Islam Sharikan
الإسلام شريكا: دراسات عن الإسلام والمسلمين
Genres
فريتس شتيبات
ترجمة
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
«لا قوام لأي فكر أو بحث بغير النقد الذي يبعث فيهما أنفاس الحياة ويحولهما مع الزمن إلى فعل مؤثر ومغير ...»
عبد الغفار مكاوي (1) كان على قرائه وأحبابه وتلاميذه المنتشرين في الغرب وفي الشرق العربي والإسلامي أن ينتظروا سنوات طويلة قبل أن يتلقفوا - بلهفة الممتن المشتاق - الكتاب الجامع الذي صدر في عام 2001م، وضم معظم بحوثه ومقالاته التي عكف على كتابتها وألقاها في المؤتمرات طوال أكثر من خمسين عاما (من 1944 إلى 1996م). والكتاب يحتوي على ثلاثين بحثا ومقالا بالألمانية والإنجليزية بقيت مشتتة في كتب ومجلات استشراقية لا حصر لها، منها أربعة عشر مقالا في التاريخ الإسلامي، والباقي في التاريخ العربي الحديث، وكلها تشهد على إنصافه وتعاطفه وموضوعيته التاريخية الدقيقة. وقد ظهر الكتاب تحت عنوان يدل على هذه المعاني العلمية والإنسانية وهو «الإسلام شريكا»، وعلى غلافه صورة لمؤلفه الأستاذ «فريتس شتيبات» (1933م-...) رائد الاستشراق الألماني منذ نهاية الحرب العظمى الثانية، في العدد السبعين من «سلسلة النصوص والدراسات البيروتية» التي أسسها بنفسه عندما كان يتولى رئاسة المعهد الشرقي الشهير في بيروت (من سنة 1963 إلى سنة 1968م) وقبل عودته إلى موطنه في مدينة برلين لتولي عمادة معهد العلوم الإسلامية بجامعتها الحرة (من سنة 1969 إلى سنة 1988م) واستمرار رعايته للدراسات الشرقية والإسلامية ولأبناء البلاد العربية الذين تتلمذوا على يديه وما زالت تربطهم به وشائج المحبة والإجلال والعرفان، مقرونة بالتمنيات الصادقة بالشفاء من المرض الشديد الذي ألم به قبل أكثر من ست سنوات ولم يمنعه من الحفاظ على جسور التواصل والرعاية والاهتمام بتلاميذه وعارفي فضله. (2) يعد «فريتس شتيبات» نموذجا رفيعا للعالم والباحث في العلوم الإنسانية والتاريخ العربي والإسلامي بوجه خاص؛ فهو يجمع بين النظر والعمل، ويؤلف بين العقلانية الدقيقة والتعاطف الدافئ والإنصاف الحكيم؛ ينخرط في بحثه بكل طاقته، ويتأمله كذلك من مسافة بعد كافية، يشارك في موضوعه بقلبه ومشاعره واهتمامه الشخصي، كما يحلله تحليلا موضوعيا وتاريخيا نقديا من أكثر من منظور. ولا شك في أن تطور حياته وتقلب مراحلها بين الإقامة في وطنه والعمل خارجه - لا سيما في القاهرة من سنة 1955 إلى سنة 1959م وفي بيروت من 1963 إلى 1968م - ورئاسته للعديد من اللجان المشرفة على دراسة الشرق الإسلامي ومناهجها على مدى سنوات عديدة امتدت حتى بدايات المرحلة التالية لإعلان الوحدة الألمانية (1992-1993م)، مع مساهمته الفعالة في تأسيس ورعاية المركز العلمي لدراسة الشرق الحديث الذي أصبح اليوم إحدى المؤسسات الثقافية المرموقة في العاصمة الألمانية (وقد أوصى له بمكتبته الخاصة التي لم أر في حياتي أروع ولا أضخم منها ...) - لا شك في أن كل ذلك مع خصاله الإنسانية النادرة التي جعلت منه الأب والمعلم والراعي الأمين لكل من درس على يديه أو اتصل به من أبناء العرب ومن عشرات الباحثين الألمان الذين تعهدهم بتوجيهه وإشرافه - كل ذلك قد بوأه عن جدارة مكانة عميد المستعربين في ألمانيا، وسكرتير جمعية المستشرقين الألمان، والصديق الكبير لعشرات من الإخوة العرب المتخصصين في التاريخ العربي والإسلامي قديمه وحديثه. (3) قام «شتيبات» بدور كبير في الاهتمام بدراسة الشرق العربي الحديث، وتنبيه الأجيال الجديدة من المستشرقين والمستعربين إلى أن لغات الماضي وحضاراته ما تزال واقعا ينبض بالحياة ويؤثر تأثيرا مستمرا في ميادين الفكر والعمل والحياة اليومية، والأزمات والقضايا الملحة في وقتنا الراهن. ولا شك في أن إقامته الطويلة في القاهرة وبيروت قد أتاحت له فرصة التعرف عن كثب على مشكلات العالم العربي والإسلامي، وتوجيه أنظار شباب الباحثين إلى أن دراسة الواقع الحاضر بكل ظواهره لا تقل أهمية عن دراسة الماضي الذي طالما استغرق جهود المستشرقين.
