بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الذي لما توحد بالأزل والأبد - وتفرد بالدوام والسرمد جعل البقاء في الدنيا علة الفناء - والسلامة والصحة داعية الآفات والأدواء - ثم قسم الأرزاق ووفق الآجال وصير سببها الإشاحة في الأعمال كما سخر الشمس والقمر دائبين على رفع الماء إلى السحاب - حتى إذا أقلت الثقال ساقتها الرياح إلى ميت التراب - وأنزلت إلى الأرض ماء مباركا - فأخرجت به خيرا متداركا - متاعا للأنام والأنعام إلى أن يعود يجريه إلى البحار والاستقرار ويعلم ما يلج في الأرض ويخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها - وقد أحاط بكل شيء علما - وأمضى فيه بقدرته وحكمته حكما - وصلى الله على من كشف به الضلالة - وختم بإرساله الرسالة محمد وعلى من اهتدى بهديه واعتز بعزه من آله وأهل بيته والمنتجبين من أصحابه والله الموفق -.
فصل
قد أزاح الله تعالى وله الحمد علل جميع المخلوقات بكنه حاجاتها وبقدر لا إسراف فيه ولا تقتير وجعل النمو هو زيادة في جميع أقطار القابل له طارية عليه ومستحيلة له سببا وهو الاغتذاء - وصير النبات مكتفيا بالقليل من الغذاء ما سكا له لا ينهضم بسرعة فاقتنع وثبت مكانه - يأتيه رزقه من كل مكان فيجذبه عروق في دقائق في دقة الماء ساريا إلى جرثومته وترفع شخونة الجو بالشمس من أغصانه رطوبا له فينجذب ما حصل في الاسافل إلى أعالي أفنانه وينمو به - ثم يجري إلى ما خلق له بالإيراق والإزهار والإثمار - ولما أسرع انهضم الغذاء في الحيوان وكان منفصلا عن منبته فلم يأته رزقه الذي كان يأتيه في حال الاتصال حتى يشبعه ويكفيه بل دام احتياجه إلى الهضم والخضم جعل منتقلا بآلات الحركة في أكناف الأرض لطلب القوت فأنعم عليه وأعطى للشعور بمالاءمة مما يأتيه وغايره حواس خمسا - من بصر يدرك به المرعوب فيه من بعيد فيسرع إلى اقتنائه والمرهوب حتى يهرب منه ويستعد لاجتنابه واتقائه - ومن سمع يدرك به الأصوات من حيث لا يدركها البصر فيتأهب لها - ومن شم يدله عليها من خواص فيها فيقتفيه وذوق يظهر له به الموافق من الغذاء وغير الغذاء الموافق ولمس يعرف به الحر والقر والرطب واليابس والصلب واللدن والخشن واللين - فينتظم بها في الدنيا معاشه ويدوم انتعاشه -
ترويحة
الحواس تنفعل بمحسوساتها باعتدال يلذ ولا يؤذى دون إفراط يؤلم ويقوى فالبصر محسوسة النور الحامل في الهواء ألوان الأجسام خاصة وان حمل أيضًا غيرها من الأشكال والهيآت حتى يعرف بها كمية المعدودات - والسمع محسوسة الأصوات والهواء يوصلها بحواملها إلى الخياشيم إذا انفصلت من الشموم كانفصال البخار من الماء باختلاط أجزائه المتبددة في الهواء والذوق محسوسة الطعوم والرطوبة تحملها وتوصلها إلى الذائق وتولجها في خلله فان آلاته من اللسان والحنك - واللهوات متى كانت يابسة لم تحس بشيء من الطعوم - وهذه الحواس الأربع متفرقة في البدن مختصة بأماكن لها لا تعدوها - وأما خامستها وهي اللمس فأنها عمت جميع البدن في أعضائه وفي آلات سائر حواسه ولم تنفرد بها دونه وأول ما يلاقى واليه اسبق ما وراءه أولًا فأولًا بحسب اللين واللطف الا أن يبلغ الأغلظ الأكثف من دعائم البدن فيزول به حس اللمس عن الطعام -
ترويحة
1 / 1
المشاعر - وإن جعلت طلائع الحيوان للاقتناء والاتقاء فأن نوع الإنسان قد فضل جملة الحيوان بما شرف به من قوة العقل حتى أكرم بمكانها ورشح للخلافة في الأرض على التعمير وإقامة السياسة فيها ولهذا أذلت له طوعا وكرها فانقادت مسخرة لمصالحه ليلا ونهارا - قال الله تعالى (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون) ولولا هذا الأنعام على الإنسان لما قاوم أدونها وهو مختلف في القوة عرى عما لها من آيات الدفاع والنزاع صادق في قوله المحكي عنه سبحانه (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) ثم لما أكرم بتلك العطية وأهل التكليف من بين البرية ليتأيد بكسبه بعد المنية إذ الرغائب بالمتاعب ونيل البر بالأنفاق من الخبائب أفرد من حواسه اثنتان هما السمع والبصر فجعلتا له مراقي في المحسوسات إلى المعقولات - أما البصر فللاعتبار بما يشاهد من آثار الحكمة في المخلوقات والاستدلال على الصانع من المصنوعات - قال الله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وقال ﷾ (الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خائسا وهو حسير) وقال تعالى (وكائن من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) واما السمع فليسمع به كلام الله بأوامره ونواهيه ويعتصم فيها بحبله فيصل إلى جواره ويبلغ حق مأمنه وليس ذلك بخفي عن خاص او عام أعشى بني ربيعة:
كأن فؤادي بين جنبي عالم ... بما ابصرت عيني وسمعت أذني
فأنه أبان حصول العلم بهاتين الحاستين وأضافه إلى الفؤاد دون الدماغ فأنه الرأي المشهور بين الكافة قال الله تعال (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) وقال أبو تمام:
ومما قالت الحكماء طرّا ... لسان المرء من خدم الفؤاد
وقال جميل بن معمر العذري:
إذا كنا بمنزلة للهو ... نخاف السمع فيه والعيونا
لأنها آلتا الرقيب فيتأمل من الخلل ويتسمع حتى يقف على المغيب عنه - فليس يعرف قدر النعمة في شيء الا عند فقدها فلذلك لا يعرف فضيلة هذه الحاسة إلا بعدمها في للأخرس وقياسه غلى الاكمه بعدم البصر حتى يتحقق قول الله تعالى (افأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يُبصرون) غلى قوله (أفانت تُسمع الصم ولو كانوا لايعقلون) وكقوله في التأنيب كإعدام النهار والليل - وأما الحواس الباقية فأنها بالبدن أليق منها بالنفس وبحيوانيتها أشبه منها بالإنسانية وان كان الإنسان تصرف فيها أفكاره واستنباطاته حتى بلغ بمحسوساتها أيضًا إلى أقصى غاياتها -
ترويحة
الاستئناس يقع بالتجانس حتى قيل (إن الشكل إلى الشكل ينزع والطير مع ألافها تقع) ألا ترى الابكم ان سائر الناس عنده بكم لأنه لا يتمكن من مخاطباتهم الا بالإشارات والإيماء بالأعضاء إلى علامات تدل إلى الأرادات كيف يسكن غلى اخرس مثاه إذا وجده وكيف يقبل عليه بكله كمن وجد إنسانا بفهم لغته فيما بين قوم لا يفهمون لغته عنه - قال الله تعالى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها) وقال تعالى (ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) فإذا انضاف إلى ذلك أمن الشر فهو الغنيمة الباردة التي يتضاعف بها الأنس ويزول النفار وان حصل في البين انتفاع عائد على أحدهما أو كليهما فذلك اقصى الغايات في ائتلاق الأهواء المؤدي عند التكاثر إلى التعاون المفضي بهم إلى الاجتماع قرى ومدنا ودساكر -
ترويحة
الإنسان في جبلته مركب البدن من أمشاج متضادة لا تجتمع إلا بقهر قاهر والنفس في أكثر أحوالها تابعة لمزاج البدن فتتلون لذلك وتختلف أخلاقها ومعلوم أن المقهور على اجتماع دائم النزاع إلى إزالة القهر عنه بالافتراق وان وكد الضد هو مغالبة الضد الذي له وأحالته إلى ما عنده وإن كان سبب ما يلحق الحيوان من الآفات والأدواء التي تهتاج من داخله من المتضادات المطيفة به من خارج ثم ان الإنسان يعراه في ذاته ومسكنته بعدم آلاته مقصود بالبلايا من غيره دائم الحاجة إلى ما يقيه والاضطرار على ما يكفيه - قال:
1 / 2
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقى
وليست من جنس واحد فيستقل بعبئها ويكفيه معاون عليها إنما هي أنواع فلا يفي بها الانفر ولهذا احتاج التمدن - وقد خالف الله عز اسمه من أجل التخيير والتحزب وهذا الاجتماع في القرى بين الأهواء والهمم كيلا يطبقوا على اختيار واحد هو الأفضل فيضيع ما دونه ويؤدي تساويهم إلى هلاك جملتهم - فلما اختلفت المقاصد والارادات افتنت الحرف والصناعات واتخذ بعضهم بعضا سخريا - يعمل له بالعدل دائما في التعاوض في التسخير بالجور والاستيجار لا يدوم ولا يستقيم الا ان كثرة الأراب وتباين أوقاتها واستغناء الواحد أحيانا عما عند الآخر ألجأهم إلى طلب أثمان عامة بدل الاعواض الخاصة فاختاروا لها ما راق نظره ورواءه - وعز وجوده وطال بقاؤه - ثم انقاد للتعظيم بالتوحيد والتصغير بالتجزئة والتبديد والتختم بالتنقيش والتصوير مترددا بين صنوف الهيآت والصور ثابت هي ولاؤه ومادته - وكما أن الله ﷿ أزاح علل خلقه من الآلات وهدى الإنسان بالعقل المنبه على الآيات ثم أرسل صلوات الله عليهم أجمعين المرشدين إلى صلاح العقبى وبالملوك خلفائهم في الورى بحمل الكافة على قضية العدل في مصالح الدنيا كلها - كذلك لرأفته على خلقه وظاهر عنايته بهم حزن لهم قبل خلقه إياهم جميع الموزونات في أرحام الأرضين تحت الرواسي الشامخات الانتفاع بها في الاجتلاب والدفاع - إليه يرجع قوله تعالى - (والقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون) ثم قدر في الفضة والذهب جميع ما صالح الناس عليه حتى يحكى أثمان المطلوبات وهداهم إليها فاستخرجوها من معادنهما التي عديا فيها دهورا ووكل السياسة بهما ليحفظوهما من تمويه الخونة أشباههما المغايرة إياهما إبدالًا عنهما وليهذبوهما عن الأدناس بالسبك والطبع فما من حق مع محق الا بازائه بأكل مع مبطل يروم به تروجيه في مكانه - وهذا وأمثاله هو المحوج أولى الرياسة إلى مراءاة شروط السياسة ليستحقوا اسم الخلافة في الخلق وسمة الظل في الأرض عند التقبل بأفعاله سبحانه في التعديل بين الرفيع والوضيع والتسوية بين الشريف والضعيف من خلائقه ووفق اللَه تعالى للخير كل مستوفق إياه -
