسانية، والعشراء في الوطنية كما سبق بيانه، أفليس في هذا ما يدعو إلى الحكم على رجوع الإنسانية القهقرى وتقدم المدنية إلى الوراء.
حقا إن هذه «السياسة» المطلقة من قيود الإنسانية والوجدان ومن قيود الحق والعدل تشبه في تشكلها حكايات الغيلان الواردة في أساطير الأولين، وتماثل إله الشر عند اليونانيين، فالسياسيون إذا ساقوا الشعوب إلى الدمار وقتلوهم بالسيف والنار قالوا إنها السياسة، وإذا وطئوا بأقدامهم الحقوق، وامتهنوا الشرائع اتهموا السياسة، وإذا أخطئوا خطأ يجلب على بلادهم الدمار، وعلى دولتهم العار تدرعوا بالسياسة، وبالجملة فحيثما سنحت لهم سانحة قدموا أمامهم السياسة، فالسياسة عندهم «كالجسم المرن» قابلة للتشكل بأشكال الأهواء التي تنبعث في نفوسهم، وتدعوهم إليها أطماعهم، ولهذا لما استباحوا لجامعتهم الأوروبية أو المسيحية أو السياسية اضطهاد الجامعة الإسلامية في ملكها ودينها وأهلها، ورأوا أن يأتوا لهذا العهد على البقية الباقية منها، أخذوا يصيحون بخطر الجامعة الإسلامية تمهيدا لمقاصدهم السيئة، وتكفيرا عن إجرامهم إلى المسلمين أمام العقلاء وأنصار العدل والفضيلة من أهل البلاد الأوروبية، ولسوف يعلمون أنهم مخطئون. (2) أوروبا والجامعة الإسلامية
قبل أن نأتي على تاريخ مناهضة أوروبا للجامعة الإسلامية، أو بعبارة أصح على أسباب توجه الأفكار فيها إلى تدويخ الممالك الإسلامية نريد الإشارة إلى السبب الذي يدعو الساسة الأوروبيين في هذا العصر إلى التمويه وبسط المقدمات الواهية، من نحو قولهم بخطر الجامعة الإسلامية والتعصب الإسلامي وغير ذلك عندما يجمع أمرهم على اكتساح جزء من الممالك الإسلامية وسلب استقلال شعب من الشعوب، مع أن المعروف عندهم أن الحق مع القوة، والمسلمون حيثما كانوا ضعاف لا تحتاج غارة الدول على أي فريق منهم إلى بسط المقدمات وانتحال الأسباب فأقول:
اعلم أن الأمم المسيحية لما كانت مسوقة في أوروبا بيدي الكهنة والملوك مأخوذة الإرادة بقوة هاتين الفئتين، كانت كعامة أهل المشرق مسيرة غير مخيرة ليس لها من الأمر إلا أن تدعى إلى عمل فتجيب، وتساق إلى حرب فتسير، لا تبحث عن الباعث على ذلك ولا تسأل عن المصير، ولما قدت هذه الأمم قيود تلك السلطة وتمتعت بالحرية، وشاركت الحكام بالرأي أصبح الحكام بيد الشعب لا الشعب بيد الحكام، وصار الساسة وأرباب الحل والعقد محاسبين على كل عمل يأتونه، وغالى بعض الأحزاب المغرقين في الحرية، فقالوا بوجوب اشتراك البشر على اختلاف الطبقات في حقوق المساواة العامة وسد سبل المطامع دون زعماء السياسة والمال، وقال بعضهم بوجوب نزع السلاح من الدول أي تجريدها عن كل قوة تدعو إلى النزاع والخصام وتعدي الأقوام على الأقوام إلى غير ذلك من الأحزاب ذات الآراء المعروفة لهذا العهد في إصلاح الهيئة الاجتماعية، يضاف إلى ذلك كثير من الفلاسفة ومحبي خير الإنسانية وأهل الفضيلة من الطبقة الراقية في العقل والوجدان الموجودين في كل مملكة من ممالك أوروبا، كل هؤلاء ينظر إليهم رجال الحكومات الأوروبية بعين الحذر عند الإتيان بكل عمل كبير في السياسة الخارجية أو الداخلية؛ لأنهم قادة الأفكار ومالكوا أزمة عامة الشعب، وهذا ما يدعو الحكومات أحيانا إلى التمويه ومغالطة الشعوب لا سيما في مسائل الشرق البعيدة عن أنظار القوم؛ لكي يمهدوا لأنفسهم سبيل المعذرة في غارتهم الشعواء على الأمم الضعيفة بغير ما سبب إلا الأنانية المتوحشة وحب التوسع في الفتح، وهم يستخدمون الجرائد في أكثر الأحيان لنشر بهتانهم وترويج مقاصدهم؛ لأن صوتها مسموع عند عامة الشعب وخاصته، ومن هذا القبيل صيحتهم القائمة اليوم في الجامعة الإسلامية والاتحاد الإسلامي، ونحو ذلك من الأقوال المفتراة التي تجسم للعالم الأوروبي المسلمين في صورة تستوجب الذعر وتستدعي الحيطة على مصالح الأمم الأوروبية التجارية المنتشرة في أنحاء الشرق، والتجارة روح تلك الأمم وعماد سعادتها وغناها وسبب مجدها وقوتها، وإنما تحاط مصالحهم التجارية بالحكومات، فحينما يطرق مسامعهم أمثال تلك الصيحة يبعثهم حب المصلحة والحرص على المنفعة إلى التسليم بما تقضي به حكوماتهم من القضاء الجائر على المسلمين بالخصوص والشرقيين بالعموم.
Unknown page