ترويحة
لما سهل الله على الناس تكاليف الحياة وتصاريف المعاش بالصفراء والبيضاء انطوت الأفئدة على حبهما ومالت القلوب إليهما كميلها في أيديهم من واحدة إلى أخرى واشتد الحرص على أدخارهما والاستكثار منهما وجل محلهما من الشرف والأبهة وضعا لا طبعا واصطلاحا فيما بينهم لا شرعا لأنهما حجران لايشبعان بذاتهما من جوع ولا يرويان من صدى ولا يدفعان باسا ولا يقيان من أذى وكل ما لم ينتفع به في غذاء يقيم الشخص ويبقى النوع وفي ملبوس يدفع بأس الناس ويقي أذى الحر والبرد وفي كن يعين على ذلك ويقبض به الشر فليس بمحمود طبعا - وإنما حمد بالعرض وضعا غدا حصل به ما يضطر إليه وأعوز بغيره - ولذلك سموه خيرا كالمطلق لاحتوائه على المناجح في المآرب ونطق التنزيل بما تعارفوا به قال الله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت أن ترك خيرا) وقال (منّاع للخير معتد اثيم) وقال (انه لحب الخير شديد) وجرى على الألسن - أن الجائد بالدرهم جائد بجميع الخير لأنها في ضمنه وان لم يكن ذلك طبعه
1 / 3
فقد أخبر بعض من سافر بالبحر أن الريح أفضت بمركبهم إلى جزيرة عادلة عن الجادة فارفوا عندها وانه خرج مع الخارجين إليها ودفع غلى من رأى حاجته معه دينارا فأخذه وقلبه وشمه وذاقه فلما لم يؤثر منه في هذه الحواس أثر نفع لذة رده عليه إذ لم يستجز دفع ما ينتفع به بما لا نفع له فيه - وهذا لعمري هو المعاملة الطبيعية التي بها حقيقة نظام المعاش في المتمدنين للتعاون - وأما المعاملة الوضيعة فعلى الأعم فيما اتصل بنا خبره من البلدان والممالك هي بالفلزات التي ازدانت في اعين الناس وشغف بها قلوبهم لصرف الله بلطفه إياها إليها اصطلاحا بينهم لا لأنفسهم - قال الله تعالى (اعلموا إنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد) وقال جلّ ذكره (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحيوة الدنيا والله عنده حسن المآب) وأبان سبحانه عن صلاح المعيشة بالنساء وقرة العين بالبنين وقوة القلب بالاحتكار وإدخال الأموال وإنها لا نقنطر إلا بالصعلكة والسلطنة أو الرهن والدهقنة - وأنكر ذلك من الكانزين فقال (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) وسبيل الله فيما خلقهما له من انتفاع الناس بترددهما في أيديهم أثمانا لمصالحهم فمهما كنزا انقطع الانتفاع للخلق بهما وخولف أمر الله ومشيئته فيهما وغطت منته بردهما إلى مثل حالهما الأولى في بطن الأرض كرد الأجنة من المشيم إلى الرحم للأم فان الذهب والفضة إذا أخرجا من معادنهما صارا كالزروع المحصودة والأنعام المذبوحة لا يسوغ غير أكلها وأنفاقها - وكذلك هذا المال ليس له بعد الاستنباط غير الطبع عينا وورقا وترديده في الأيدي على حسبة تجارة أو إيتاء حقوقه -
ترويحة
المروءة تقتصر على الرجل في نفسه وذويه وحاله والفتوّة تتعداه وإياها إلى غيره والمرء لا يملك غير نفسه وقيته التي لا ينازع فيها أنها له فإذا احتمل مغارم الناس وتحمل المشاق في إراحتهم ولم يضن بما أحل الله وحرمه على من سواه فهو الفتى الذي اشتهر بالقدرة عليها وعرف بالحلم والفوق والرزانة والاحتمال والتعظم بالتواضع ترقى إلى العليا وان لم يكن من أهلها وسود باستحقاق لاعن خلود دار كما حدّث جحظة البرمكي أنه كان رجل بالبصرة يلبس كل يوم أحسن ثيابه ويركب افره دوابه ويسعى في حاجات الناس - فقيل له في ذلك فأجاب - إني قد تلذذت بصافي عقار الدنان وشربتها على اوتار مجيدات القيان كأنها أصوات الأطيار في الأشجار بغرائب الألحان في أطيب الزمان فما سررت منها بشيء سروري برجل أنعمت عليه فشكرني عند الأخوان - ولهذا حدت الفتوّة بأنها بشر مقبول ونائل مبذول وعفاف معروف وأذى مكفوف وكان توسل إلى إسمعيل بن احمد الساماني أحد إخلاف أهل البيوتات بآبائه فوقع في كتابه - كن عصاميًا لا عظاميًا - عنى قول الشاعر -
نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والأقداما
وإليه يرجع قوله تعالى (الهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) وقال بعض اليونانية من مت بقراباته وافتخر بسالف أمواته فهو الميت وهم الأحياء - كما قال الشاعر:
إذا المرء لم ينهض بنفس إلى العلا ... فليس العظام الباليات بمفخر
وربما افرط الفتى فتجاوز إيثار إفراط الغير على الملك إلى بذل النفس انفه من تحمل العار أو دفعًا للظلم وحفظًا لحق الجوار إما بالبسالة كالمذكورين في صعاليك العرب فمنهم الذين فدوا أضيافهم والمستجيرين بهم أنفسهم حتى ان فيهم من خرج به فعله إلى سخف او جنون من حمايته الجراد النازل حول خبائه وقتاله دون صيدها - وإما بالكرم والسماحة كحاتم الطائي الذي غرر بنفسه في هبة الرمح لخصمه وقد أشفى على الهلاك وبلغت نفسه التراقي فاحتال بأستيهابه الرمح فاستنكف حاتم عن رده ودفعه إليه - وككعب بن مامة الأيادي بإيثار القرين بحصته من الماء المقسوم بالحصى إذ قال - اسق أخاك النميري - فسقاه إياه حتى هلك عطشا قال الشاعر الجود بالنفس أقصى غاية الجود وقال آخر:
وليس فتى الفتيان من راح واغتدى ... ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى
لشرب صبوح أو لشرب غبوق ... لضر عدو أو لنفع صديق
وقال علي بن الجهم:
1 / 4
ولا عار إن زالت عن الحر نعمة ... ولكن عارا ان يزول التجمل
عنى بالأول الفتوة إذ لم يتمكن منها إلا بسعة اليد واتساع النعمة - وربما استوى الاجتهاد في حيازتها ولا ملام على من لم تساعده المقادير على نيل المطلب٠ وعنى بالأخير المروءة فأن مرارة أنفس الأحرار تأبى الانخزال وتبعث على التصون من الابتذال فيظهر السعة ويخفى الضيق ما أمكن حتى يحسبهم الجاهل بأحوالهم أغنياء من التعفف لما يراهم عليه من التوسعة في النفقة والنظافة في البدن والنقاء فيما جاوره من الشعار وإشراك الغير فيما رزقه الله ولم يحرمه من غير امتنان ولا قهر لأجله على امتهان كما علّم الله وأدب بقوله تعالى (ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) واخبرنا بإحباط نفقات الذي يرائي لغرض مذموم من غير ان يهزه لها كرم أو يحتسب منها عند الله قبولًا يحصل له به أجر -
ترويحة
العاقل لا يلتذ إلا بالأمور النفسانية الباقية والغبي عن حقائق أحوال المحسوسات وإيذانها باللذات يجعل عينه على ما زين من الأرض بصنوف الزينة ووشح به من الزخارف البهجة التي تطرب الحيوان غير الناطق فليعب فيها ويتمرغ في لينها وتأخذه الأريحة من روائحها فضلًا عن الناطق المميز لكنها - غنما يلذ العاقل لذة نفسانية إذا لاحظهما بعين البصيرة والاعتبار كما يلذ الغافل لذة جثمانية في الاصطباح، والاغتباق والتقلب بين الخمر والخمّار ولما لك يبق له ولأمثاله إلا مدّة يسيرة دومت بعدها وعقبها عند تصرم آجالها فسادها حتى اصفرت بعد الخضرة وتحطمت في اثر النضرة وعادت هشيما تذروه السوافي وتجعله العواصف هباء وتحمله السيول غثاء فيذهب جفاء عوضًا منها وهي افاقية تذاكير بقيت في أنفسهم بقيت لهم بعد انقضائها والوجنات الوجلة مراي الغرار المعصفر والشنبليد المزعفر والاحداق الرواني مناظر العبهر والشفاه اللُعس فيق الجلنار والشقائق وشنب الثغور البيض حواشي القاحي غب المطر وزقب الشوارب وإلا عذره رياض الخيري والبنفسج لكن هذه التذاكير لما كانت أعراضًا محمولة في أشخاص محدودة الأعمار بالية على معاورة الليل والنهار لم تخلد خلودها في ولدان الجنة المخلدين على حالهم الباقين على صفاتهم الموعودة دون الفرطة التي ظنها بعضهم الخلد فأقيم لها بدلها من الجواهر المخزونة تحت الثرى الأحجار المنضودة ومن المكنونة المصونة في أعماق البحار المسجورة ما كان أبقى على قرون تمضى وأحقاب تمر وتنقضي - وكانت منّه عليهم في قوله تعالى (يخرج منها اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان) وقوله تعالى، (وتستخرجون منه حلية تلبسونها) وشبه بها ساكنات الجنة فقال عز من قائل (كأنهن الياقوت والمرجان) ولولا الزينة فيها لما انفصلت عن الذهب والفضة فان سبيلهما في عدم الغنى عند الضرورات سبيلهما بل هي مختلفة عن فضلهما في تثمين الحوائج والحاجات فانها كذلك مثمّنة بهما - وربما كانت على وجه التعويض مزيحة العلل وهي جواهر جسمانية نفاستها بما يحسن الحس منها فيمدح بحسب ذلك مادامت مستبدة به فإذا قرنت بالجواهر النفسانية انكشفت وذم منها ما كان يحمد على مثال وصف أبي بكر الخوارزمي رجلًا، انه درّة من درر الصدف وياقوته من يواقيت الأحرار لا من يواقيت الأحجار -
ترويحة
1 / 5
الملذ بالحقيقة ما ازداد الحرص عليه إذا دام اقتناؤه - وهذه حالة النفس الانسانية عند استفادة ما لا يعلم إلا ان يغلبها البدن عند طلب الراحة من تعب المساعي ويلهيها عمّا كانت فيع بسبب العجز عن استماع حين تخل الحواس بأفاعيلها وتقتصر القوة المتخيلة في النوم على تخايلها واللذة في عرفان المعاني التي في حشو الاصوات المسموعة فانها إذا تجردت نغمات خالية عن معنى يفيده ماتها النفس على طبيعتها فاستروحت منها إلى السكون والسكوت؟ - وأما اللذات البدنية بالتحقيق معقبة الآلام مؤدية إلى الاستقام تمل إذا دامت وتؤذي إذا افرطت يكفيك دليلًا عليه طيب الطعام فان غاية ما تشتهي منه في أوائله ثم ترجع القهقرى متناقصًا إلى أن تبلغ في أواخره إلى حد يفضي إلى الغثيان والتهرع والقذف أن غشى تبعه إكراه عيه خلاف التلذذ النفس بمعاملها فإن له مبدأ يقبل على الازدياد غير واقفة فيه عند غاية بل يزيد إيقانًا أن أطائب الدنيا خبائث ومحاسنها قبائح؟ أمر الجماع الذي يستهتر بع المسرفون على أنفسهم فغنك ترى المجامع يروم ما لايقدر عليه من الاتحاد بسكنه والاندساس بكليته في جوف عشيقته لولا المانع من بلوغ غايته الباعث على الرجوع غلى الوراء لإعادة الفعل برجعه قد ضامها العناق ليتلاصق الصدران ويتقارب القلبان وناسمها ليتصل الأنفاس ويشترك النسيم بين الفئدة والأحشاء وأدخل لسانه في فيها يردده بين الحنك واللهوات ويرتشف الريق من الثنايا واللثات ليفعل بالفم مثل فعله بالهنء فتتضاعف اللذة بتثنية الفعل إلى أن يفرغ بالإفراغ ويصرع أشد الصراع كالعائذ النذور - والمخالف يستريح بالجهد من الجهد وينبطح على حال المرحمة فإذا انتعش عاد أليه كالمخمور من العقار وقد أكسبته الانسية الاختيار فيما هو للبهيمة ضروري طبيعي - كما حكى عن المتوكل أن أعضاؤه ضعفت عن حركات الرهز ولم يشبع من الجماع فملى له حوض من الزئبق وبسط عليه النطع ليحركه الزئبق من غير أن يتحرك فاستلذه وسأل عن معدنه فأشير إلى الشيز بآذربيجان فولى حمدون النديم ثم ليجهز إليه الزئبق - فقال -
ولاية الشيز عزل ... والعزل عنها ولايه
فولني العزل عنها ... ان كنت بي ذا عنايه
وتضرع حتى أعفاه - وهذان ألمان التجاء في ضعف القوة وفي معرض اللذة ونوعان من الأذى خيلا بصورة الطيبة ونصبا فخين في مصائد الخلقة والطبيعة مقصورة بهما إبقاء الشخص مدة والنوع دائمًا ما بقيت اللذة والطيبة مكثوا ويغتر بهما الغر وينخدع لهما الغبي عمّا بفعل حتى يحصل منهما الغرض الإلهي في تعمير العالم بالحرث والنسل والحيوان ثم أن الإنسان خاصة معرض لعارض التغير في النطهة ان سلمت منه في أصل الجبلة وكذلك لتوسط القذار الوسخة والخبائث الدنسة منه بين المغيض والفوهة في جوف الشورة فيكره استنكافه عقيب النوم وعلى الجوع وفي البكر بعد ذلك التنافس في إتحاد النكهتين بالقبل والريق والرشف - قال ابن الرومي -
كذلك أنفاس الرياض بسحرة ... تطيب وأنفاس الورى تتغير
1 / 6
ولا يخفى مع ذلك أنه دائم التعرق أما باحتدام الهواء المحيط وأما بإنعام التدثر للأمان من برده وأما بمتاعب الحركات في مطالبه ومقاصده فيزدحم في مسام جلده ما كان يخرج بالنفشاش رويدًا والتحلل الخفي قليلًا قليلًا إلى ما إذا تراكم في الإبط ذوى بالصنان وان مكث في الارفاغ وخلل الأصابع وباطن الأقدام لم يخل من مكروه والنتن الجوربي بل هو بصدد ريح الحمأ المسنون تفوح من بشرته عند تحّاك الأعضاء الذي لابد منه في الحركات يربكه حك باطن احدى المعصمين على أختها بالتواتر إلى أن يحمان وما في البدن موضع الأوله من العرق والوسخ قسط وان خفى أحيانًا عن البصر - والرأس أشرف عضو فيه كما قال ابن أبي مريم التعمم والتلئم عندما سئل عن سببه؟ ان عضو اجمع ما أعرف به الدنيا واصل بمشاعره إلى المطالب القصوى لحقيق أن أشرفه بالزينة وأخصه بالصيانة عن الأذى والقذى - فتأمل ما ينبع من منافذه دائمًا ويسيل منها متتابعًا من قذر تكره رؤيته ويجتنب مسه بل يستقذر ذكره ثم ربما حسنه عند نعضهم هو النفس الأمارة بالسوء بعزوب اللب في جنون العشق المغطى على عيوب الحب فاستحسن منه قطرات دموعه وشبهها بنثر الدر واستطاب طعم رضابه فمثله بالأرى والخمر وريح نفسه بسحيق المسك والعنبر ولم يشعر لخلاعته ومحونه يقبح ما استحسن إلا إذا تم عليه مفارقة ذلك المستطاب بدون المحبوب أدنى مفارقة أو جمود ما سال من العين والفم فان الدمعة بمكثها في المأقين تنعقدر مصا رهو ببياضة أشبه بالدرة الصافية والبلورية ومتى زايلت عينها والخد - وتلك الريقة شفتها والثغر كرهها ذلك المستطيب ويحتويه وأستجسها بالمس فضلًا عن الذوق وما أظنه مسيغا لمطعوم إذا تفل فيه معشوقة شيئًا من لعابه سيما إذا كانت مع سعلة تصعد بحاء التنحنح نفثا من الرئة إلى الشفة وبخدر بحاء التأخخ لزج الدبس بين الخياشيم إلى الحلاقيم وان عسى علاه اللجاج كانت الحكومة إلى امرئ برئ من آفته فلن يعاند في ان نفسه أحب شيء إليه وان ما يحب سواه فلاجلها وان حبه إياها يخفى عليه عيوبها وعوارها - (فحبك الشيء يعمى ويصم) ثم انه لن يستحسن من نفسه ولن يستطيب منها ما استحسن ذلك من غيره واستطاب ولكنه يستقبحه ويستقذره فيضرحه ولهذا ورد في الأثر نهى عن النفخ في المطعوم والمشروب فيستبن بذلك أن الأصل فيما ذكرناه هو الاستقباح وان الاستحسان فيه عارض حادث والعارض لا محالة زائل وإلى الأصل آئل -
ترويحة
للناس في دنياهم أحوال مختلفة يتقلبون فيها فيحمدون على بعضها ويدمون على بعض وفضل المحامد ظاهر من كراهة صاحب الدام أن يذكر بما فيه منها وحبه التكذب في نسبة المحامد إليه وان لم يكن فعلها هربًا من الخزي وظنًا أنه بمفازة من العذاب ثم أن المحامد قطبها المروءة ومدار المروءة على الطهارة والنظافة والمقتدر عليها باختيار وهو الممكن من الوفر والخارج عنها هو المفتقر الطهر - بالفقر وفيما بينما المكفى في عيشته المرام بمادة تدور ولا تنقطع عنه وسعادته في صديق مخلص ممدوح الخليقة محمود السيرة والطريقة قد اتحدا بالنفس وتغايرا بالبدن كالقول في حق الصديق انه أنت إلا انه غيرك - بنفر كل واحد منهما عمّا لا يرضاه لصاحبه ما يريده لنفسه - واعتبار من أعداد الأصدقاء والندماء كمثله بالواحد فانه محدود بالمبدأ وما وراءه من أعدادهم فليس له حد غير مقدار الحال واتساعه لاصطناعهم وارتباطهم حتى تكون المروءة عند تكاثرهم على حالها ويكون بهم الترقي إلى مراتب الرياسة والملك - والهمة تعتلي بحبالها الخير ورة في طلب الخير لكافة الخليقة عامّة وأهل الجنس خاصّة تمنيا عند العجز وفعلا لدى القدرة - ونفي الإنسان أقرب قريب منه وأولى من تقدم في طلب الخير لها وبعدها ما طاف لها من مواقفتها أدناها فالأدنى من ملبس يماس بدنه ويباشر بشرته وكن يحيط به وخادم يقوم لحاجاته ومطعم ومشرب في أوانيه وآلاته فاما الحسن في الصورة والجمال في الهيئة فهما محبوبان يرغبون فيهما ممن يلاقى حتى أن رسول الله ﷺ كان يستوفد حسان الصور والأسماء وكان ينقا الأسماء المستكرهة في الناس والبقاع والجبال إلى الأسماء المستحسنة - لكن الصور عطايا في الأرحام لا سبيل إلى تغييرها لأحد من الأنام
1 / 7
وأما صور النفس في الأخلاق والسير فما لك هواه قادر على نقلها من المذام إلى المحامد مهما هذّب نفسه وداواها بالطب الروحاني وأزال عنها أسقامها بالتدريج والطُرُق المذكورة في كتب الأخلاق - وأول ما يلاقي منن بدن الإنسان بشرته ومنظر صورته ولئن عجز عن تبديل الصورة أنه لن يعجز عن تنظيفها إذا استنجس التخلف فيه عن الحيوان غير أن الناطق كالسنانير الأهلية لما ساكنت الناس في دورهم وأوت إلى ما واهم حفظت مجالسهم وفرشهم عن نفض الفضول فيها وأفردت لها موضعًا هو لها كالمستحم للإنسان ثم قامت طبعًا ما أمر الله به شرعًا في قوله تعاى (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم غلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وارجلكم إلى الكعبين) - فتأمل تنظيفها بإخفاء السوءة تحت التراب باحتياط يخفى فيه وتنقطع رائحتها ثم إقبالها على تنظيف المخرجين بمثل الطهور وتطهير الأطراف باللحس وغسل الوجه والتعطس بحك المناخر بالبرثن من القائم مقام السبابة في الجانب الأنسى من أيديها حتى تنقص الرطوبات عنها بمثل المضمضة والاستنشاق ثم المس على الرأس والأذنين بالكف المندى بالريق - ومدار الأمر في نظافة الإنسان على الماء الطهور الذي يراح من ريحه وطيبه روح الريح ويوجد به طعم الحياة وليس بنقى ما يكره منظرا وريحا من الأدناس غيره أو ما يشابهه فينوب عنه المياه المحظورة في الأمور الشرعية فانها تفعل في هذا الباب فعله - ووصايا العرب والعربيات بناتهن ترجع إليه وتدور عليه - قال عبد اللَه بن جعفر لأبنته حين زوجها أياك والغيرة فأنها مفتاح الطلاق وأنهاك عن أكثار العتاب فانه يورث البغضاء وعليك بالزينة وأزينها الكحل وبالطيب وأطيبه الماء - وزوج عامر بن الظرب العدواني ابنته من ابن أخيه وقال لأمها مري ابنتك أن لا تنزل الفلاة إلا ومعها الماء فانه بلاء على جلاء وللأسفل نقاء وان لا تمنعه شهوته فان الحظوة في الموافقة ولا تطيل مضاجعته فان البدن إذا مل مل القلب - وقال أحدهم لابنته ليلة الهداء، كوني لزوجك أمة يكنلك عبدا وعليك باللطف فانه أبلغ من السحر والماء فانه رأس الطيب - وأوصت أم ابنتها فقالت، كوني له فراشا يكن لك معاشا وكوني له وطاء يكن لك غطاء وإياك والاكتئاب إذا كان فرحا والفرح إذا كان مكتئبا ولا يطلعن منك على قبيح ولا شيمن منك إلا طيب ريح ولا تفشين له سرا إلا تسقطين من عينيه وعليك بالماء والدهن والكحل فانه أطيب الطيب وقالت أم لأبنتها عطّري جلدك وأطيعي زوجك واجعلي الماء أكثر طيبك - وقالت أخرى أدنى سترك واكرمي زوجك واجتنبي المراء والستطيبي بالماء وقالت أخرى، لا تطاوعي زوجك فتمليه ولا تعاصيه فتكسعيه واصدقيه الصفا واجعلي طيبك الماء - فهذا هذا وهذا نظف المتجمل البشرة ونقى المنافذ والأجحرة بصب الماء وإدامة الاغتسال حق له أن يزيد في تحسينها ويزينها بالألوان التي هي محسوس البصر بمعونة الضياء أما في البدن فبتبييض البشرة بالغمر وتوريدها وخاصة إن كان بها صفار أصلى أو عارض ثم تسويك الأسنان وتسنينها وتنقية الأشفار والعين وتكحيلها وخضب الشعر عند الحاجة وترجيلها وقص أطراف بعض ونتف بعضها وقلم الاظفار وتسويتها - وأما في أحاط بالبدن فالثياب أولاها وأولها لمماستها إياه فواجب ان ينظفها غلى اللون العام المحمود وهو البياض ويصقلها لئلا يتشبث الغبار والدخان بها أو بلونها بحسب الوقت وعادة أهل الزمان في البلاد فتزول آفاتهما عنهما ولتشابه الجواهر التي خلقت للزينة - قال عمر بن الخطاب رضي الل! ّه عنه حين سئل عن المروءة ما هي فقال، إنها النظافة في الثياب - وكما قال غيره، المروءة الظاهرة في الثياب الطاهرة - وهذا لأن من نظف ثيابه يبدأ ببدنه لئلا يدنسها باوساخه ودرنه من داخلها وتلاه بالبيت والمجلس كيلا يلوثها ويتربها من خارج فتم المراد في الجميع بوساطة الثياب ويكفيه في ذلك باعثا على ذلك ما قيل في من خالفه -
لا يليق الغنى بوجه ابي الفت ... ح ولا نور بهجة الإسلام
وسخ الثوب والعمامة والبر ... ذون والوجه والقفا والغلام
1 / 8
ولجلالة محلها في هذا الباب عبر عن طهارة النفس والقلب بنقاء الثوب والأزرار والجيب - وقال بعض أهل التفاسير في قوله تعالى (وثيابك فطهر) أن معناه قلبك ونيتك وهو محتمل وظاهر الآيه وباطنها كليهما في نهاية الحسن على موجب العقل - وهذا هو صفة المروءة على أقل حدودها فإن كان بعضهم وصفها بأنها حب الرياسة لا تنال إلا بالصيانة وبذل الجهد - وهذه صفة الفتوة لا المروءة - قال النابغة -
رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
قالوا في السباسب أنه يوم الشعانين لأن البيت مقول في الغسانية وكانوا على النصرانية وكأنهم عنوا بالريحان ما كان في أيدي الداخلين مع المسيح ﵇ بيت المقدس من قضبان الزيتون والأترج وهو تخريج غير بعيد ولكن المقصود في البيت عزة الرياحين أيام قطه المهامه وانهم يحيّون فيها بهلولا يعوزهم ما يعوز غيرهم مثل ما يحمل من الرياحين والبقول في البادية مع من حج من الملوك وكبار المترفين - وكل ما عز وجوده يتيمن به - قال بكر بن النطاح الحنفي -
جئتك بالرامش رامِشْنة ... أطيب من رامِشنة الآس
وهذه الرامشنة ورقتا آس متحدتان إلى الوسط متباينتان منه إلى الرأس وتوجد في الندرة فيحيى بها الكبار وخاصة الديلم - ويتلو الثياب زينة الجواهر أنفسها بحسب الرسومم المعتادة في كل بقعة ولكن طبقة من الخواتيم للذكران والتيجان للملوك وما رصع من الوشح والمناطق والقلانس والقفازات والقضبان والأعمدة لهم ولمن مثل بين أيديهم وللإناث ما لهن من المدارى والأكاليل والأسورة والخلاخيل والحبيرات والمعاضد والعقود حتى يتعداها المبذرون والمترفون إلى ما هو أبعد عن البدن حتى حيطان الدور وسقفها وأبوابها ورواشنها فيجعلونها بمثل حليهم - كل ذلك لتحسين أول ما يلاقى منهم وإظهار التفاخر والتكاثر لتلويح عزة الاستغناء وفضل الاقتدار وبالتمويه لا بالتحقيق -
ترويحة
1 / 9
ان من أظهر الأدلة على كمال المروءة تكميل النظافة بالأرايح الأرجة التي تتعدى إلى الغير فتلذه وترغبه في الاقتراب والمناسمة وتخفى ما في الإنسان من العوار والوصمة وإليها يرجع قول من حد المروءة إنها الإرادة للغير ما يراد للنفس - وقول من حدها باجتناب المحارم وكف الأذى - بل لوحدت بالاعتصام بالديانة لمل خرج عنها ما قالوا فالدين يوجب العدل والتسوية وقمع الظلم الذي يراد للنفس وإعانة المظلوم ولم يبعد من وصفها بأن لا يعمل سرًا ما يستحي منه في العلن - ومن حسن خلقه بتحسين الخلق وهيأ مطعمه بالطيب من الحلال وأشرك فيه غيره بالتسوية واحتشد فيما زاول بالنظافة وتممه بالطيب الذي هو أحد ما حبب إلى الرسول ﷺ من علائق الدنيا فقد سرّ أكليله وآنس جليسه وأكرم نديمه وكفّ أذاه وأراد له ما أراد لنفسه وخرج عن العهدة الواردة فيمن منع رفده وأكل وحده وضرب عبده ومما يشبه نظافة الثياب ان كان معناها الطوية وتدعوا إلى حسن الطاعة وعز القناعة والأخذ بالأصوب في اليوم والعاقبة ان معز الدولة أحمد بن بويه كان يفرط في التشيّع وانه أشخص من نواحي فارس أحد كبار العلويين مشتهر بالديانة وحسن السيرة والصيانة واسر إليه بتبرمه بتقبيل أكمام االمخانيث يشير بذلك إلى المطيع وانه إنما استحضره ليوصل الحق إلى ذويه ويسلم الملك والخلافة إلى أهليه ةانه أولى بسياسة الأمة بحق الوراثة وما خصه الله وجمعه فيه من الفضل والعدل وحسن الطريقة - فدعا إلى العلوى وشكره شكرًا كثيرًا ومدحه على اعتقاده في أهل بيت الرسول ﷺ وأولاد البتول وأحمده على ما نوى من التقرب إلى الله تعالى بإنعاشهم وإعزاز الدين بهم ثم استأذنه في الإفصاح بما عنده في ذلك فأذن له فقال ان عامة الناس في الأقطار والأمصار قد اعتادوا الدعوة العباسية ودانوا بدولتهم وأطاعوهم كطاعة الله والرسول ورأوهم أولى الأمر وتزاحموا على الأنقياد إلى ولاتهم ولم يعهدوا غلى العلوية الناجمين غير الأسر والقتل فاعتقدوا فيهم العصيان والكفران بالخروج على خلفاء الله وولاة الأمر فإذا فعلت ما أضمرته وازمعته بادهت الجمهور بما تعودوا غيره فلم ينقادوا له دفعة وحسدك من لا يخالفك في العقد على اتحاده ذلك بك دونه فلن تستغن في نقل الملك من قبيلة غلى اخرى عن حروب تتوالى عليك حتى تضجرك وأنا سببها فتراني حينئذ بعين المقت والبغضة وتنطوي فيما فعلت إلى الندامة والحسرة فيحيط اجر ما انتدبت له من تلك الفعلة - هذا إذا رزقت في مغازيك الفلح والنصرة وأما إن جرى الأمر بخلافه فقد زال ملكك ولم يستقر بي قرار ما دمت في دار السلام إلى أن أتحول إلى بخوت بحشاشتي إلى دار الحرب وعبدة الأصنام فما الذي يدعوك إلى التعرض للحتوف والمهالك وأنا الآن حيث أسكن معظم مبجل فاضل النعمة على كل تاني ودهقان نافذ الأمر في القاصي والداني لاترتفع فوق يدي يد رئيس أو عامل أو أمير فخل بيني وبين ما رزقني الله تعالى لا تهنأ به تهنؤك ولا تستنكف كُم هو أنظف واطهر كثيرًا من شفاه دسمة وثغور وسخة وأنفاس بخرة تولع ليلًا ونهارًا بتقبيلها ولست تأنف منها ولا تستقذرها وسل الله ﷿ ما فيه صلاح دينك ودنياك وارتهن دعائي لك بالخير في عقباك - فأضغى معز الدولة إلى قوله وقبّل رأسه وعينيه وصرفه إلى وطنه مكرمًا معظمًا ولم يتخلف عنه من ينشد ما قيل بفكرة ثاقبة ويعمل عليه -
إذا كنت في نعمة فأرعها ... فان المعاصي تزيل النعم
فبه تنال النجاة في الدنيا والآخرة ورضى أولياء النعم من الله تعالى ومن الأنس -
ترويحة
1 / 10
الناس كلهم بنو أب وأشباه في الصور لايخلون فيما بينهم عن التنافس والتحاسد الذي في غرائزهم بتضاد أمشاجهم وأمزجتهم وطبائعهم والاشتمال على ما للعين منذ عهد ابنى آدم المقربين قربانًا مقبولًا من احدهما مردودًا على الآخر لولا ما يزع عن ذلك من خوف جل من الله تعالى أو عاجل من السلطان وما يكن السلطان قويًا نافذ الأمر صادق الوعد لم تتم له سياسة من تحت يده فكل واحد منهم يرى انه مثله وانه احق بما له وملكه ولهذا قصر الملك على قبيلة اتنقبض أيدي سائر القبائل عنه ثم على شخص فضل أشخاصها ثم على نسل له ولي عهد فصار الملك ملكا لهم ثم أضيف غلى ذلك حال معجز بلغ به غاية القوة وهو التأييد السماوي والأمر الإلهي بالنص على نسب لا يتعدى عموده كما كانت عليه الفرس في الكاسرة وكما كان عليه الأمر في الإسلام من قصور الإمامة على قريش ومن وجبت له المودّة لهم بالقربى وكما أعتقد أهل التُبّت في خاقانهم الأول أنه ابن الشمس نزل من السماء في جوشن وأهل كابل أيام الجاهلية في برهمكين أول ملوكهم من الأتراك أنه خلق في غار هناك يسمى الآن بغبرة فخرج منها متقلسا وأمثال ذلك من أساطير الأمم الصادرة من حكمه بجمع للناس طوعا على الطواعية وبحسم الأطماع عن نيل كل أحد رتبة الملك - وكما تميز الملوك عن غبرهم بهذه الخصال كذلك تمموا التميز بإعلاء الأيوانات وتوسيع القصور وترحيب الرحب والميادين ورفع المجالس على السرر - كل ذلك سموا غلى السماء وإشرافا على الخاص والعام من العلاء - وإليه ذهب البحتري في قوله -
وليس للبدر إلا ما حبيت به ... ان يستنير وان تعلو منازله
ولم تكن للزيادة في القدرة حيلة فجعلوها بالتيجان والقلانس وأستطالوا بالأيدي حتى وصفت ببلوغ الكواكب كما سمى الهند أحد ملوكهم مهاباهو أي طويل العضد والفرس بهمن أرشير ريونددست في ذرى الجبال كل ذلك علامات اعلو الهمّة وانبساط اليد بالقدرة - ثم تزينوا بصنوف الزينة المثمنة ليحلو في القلة جلالة الأموال في العيون فتتوجه إليهم الأطماع ويناط بهم الآمال واحتالوا بحيل تفاوضت في البدعة والحسن والغرابة للغوص على سرائر الخاص من البطانة وأفعال العام من الرعية ومقابلتها بواجبها في إسراع ذلك على تنازح الديار بالفتوح المتناقلة والبرد المرتبة والسفن المطيرة والحمامات الهادية الطاوية للمسافات حاملة للوامر والأمثلة في المدد اليسيرة حتى خيفوا في السر والعلن واجتنبت خيانتهم فيهما ونوقف على ذلك من أخبار دهاة الملوك وجبابرتهم
ترويحة
الملوك أحوج الناس إلى جمع الأموال لأنهم بها يملكون الأزمة ويسيرون العنة - قال المنصور لحاجبه؟ يا ربيع أنا أجمع الأموال فان الناس يبخلوننى وقد بر انى الله من هذه الشيمة الذميمة ولكني لمّا رأيتهم عبي الدينار والدرهم رمت أستعبادهم بهما إذا احتاجوا إليهما ثم كانا معي وليس جمعهم لها خزنا بالحقيقة وكنزا فان التفرق إلى مجموعاتهم أسرع من الماء إلى الحدور لكثرة الأفواه الفاغرة نحو نعمهم والأيدي المشمولة إلى عطياتهم وضلاتهم والأعين الطامحة إلى الاهلة الطالعة لحلول أرزاقهم وجراياتهم والأصابع اللاعبة بحسبان أيام أطماعهم وفروضهم ولذلك هم اشفق من النقاد وأخوف من انقطاع الأمداد - فكل مجموع لا محالة متفرق وما تفرق إلى نفاد - وليد كرنى من الأمير الماضي يمين الدولة محمود ﵀ وما ذكرنا في طباعه أثبت وأحكم يدل على انه لم يكن يفرغ من فريسة قصدها وظفر بها إلا ويخيل بصره بعدها لخرى يزحف إليها ويحوزها كأنه مبتغى الوادي إلى أنفاق مرتب او مسرف فيه - وحملتني النشوة على ما لم يزل كان يشكوه مني ويجفوني بضجره به فقلت؟ اشكر ربك واسأله واستحفظه راس المال وهو الدولة ولإقبال فما جمعت تلك الذخائر إلا بهما ولن يقاوم بأسرها خرج يوم واحد غير منتظم بزولهما فأمسك ومن اعتبر قولي بحال الأمير الشهيد مسعود أعلى الله درجاته بسعادة الشهادة تحقق حقه عند الحادثة عليه وزوال النظام عن أمره وعمّا في يديه كيف تبددت أمواله الدثرة مكتسبها والموروثة في يوم كيوم الدخان ثم تلاشت هباء منثورا لم يكشف عن عاد ربه فقرأ لو لم يظهر في كسير جبرا وكان امر الله تعالى قدرا مقدورا -
ترويحة
1 / 11
الدفائن الباقية تحت الأرض ضائعة في بطن الأرض تكون في الأغلب لطبقتين من الناس شديدتي التباين متباعدتين القصيين وهما أهل السلطنة وأهل المسكنة - أما المساكين فانهم إذا تعودوا الأستماحة اعتمدوها في القوت علما منهم بإنها رأس المال لا ينقص وخاصة مع الألحاف في السؤال والألحاح في الطلب فإذا استغنوا بها عن شري مطعم أو مشرب أخذوا في جمع الفلوس والحبات والقراريط ذودا إلى ذود يصرفون الفلوس بالدراهم والدراهم بالدنانير وليس لهم امين غير الأرض لأنها تؤدى ما تستودع وبأمانتها جرى المثل فقيل، آمن من الأرض - ثم يموت أكثرهم إما فجاءة من خشونة التدبير وإفراط التقتير وإما في سوء حال لا ييأس فيه مع الحرص من الأقبال والإبلال ولا تسمح نفسه فيما شقي في جمعه ان يكون لغيره حتى يتفوه بالإيصاء به فيبقى مدفونا قل أو كثر - وأما الملوك فلكثرة نوائبهم يعدون الذخائر للعدد ويحصنون الأموال في القلاع والمعاقل وان يكون حمل ذلك إليها مستور التوسط النقلة والحفظة وبينها فيحتاجون معها إلى خبايا لا يطلع عليها غيرهم - فمنهم من لا يراقب الله تعالى في الأتيان على ناقليها إلى المدافن ومنهم من يحتاط في ذلك ويحتال بإيداع الفعلة صناديق فارغة ويتولى سوق البغال معهم إلى المواضع فإذا أخرج القوم؟ بالليل من تلك الصناديق لم يعرفوا أثرهم من العالم وإذا فرغوا من الدفن أعيدوا غليها وردوا فحصل المرام وبعد عنه الأثام - ولهذا شريطة هي أن لا يحمل منهم النفر مرتين فان تعافصوا فيه ولا يستعدوا فقد اغفل بعضهم هذه الشريطة والمرشح للعمل مترصد فيه للمعاودة وقد جعل في اسفل الصندوق ثقبة واعد مع نفسه كيسا من أرز اخذ ينثرها قليلا قليلا واقتفاها في الغد حتى فازوا بالمذخور ولم يقف صاحبه عى الحال الا بعد عشرين سنة لما احتاج أليها ولم يجد فيه غير حساب بهلول - ثم يعرض للمدخر حالات تبقى الكنوز تحت الارض ولا توجد الا اتفاقا او بحال من حوادث السيول وغيرها تدل عليه - فقد بقيت اموال بجكم الماكاني في المدافن التي ولع بها لما بادهته الطعنة تلف فيها كما بقيت اموال ابي علي محمد بن الياس في مفاوز كرمان لما انتقل عنها الى الصغد مكرها من ابنه غير مختار - (رب ساع لقاعد آكل غير حامد) -
ترويحة
1 / 12
لما احتاج الملوك في حركاتهم وانتقالاتهم الاختيارية والاضطرارية إلى أصحاب أموال تصحبهم من اجلها خدمهم وينزاح بهم العلل في اخراجاتهم وعوارضهم وكان الورق أخف محملا من المثمن به في المصالح نظروا الى الفاضل عليه في ذلك فوجدوه العين فان المثمن من المطالب يكون عشرة أضعاف ما يحصل بالورق على الاصل القديم المعين في الديات والزكوات وان تغير بعد ذلك لعزازة الوجود ونزارته في بعض الأحايين دون بعض او لفساد النقود - وأما في اصل الجبلة في كل عالم فان الذهب اعز وجودا من الفضة والفضة اقل وجودا من النحاس ويناسبها صغر الحجم وعظمه ورجحان الوزن ونقصانه - ثم من العجب ما في زرويان من معدن واحد يعطى جواهر هذه الأجناس الثلاثة بتفاضل مقارب لهذه النسبة وذلك ان عطية الوقر فيه من الذهب وزن عشرة دراهم ومن الفضة وزن خمسين درهما ومن النحاس خمسة عشر منا - فلهذا اثروا العين على الورق في الاصطحاب وخف عليهم محمله وحين لم يأمنوا الواقعات النائبة سجالا وقد عرف أن النجاء فيها بالقلة والخفة مالوا الى الجواهر اذ كان حجمها عند حجم الذهب اقل قدرا من حجم الذهب عند الفضة وحجم الفضة عندما يشتري بها من المصالح فاصطحبوها معهم وقرنوها بأنفسهم ولكنها عند إلجاء تلك الحوادث الى التنكر - ربما صارت ساعية بهم دالة عليهم كما نم بفتية الكهف عتق السكة في الورق حتى اتجهت عليهم التهمة بوجود ذخيرة عتيقة - وذلك ان الجواهر خاصة من آلات الملوك فاذا كانت عند غيرهم مما لا يليق بحاله تلونت الظنون فيه بأنها أما مسروقة والسارق مطلوب وأما متملكة حقا لمتنكر من الكبار ومثله مرصود - وقد كان فضلاء الملوك يجمعون الأموال في بيوتها من المساجد ويجلبونها من اجل وجوهها - ثم يكنزونها بالتفرقة في أيدي حماة الحريم ثم الدافعين مغار العدو عن الحوزة إذ كانت أول فكرتهم أخر عملهم - وهم كالخلفاء الراشدين ومن تشبه بهم مقتديا مثل عمر بن عبد العزيز والكثير من المروانية والقليل من العباسية أذ كانوا يرون ما قلدوه عبأ ثقيلا قد حملوه ويحتسبونه محنة ابتلوا بها وكانوا يجتهدون في نقص أصرها ويتحرجون عن التردي في وزرها - يحكى عن قاطني أحد البلاد في أقاصي بلاد المغرب أن الأمارة تدور فيما بين اعيانهم وثباتهم على نوب يقوم بها من ينوبه ثلاثة اشهر ثم ينعزل عنها بنفسه عند انقضاء أمدها فيتصدق شكرا فيرجع إلى أهله مسرورا كأنما انشط من عقال ويشتغل بشأنه - وذلك لأن حقيقة الامارة والرياسة هي هجر الراحة لراحة المسوسين في أصناف مظلومهم من مظالمهم وأتعاب البدن في الذياد عنهم وحمايتهم في أهليهم وأموالهم ودمائهم وأنصاب النفس في إنشاء التدابير للقتال دونهم والذب عن جمهورهم وما يجمعونه له من الوظائف المقسطة بينهم كالأجرة المفروضة لحارس المحلة مثل ما يجمع المبذرق الرفقة بحسب فعله وقدر رتبته وقد انقضى ذلك بانقضاء زمانه - ولكل زمان مراسم يجب ان تراعى في اهله واىزلال النظام بعد التشابه والالتئام -
ترويحة
إنما حرم شرب الماء في أواني الذهب والفضة لمل تقدم ذكره من انقطاع النفع العام بها واتجاه قول الشيطان عليه (وآمرنهم فليغيرون خلق الله) ولنكتة ربما قصدت فيه وهي ان هذه الاواني لاتكون الا للملوك دون السوقة وللأنام بين الأيام من الضيق والسعة دول تدول وأحوال تحول فاذا صرف ما حقه يبث في الأعوان الى تلك أواني اتكالا على كثرة القنية أيام الرخاء ثم دار الزمان واتى بضده أحوج الى سبكها وطبعها دراهم ودنانير ففترت النيلت بظهور الضيقة وطمع الأعداء بانتشار خبر الضعف والإفلاس بين الناس فهم عبيد الطمع وما نعو الحقوق إذا أمكن وهو المعنى المظنون به انه محشو تحت التحريم فلن يخلو الشرع الشريف من مصلحة عامة او خاصة دنياوية أو آخرية وفق الله تعالى الكافة للتأمل واعتبار المستأنف بالماضي وصانهم بالقناعة عن احقاب الاوزار ورزقهم السلامة من الغاشين والدعار بمنه وكرمه -
فصل
1 / 13
نريد ألان نخوض في تعديد الجواهر والأعلاق النفسية المذخورة في الخزائن ونفرد لها مقالة تتلوها ثانية في أثمان المثمنات وما يجانسها من الفلزات فكلاهما رضيعا لبان في بطن الأم وفرسا رهان في الزينة والنفع ويكون مجموعها تذكرة لي في خزانة الملك الأجل السيد المعظم المؤيد شهاب الدولة وقطب الملة وفخر الأمة أبي الفتح مودود بن مسعود بن محمود قرن الله بشبابه اغتباطا وزاد يده بالنصر تطاولا وانبساطا فانه لما فوض الى الله تعالى أمره تولى إعزازه ونصره ونصب حب الله بين عينيه عفا عن من استغاث باسمه وأمّن من استأمن بذكره وأخفى صدقاته بعد صلاته البادية ليفوز بما هو خير له في السر والعلانية حقق الله آماله وتقبل أعماله بمنه وسعة جوده - ولم يقع إلى من هذا الفن غير كتاب أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي في الجواهر والأشباه قد افترع فيما عذرته وظهر ذروته كاختراع البدائع في كل ما وصلت اليه يده من سائر الفنون فهو أمام المحدثين وأسوة الباقين - ثم مقالة لنصر بن يعقوب الدينوري الكاتب عملها بالفارسية لمن لم يهتد لغيرها وهو تابع للكندي في أكثرها - وسأجتهد في أن لا يشذ عني شيء مما في مقالتيهما مع مسموع لي من غيرهما وان كانت طبقة الجوهر بين في أخبارهم المتداولة بينهم غير بعيدة عن طبقة القناص والبازياريين في أكاذيبهم وكبائرهم التي لو انفطرت السماوات والأرض لشيء غير أمر الله لكاتبه ولنا ببطليموس أسوة في تأمله من تحريصات التجار الذين لم يجد بدا من الاستماع منهم لتصحيح أطوال البلاد وعروضها من أخبارهم بالمسافات والعلامات - والله تعالى استوفق لما قدرت واستعينه على ما نويت والله الموفق -
المقالة الاولى
في الجواهر
ابتدأ نصر بن يعقوب بتعديد اسامي المشهورين من طبقة الجوهريين في الأيام المروانية والعباسية مثل عون العبادي وايوب الأسود البصري وبشر بن شاذان وصباح ويعقوب المندي وأبي عبد الرحمن بن الجصاص وابن خباب ورأس الدنيا وابن بهلول وتحامينا اتبأعهلان هذه العدوة تتكاثر في الأزمنة والأمكنة وتشتهر عند الملوك الاجلة وتتفاضل بحسب العلم والفطنة وفوق كل ذي علم عليم -
الياقوت
وأول هذه الجواهر وأنفسها وأغلاها الياقوت - قال الله تعالى في تشبيه الحور العين في مقر الثواب (كأنهن الياقوت والمرجان) واليواقيت بالقسمة الأولى أنواع منها الأبيض والأكهب والأصفر والأحمر ولم يعن منها فى هذه الصفة غير أشخاص الأحمر فان الكهبة في الوجه والجلد من عوارض المخنوقين والملطومين والصفرة من لوازم الماروقين والخائفين - قال الحمزة بن الحسن الأصفهاني ان اسمه بالفارسية ياكند والياقوت معربة فان الفرس كانوا يلقبونه بسبج أسمور اي دافع الطاعون وهو سبج بالفارسية وقد وصف أحره في الكتب المعمولة في خواص الأحجار بما ذكر حمزة في معنى لقبه - والهند يسمونه بدْمَ راكك ويختارون منه المشبع الحمرة الصافي الشفاف وكان بدم اسمه وهو راك وبدم صفت له وانه في لغتهم اسم للنيلوفر الأحمر ويكثر الابيض في مستنقاعتهم وحياضهم دون الاكهب المسمى بالنيل على وجه التشبيه فلم نره في أرضهم إلا ان كان مجلوبا إليهم عارية لديهم وهذا الاكهب محمر عند الليل في الضلام خيالا لا حقيقة لحمرته تلك فإذا أعيد إلى نور الشمس عادت كهبته الأصلية ويشاركه فيها كل وردة كهباء كحب النيل وأمثاله من الزهر وهى أيضا تحمر بمس الخل أياها كما يخضر الورد الأحمر المبلول بالماء إذا نثر عليه مردا سنج مبيض بالتربية وذلك به وترك ساعة فانه يخرج بين الزنجارية والفستقية
1 / 14
ولون الياقوت الأحمر يترتب فيما بين طرفين أحدهما أقصى الغاية المطلوبة منه والأخر أقصى الرذالة التي تسقط عندها الرغبة فيه فأجوده الرماني ثم البهرماني ثم الأرجواني ثم اللحمي ثم الجلناري ثم الوردي - فمنهم من توسط بين الأرجواني والحمى لونا بنفسجيا وأكثرهم لا يفرقون بين ذلك الأرجواني وبين ذلك البنفسجي - وأسماء هذه المراتب مقولة على وجه التفرس في التشبه ولهذا تختلف في كل موضع وعند كل فرقة - وقد قيل في الرماني والبهرماني انهما صفتان لموصوف واحد الا أن الأول برسم أهل العراق والأخر برسم أهل الجبل وخرسان؟ وشهد لهذا ترتيب الكندي الوانه فانه جعل البهرماني أعلى درجاته وقيل في أعتار لون رمانية بالمثال أن يقطر على صفيحة فضة خالصة مجلوة دم قرمزي فيحصل عليها لون الياقوت الرمانى وهو الدم المعتدل المحمود في العروق والدم الذي في الايمن من تجويفي القلب قرمزي - وابتدأ الكندي بالوردي آخذا من جنبه البياض الى لون الورد ووضع الخيرى فوقه لفضل حمرته على الوردي وزيادة الفرفيرية فيه وهى كالبنفسجية تأخذ من الوردية الى ان تبلغ مشابه وردة الخيري - وفوقه الاحمر العصفري في صبغ العصفر الناصع المشرق التابع للزردج ثم البهرمان العصفرى الخالص الذي لا يشوبه شيء من النشاستج الزردج يتفاضل من عند الأحمر أن ينتهي عند الغاية وهى البهرماني فكل واحد من هذه الألوان يختلف في الصفات التي هي جودة الصبغ ووفورة وكثرة الماء والشعاع والنقاء من العيوب وتتفاضل أثمانه بحسب ذلك - قال نصر في تعديدها؟ الوردي المشمع الذي على لون الورد الأحمر الصافي المضيء - والرابع الجمري الذي على لون الجمر المتقد - واضن الخيري الذي في كتاب الكندي هو تصحيف الجمري والله أهلم - والرماني يضرب من بين الوردي والجمري - وقيل في كتاب مجهول؟ إن خير اليواقيت البهرمانى ثم المورّد - وقيل في الارجواني انه شديد الحمرة فان كان دونه فهو بهرمانى والبهرمان هو العصفر يقال ثوب مبهرم اى معصفر - ولس يعنون في صفة الياقوت زهرته فأنها صفراء رطبة لحمية يابسة وانما يعنون صبغة السائل بعد خروج نشاستجه الأصفر الذي هو سلافته السابقة والمعصفر بالرمان إلف وموافقة فلا يجود جريا له الابه - ثم بعد الرمان ما ينوب عنه من الحموضات - والجريال ربما أوقع على نفس العصفر كقول النابعة الجعدى -
ورقيق حاشية الإزار تركته ... بثيابه كعصارة الجريال
والجريال الراووق وربما اوقع على اللون دون حامله كقول الأعشى في تشبيه الخمر -
وسبيئة مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريا لها
وقال الخليل بن أحمد - البهرمان ضرب من العصفر - فان كان كما قال فهو أجود ضروبه حتى يوصف الياقوت به - وقال السري الرفاء في كتاب المشموم ان العصفر لغة حميرية، وقال حمزة العصفر معلاب وفارسية هسكفر فان نباته هسك والقرطم هسك دانه وماؤه آفة وهو العندم وورده بهرامه ويعرب على البهرم والبهرمان والبهرامج وهو الذي يصبغ به الثياب - وانا اظن كوكب المريخ سمى بالفارسية بهرام للونه الأحمر - والعصفر بالهنديو كُسُنْب وفي كتاب المشاهير، أن الرنف بهرامج البر وهذا يقتضيه العصفر البرى وقال ابو حنيفة الدينورى في كتاب النباب، الرنف من شجر الجبال وهو المعروف بالخلاف البلخى - وبهرامبج البر ينضم ورقه الى قضبانه بالليل وينتشر بالنهار وهو في الأصل فارسي ومنه مانوره مشرب حمره هادب النور - فأما ما ذكره من انضمام أوراقه بالليل فليس كانضمام اللينوفر والآذريون وانما هو انسدال باسترخاء وأوراق الخلاف البلخي ويسمى ببلخ سرشك باسم مائه الذي يعتصر منه ويقطر منه بالتصعيد اصغر من اوراق السوسن ولكنها تشابهها في اصطفافها على قصبها سماطين أعنى صفين فإذا طلعت الشمس قابلها السماطان بوجههما فإذا غربت فكذلك وفي نصف النهار ينضم السماطان منتصبين نحوهما ينسدلان على تحت كالذابلين هكذا حال سائر الأوراق في دورانها مع الشمس الا ان ذلك في بعضها اظهر وفي بعضها أخفى بحسب رقة الرطوبة التي فيها ولطافة الجرم - وإما ما ذكره حمزة في حريال العصفرانه العندم عند أصحاب اللغة نبت احمر بالبادية يذكرون انه اكبر من الثفاء أعنى الحرف ولذلك حملوه على كل احمر كما فعل حمزة وحمله آخرون على البقم لأن طبيخه غير مغاير لجريال العصفر - وقال العجاج
1 / 15
يجيش من بين تراقيه دمه ... كمرجل الصباغ جاش بَقَّمُه
فالبقم والعندب يشتركان في تشبيه الدم بهما - ورق ابقم كورق السذاب ويباع بخيبر المعروف بصفير وزنا كل وزن تل وكل تل مائة قاطية وكل قاطية منا وربع وسعره هناك كل تل بطينة ستة عشر ماشجة والماشجة أربع دوانيق ذهب وصرف ذهبهم على نصف دينار النيسابورى - وحمل قوم العندم على الأيدع وهو عروق السدر - وقال أبو حنيفة مخبرا عن بعض ولم اسمعه من غيره - وقال في ديوان كتاب الأدب؛ ان العندم هو دم الأخوين ويسمى بالفارسية خون سيازشان لاعتقادهم فيه انه ينبت من دم سياوش بن كيكاؤس المفسوح على الارض - وقريب منه تسمية الهند اياهما باندورت يعنون دم باندو وهم قوم جرى بينهم وبين اعمامهم الملقبين بكورو حروب مشهورة اجلت عن تفاني الفريقين في القتال - قال العجاج
فادرع القوم سرابيل الدم ... على النحور كرشاش العندم
وقال ايضا
من أسد خفان يخال العندما ... منه بلبات وخطم أسحما
ومثله كثير واذا لم يكن يخلو من شعر عربي عن ذكر العندم وتشبيه الدم به والشراب وأمثالهما ثم اختلفوا في ماهية هذا الاختلاف المبين عن الجهل به - لم يستنكر خفاء اسم المجسطى على أهل التنجيم وهو كتاب لهم أليه الإسناد وعليه الاعتماد وليس على غايته ازدياد ثم لا يعرفون معنى اسمه وبأية لغة هو فليس بيونانى - قال ابن دريد في الأرجوان؛ انه فارسي معرب وهو اشد الحمرة ويقال له القرمز وانه إذا بولغ في نعت حمرة الثوب قيل ثوب ارجواني وثوب بهرماني أما التعريب فانه بالفارسية كل أرغَوان - وترى هذه الزهرة على شجرة لا تنشق جدا وهي صغار مشبعة بالحمرة الضاربة الى الخمرية عديمة الرائحة نزهة في المنظر - وسواء أن كان عربيا او معربا فانه مستعمل بين العرب - وقال عمرو بن كلثوم
كأن ثيابنا منا ومنهم ... خضبن بأرجوان او طلينا
والأرجوان لباس قياصرة الروم وكان لبسه فيما مضى محظورا على السوقة وذكر انه دم حَلَزون عرفه اهل بلد صور من خطم كلب كان أكل هذا الحيوان في الساحل فتلون فوه بدمه - وذكر بان ينال الثنوى في جملة ما كتب عنه بحضرة الساسانية - أن لباس عظيم قتاي الأرجوان وهو له خاصة لا يلبسه غيره وقال جالينوس في دود القرمز انه إن اخذ من البحر وهو طرى برد وهذا يوهم ما حكى عن اهل صور - ولنرجع إلى ما كنا فيه مما أنحرمنا عنه إلا لإشباع التفهيم - ونقول - أن الكندى عدد العيوب الأصلية في الياقوت وهي النمش في سنخه ولا حيلة لإزالتهما إذا كثرت وفشت وغاصت وعمقت - وخلط الحجارة تسمى الحرمليات والحرمل هو الأبيض ويسمى بالفارسية كُنجَدَه - والرَيم وهو الوسخ فيه يشبه الطين - والثقب المانع عن الشفاف ونفوذ الضياء وهو كالصدع في الزجاجة والبلور إذا صودمت فانكسرت وتتميز حتى يخرج به منه الماء وهذا يكون طبيعيا في الأصل ويكون عارضا بعده - ومنها اختلاف الصبغ في الأجزاء حتى يكون في بعض أشبع وفي بعض اضعف فيصير بذلك أبلق - ومنها غمامة صدفية بيضاء متصلة به من جانب ويسمى الأسين فان لم يكن غائرا فيه ذهب به الحك والا فلا حيلة في الغائر - ثم يقول، إن المعدن من معدن وهو الإقامة فكأن المطلوب منه ما أقام فيه دهورا وأن مستنبطيه يقيمون على استخراجه فلا يسأمون من حفر الغيران عليه ومعدن اليواقيت هو جزيرة سرنديب في غب من بحر هر كند وفي الجبال التي تحاذيها على الساحل - وقد ذكروا في أحمرها - انه يحفر في معدنه عن رضراض فيوجد في خلالها مغلفا كالرمان في قشره وليس بذلك مستبعد فاللعل البدَ خشى يوجد كذلك في غلاف كالبلورى - وجميع المشفات في الأصل مياه مائعة قد تحجرت يد لك عليه اختلاط ما ليس من جنسها من نفاخة الهواء وقطرة ماء وورق الحشيش وقطع الخشب كما سنذكره في البلور - وكل سائل فانه في حال أنمياعه غير مستغن عن وعاء يمسكه ويمنعه عن الانتشار إلى ان يجمد ويمتنع عن السيلان ثم يبقى عليه وقاية له وهذا منها بالأمر الكلي معلوم - فإما كيفية جمودها وسببه وحصول الألوان المختلفة لها فلا مدخل للعقول القائسة الى معرفة ذلك أصلا وإنما هو مفوض إلى علم صائغها الله ﷿
1 / 16
ثم يشهد لما قلنا الياقوت فانه لنا أحوج إلى الأخماء كي يصفو لونه وتخلص حمرته عما عسى أن يكون فيها من بنفسجية ثم لم يتجرد عن تراب يخالطه ورمل يتخلله أو حجارة هوائية تمازجه نظروا الى ذلك فان قارب وجهه قعروا سطحه الأعلى حتى يذهب ما فيه من نقصان يلحق وزنه بنقصان جرمه وزوال الاستواء عن وجهه ولا يعود بشين لأنه يشابه تقعيرا قد اتفق له في اصل الخلقة وان عمق عن سطحه ثقبوا إليه ثقبة ليطرقوا لخروج الهواء منها لئلا يتشقق في الحمى - ويمكن أن تكون هذه الثقوب هي التي عناها ابو تمام في قوله -
نفق المديح ببايه فكسوته ... عقدا من الياقوت غير مثقب
العقد هي القلادة إذا كانت من القرنفل تسمى سخابا وعبر بالنفاق عن تتابع الصلات وبعقد الياقوت بما اكتسبه من الثناء واكثر العقود تكون للأيدي فجعله مكافأة لليد الفائضة بالأعطية ولما شبه المدح بعقد الياقوت وتمامه بالثقب نفاه رجوعا في التشبيه الى التحقيق ليعلم انه عقد غير مؤتلف من الأحجار إنما هو من فائق الأشعار على مثال ما يقول البحترى -
ننظم منها لؤلؤ في سلوكه ... ومن عجب تنظيم ما لم يثقب
وللواواء المشقي
ارى الدر يثقبه الناظمون ... ولم يثقبوا اذ فكيف انتظم
وقوله غير مثقب يدل على غاية الصفاء والنقاء والبراءة من العيوب المذكورة إذا عناها ومن المحشوة بمسامير الذهب فأنها توهم رم انكسار وحينئذ لا يعنى بها الثقب المقصود للسلك فان العقد لا ينعقد الا بها والاكتساء هو عبارة عن اللبس ولن يتم الا بحصول السلك فيها على ان لها باعتراضه في جوفه وإنسلاك ما ليس في جنسه في وسطه خيطا من تنقيص الرونق فالنقاء إذا لا يكمل إلا بعد الثقوب والثقوب إذ هي من جنس العيوب أيضا فإذا الثقوب من القوادح في محاسن الياقوت - قال أبو نواس في وصف الخمر -
أنى بذلت لها لما سمعت بها ... صاعا بصاع من الياقوت ما ثقبا
وللواواء المشقي
أرى الدر يثقبه الناظمون ... ولم يثقبوا اذا فكيف انتظم
وقوله غير مثقب يدل على غاية الصفاء والنقاء والبراءة من العيوب المذكورة إذا عناها ومن المحشوة بمسامير الذهب فأنها توهم رم انكسار وحينئذ لا يعنى بها التثب المقصود للسلك فان العقد لا ينعقد إلا بها والاكتساء هو عبارة عن اللبس ولن يتم ألا بحصول السلك فيها على ان لها باعتراضها في جوفه وانسلاك ما ليس من جنسه في وسطه خيط من تنقيص الرونق فالنقاء إذا لا يكمل إلا بعدم الثقوب إذ هي من جنس العيوب أيضا فإذا الثقوب من القوادح في محاسن الياقوت - قال أبو نواس في وصف الخمر -
أني بذلت لها لما سمعت بها ... صاعا بصاع من الياقوت ما ثقبا
ومن معائب الثقوب امكان التسميم بها اذا حشيت بمثل الهلال القاتل بوزن خردلة فان من عادة الجوهريين ان يجعلوا الجوهر في الفم ويرطبوه نفيا لما عسى غشى وجهه من غبار او هبا آت وصقلا له - وأظن ما يحكى عن من آثر عز الاقبار على ذل الحياة في الاسار انه امتص خاتمه فاستراح من العار هو من هذا الجنس - وكانت قلوبطرا بنت بطليموس لما خافت فضيحة الأنوثة من قهر أغسطس إياها أرسلت أفاعي على ثدييها حتى وجدت متوجه جالسة قد اعتمدت رأسها بيمناها لم يظفر بها العدو - وتلك الثقب إما أن تكون جالبة هواء وجلاؤها لا يجدي على الياقوت شيئا فإنها صادرة عن شوب ومعائب في الأصل مقصرة به عن غايته - وأما ان تكون محشونة بما يزيد في حمرة الياقوت فيكون ذلك نوعا من التمويه وحيلة لإتمام نقصان فيه - وكل ذلك من المذام وقد يكون هذا التمويه في الياقوت غير صناعي بأن يكون لون القطعة غير مرضي ثم يتفق فيهال نقطة مشعة الحمرة فتشرق على سأئرها وتلونها بأسرها وتحسنها
1 / 17
وفي كتاب الأحجار المنسوب الى اسم ارسطوطاليس (فما اظنه إلا منحولا عليه) انه ربما اتفق في الياقوت نكتة فاضلة الحمرة على سائرها فإذا نفخ عليه في النار انبسطت النكتة فيه فزادته حسنا وان كانت سوداء ذهب بعض سوادها ويشبهه ما حكى الجاحظ في ياقوت وقع في يد إنسان فابتلعته نعامة ولم يحضر غير نفرين من زنادقة المانوية شاهدها وأتجهة التهمة عليهما عند افتقاده فضربا ضرب التقرير وكل واحد منهما يبرئ صاحبه إذا أخذ في تذليله وحين عرف انهما ثنويان سئل على الحال ووقف على أمر النعامة من غير جهتهما فانهما لم يستحلا تسليمها للقتل أسرع إلى ذبحها وإخراج الجوهر من قانصتها وقد نقص وزنه وحسن لونه لأن حرها قام له مقام النار الحامية ولولا أن هذا كان أمرا مشتهرا لما صار من مسائل المطارحة حتى سئل الشافعي رضى الله عنه عنها فأجاب، إني لست في أمر صاحب الجوهر بشيء لكنه ان كان كيسا عدا على النعامة وذبحها واستخرج جوهره منها ثم ضمن لصاحبها فضل ما بين قيمته حية ومذبوحة - وذهب ابو القاسم بن بابك إلى خلاف ما ذهب اليه أبو تمام فقال -
عليه عقود الدر فصل بينها ... من الدر والياقوت نظم مثقب
وذكر الكندي انه اشترى كيسا فيه حصيات مجلوبة من لمرض الهند غير مصلحة بالنار وانه أحمى بعضها فجاد صبغ أحمرها وكان فيها قطعتان إحداهما شديدة السواد يلوح من شفافها في النور حمرة خفية والأخرى تشف بصبغ أقل وانه نفخ عليهما في البوطقة مدة ينسبك فيها خمسون مثقالا من الذهب وأخرجهما منها لما بردا وقد نقى اقلهما صبغا وقد قارب الوردي قليلا وأما المظلم فانه انسلخ اللون عنه حتى بقي كالبلور السرنديبي وامتحنه فكان أرخى من الياقوت - لا ومن اجل هذا يزيل الإحماء عن أحمره ما عسى إن يمازجه من سائر الألوان فيصفوا منها - قال، ومتى أزال الحمرة دل على ان المحمى ليس بياقوت ولا تنعكس هذه القضية كل ما ثبت حمرته ياقوتا لأن الحديد وليس بياقوت يقوم على النار - وربما اخرج الياقوت من النار حيث يزاول فلم يتم نقاؤه بعد فاستقل عادته إليها او خشي عليه آلافات فترك فإذا وقع في أيدي تجار العراق ورأوا سواده شرهوا الى الزيادة في ثمنه فأحموه بين بوطقتين من الطين الصغدى وهو ابيض صابر على النار قد طين الوصل بينهما وجعل في كوز الخواتيمين مدة أنسباك مثقال ذهب فيها ثم اخرج وطرح عليه نخالة حتى يبرد وقد نقى وزاد في ثمنه - لا اما حيث يزاول فانه بعد الثقب والتنقية من آفات التجاويف يطلونه بطين مأخوذ من معادنه مسحوق بغرىّ فإذا يبس احموه بالحطب في مدة يعرفونها واقلها ساعة وأكثرها يوم وليلة ثم يخرجونه اذا برد وربما أعادوا عليه ان لم يكن نقى بكماله - وقيل في معدن الياقوت انه في جزيرة سرنديت في غبها المعروف بها في موضع يسمى غزوانه يستنبط من الجبل - وسرنديب بالهندية سنكلديب وديب عبارة عن كل جزيرة وأتخيل من معناه انه جزيرة الزيادة ومجمع الجزائر فإنها كإلام للديبجات التي هي جزائر يلحق عددها بالألوف كعادة العرب في الترخيم - قال عمرو بن احمر -
فخر وجال المهرذب شماله ... كسيف السرندي لاح في كف صيقل
1 / 18
وفرضة سرنديب على الساحل وهي بلد منترى بتن والخراسانية يسمونه مَدْرَبَتان وهو اول حدود مملكة خولة وهذا لقب كل من ملكها ومستقر بلد بيجاور فوق هذا الحد نحو الشرق حد سِيَلان ثم بلكران وفيه معدن الياقوت الأصفر والكحلي وفوقه حدرونك وفيه جبل البرق وتحته معدن الياقوت الأحمر - يزعمون ان ذلك البرق يربيه وهذا ليس ببرق كالسحابي المنقدح من جوق الغيم بالريح المحتبس في جوفه إنما هو نار على ذلك الجبل دائمة الاتقاد وشديدة الخفق والاضطرام ولهذا شبهت بالبرق وبها تهتدي المراكب في البحر بالليل كما تهتدى بالنيران المشعلة وراء عبادان في خشبات كنكوان وفي منارة الاسكندرية وليس يرى من هذا البرق بالنهار إلا شبه الدخان - ويذكر المسعودى في كتاب المسالم والممالك جبل الراهون هناك وانه مهبط آدم ﵇ وأظنه معرب رونك - وذكر بعضهم في تقوية أمر المهبط ان الحشائش التي هناك تسمو بعد نباتها قليلا ثم تنعطف نحو الأرض قليلا وتنعطف ثانية نحو العلو ثم تمر على سمته فتكون كأعناق الابل وان ذلك من اجل السجدة التي تعبد الملائكة لآدم ولا يعلمون ان المسجد غير المهبط وقال الكندى؟ ان موضع الياقوت في سحان من جزيرة خلف سرنديب وفيه جبل عظيم يسمى الراهون تحدر منه الرياح السافية السيول الاتية الياقوت وتلك الجزيرة ستون فرسخا في مثلها ويوشك إن يكون من اخبر بها عبر عن الحد بالجزيرة وعن الوراء بخلف لأن الساحل والجزيرة يشتركان بملاقاة الماء من جانب وجوانب ووراء وخلف وان كانا بمعنى واحد في جهات الإنسان فان الوراء يعبر به عن ابعد الشيئين عن مركز القابل وخلف في الجزائر يوقع على الجانب الذي فيه معظم البحر - وذكر نصر هذه الجزيرة إلا أنه سماها مندرى تبن وهذه البلدة كما ذكرنا على ساحل البحر لا جزيرة في البحر - وقالوا ان الشمس اذا أشرقت على اليواقيت رؤى كأنه برق يسمى برق الراهون وليس يسلك أليه لأنه في يد العدو - وهذا من أشباه الخرافات التي سأحكي بعضها عن الفرس - وهذا البرق يكون عند غيبوبة الشمس ويخفى عند شروقها - ويحكى في مثل هذه النار في جبال سواحل الزابج ترى في النهار سوداء وفي الليل حمراء وتظهر على مسيرة أيام ولها صواعق - وقال ان ما احدره السيل من اليواقيت يكون خيرا مما يوجد في التراب الحمأة وليس ذلك بمستنكر ويقاربه ما حاكاه أحد البحريين أن الريح ألجأتهم الى الجبل الأخضر الذي عن شرق جبل البرق فأدلوا الأناجر وارفوا باالمراكب وعلى ساحل ذاك المرسى شجر فاريقون وهو الساذج زعم وفي بعض هذا الاسم مشابه اليونانية وان كان اسمه فيها فوللن وهذا بالهندية كندبير قال - وان خدمهم خرجوا الى الشاطيء ووصفوا عند منصرفهم للناخدا وهو صاحب الناوه اى السفينة نزهة المكان فقصدوه وحمل معه ما يحمل الى المنتزه وألفى وسط الغيضة حوضا وعلى ضفته رجلا شيخا فاتحفه بشيء مما حمله معه من جوز ولوز وتمر وامثال ذلك فقام الشيخ الى مأواه وهو غير بعيد وعاد بدرج من خوص منسوج واخرج منه فصا ياقوتا احمر اكثر من وزن مثقال وألقاه أليه مكافأة على البر فوجه الرجل الى المركب من حمل اليه من الفواكه اضعاف ما كان حمل معه اولا مع تحف من ثياب وفوط وملح أتحف الشيخ بها فجاءه بقطعة أخرى وزنها ستة مثاقيل لكنها كانت رقيقة بسيطو جدا - فسأله الناخدا من اين لك هذا؟ فاخذ بيد التاجر وذهب به الى وادي رمل يابس واخبره ان سيول الامطار تأتي بذلك الا أنه لايتعرض لطلبه لاستغنائه عنه واشتغاله بالنسك والزهادة ثم وعده ان يتكلف ذلك من اجله ويحتمل منه شيئا كثيرا يوصله أليه عند منصرفه ولم يتفق له الالتقاء به - ويتخيل من ذلك ان مجرى الوادي من الجبال التي فيها معادن الياقوت - وكذلك ذكروا في اخبار الصين من كتاب المخزون بان انواع اليواقيت بألوانها ترتفع من سرنديب واكثر ما يظهر لهم في وقت المدوديد حرجه الماء عليهم من كهوف ومغارات ومسايل وان للملك عليها رصدا وحفظة - ولهذا قال بكير الشامي -
ما يهاب الحسام الا بحديه ... وتحسين غمده لايهاب
وقال ابو بكر الخوارزمي -
وانك منهم وكذاك ايضا ... من الماء الفرائد واللآلي
وتسكن دارهم وكذاك سكنى ... الجواهر والزبرجد في الجبال
1 / 19
وربما استنبطوها من المعادن فيخرج االجوهر وقد التصقت به الحجارة فتكسر عنه - ويوافق حديث اسنباطه ان بارض الهند من جملة الحبوب المأكولة من الأرز والعدس وانواع الماش حبا يسمى الكلت اغبر اللون رمادية كأنه كرسنة او جابّبانة قد عصرت بالصبعين حتى عرضت وتفرطحت على هيئة العدسة واعرض منها لفضل جئته وله فى تفتيت حصى المثانة خاصية وقوة بليغة مذكورة في الكتب وزعموا ان فعله يتجاوز هذا الحصى الى الاحجار الجبلية ويبلغ اللى أن مستنبطى الياقوت اذا انتهوا فى المعدن الى موضع ثلب يعتذر عليهم حفره صبوا عليه طبيخ كلت وتركوه مدة يعرفونها فيسهل عليهم بها كسره وتفتيته كما يوقد فى معادن الذهب والفضة على مثله بالخشب والأدهان - والياقوت بصلابته يغلب مادونه من الاحجار ثم يغلبه الألماس فلا يقطعه غير قطعا وخدشا لاكسرا - قال الكندى؟ ان الياقوت لايجلى بخشب العشر الرطب الرطب كغيره وانما يجلى بالماء على صفيحة نحاس يحك عليها مع كلس الجزع اليماني المحرق كاحراق النورة وذالك بعد التسوية بالسنباذج على صفيحة اسراب ربمايسيل ذالك منه الى الماء الموضوع فيه اصل الصفيحة فان كان المطلوب جلاءه غائرا فالشهر مكان الصفيحة النحاسية - قال، ومن خواصه الشعاع فلس من المشفة الاله والصقالة فانه ايضا اشدها صقالة ولذالك يشبه بجمر الغضا لانه اصدق ضوءا واشد حمرة واطول ترمدا - قال الراعى -
جمان وياقوت كأن فصوصه ... وقود الغضا زان الجيوب الروادعا
وقال جوهر يو بلادنا في وقتنا هذا؛ ان ما يوجد منه رمانيا فائقا فان صاحي سرنديب يستأثر به ويكون له خاصة وما دونه فللتجارة والتجار ولذلك لايحمل الى ديارنا الآن شيء من الرماني والذي يوجد فيها فقديم - وذكر بطليموس في كتاب جاوغرافيا جبلا احمر محيطا بجزيرة الياقوت يدخل من البر اليها سيتدير عليها وفي ضمنها مدن وعيون وانهار وما وصف في اطواله وعروضه مقتضى موضعه على الشرق المعمورة في نهايتها وعلى خط الاستواء وما يقاربه ولم يشر الى شيء يعرف به انه معدن الياقوت او انه سمى لحمرته ولا يكاد يعثر على احد يكون عنده منه خبر - وربما سمى بموضع باسم ليس له فيه مسمى ففي البحر الاخضر في حدود الديبجات والزابج الى جزائر ديوه وجاوة جزيرة تعرف بجزيرة الياقوت ليس فيها من سمة وانما سميت بذلك لجمال نسائها كما قيل في نساء غب القمر الذي انما نسب الى القمر لاستدارة شكله ودوران الماء فيه بتعاقب المد والجزر - والغب موضع يدخل فيه البحر الى البر يتحاماه المراكب لأنه ضخاخ والجزر مصب الماء الجاري في البحر اذا اتسع عند مدخله وظنه بعضهم عكس الغب فقال - عنق من الارض يدخل في البحر وليس كذلك
1 / 20