وهو من أوائل الذين انتبهوا إلى خطورة الكذبة الكبيرة التي يروج لها، على أقل تقدير منذ أوائل التسعينيات، على ألسنة وأقلام بعض الكتاب والعلماء المغرضين، وعبر وسائل الإعلام المزيفة والجاهلة، وهي الكذبة التي تشيع أن الإسلام - بعد تفكك الاتحاد السوفييتي - هو العقبة الكبرى أمام السلام العالمي، والخطر الأكبر الذي يهدد ما يسمى بالعالم الحر، وأنه هو العدو الذي تتنافس في رسم صورته الإرهابية أقلام متحيزة وأدوات اتصال مريبة. ولا بد أن نذكر أنه كان في طليعة الذين انتقدوا مقالة صمويل هنتنجتون التي نشرها سنة 1993م في مجلة الشئون الخارجية، تحت العنوان نفسه الذي ظهر به بعد ذلك كتابه المشهور عن صدام الحضارات، وأنه كان من أوائل الذين تصدوا لآراء هذا الباحث المغالط ففندها وكشف القناع العلمي الكاذب الذي تغطي به وجهها القبيح وأهدافها المسمومة. وقد دحض أفكار هنتنجتون وبين أن الدين الإسلامي، وأي دين آخر، لا يمكن بحكم طبيعته أن يكون عدوانيا أو يصدر عنه العدوان أو يهدف إليه، وأن مسألة العداوة للغرب يجب أن تفهم من داخل السياق التاريخي الذي تعيش فيه شعوب العالم الثالث، إسلامية كانت أو غير إسلامية، وتشعر بتخلفها عن الدول الصناعية المتقدمة وتبعيتها لها، كما تسعى بالضرورة سعيا متعثرا للتخلص من ذلك التخلف وتلك التبعية. ومن هنا يقرر بكل ما أوتي من شجاعة وحكمة أن الإسلام لا يمثل أي تهديد للعالم، بل إن العكس من ذلك هو الصحيح؛ فأكثر المسلمين يشعرون في عصرنا الحاضر بأنهم مظلومون ومهددون. وإذا كان هذا الشعور قد تسبب في ظهور بعض الاتجاهات اللاعقلية أو التصرفات المتطرفة - تجاه الأجانب والسياح بوجه خاص في بعض البلاد العربية - فإن المسئول عن ذلك في المقام الأول هو بعض القوى الغربية التي تهيمن على العالم، وتخون القيم والمثل العليا التي تتشدق بها (مثل حق الشعوب في تقرير المصير، والديموقراطية وحقوق الإنسان ... إلخ) وتطبق معايير مزدوجة تضر بمصالح الشعوب العربية والإسلامية. وأقرب دليل صارخ على الظلم الواقع على المسلمين والعرب هو مأساة البوسنة ومأساة فلسطين وما نكبتا به من مجازر وتدمير وتخريب وتجويع. وإذا كانت هذه المآسي وأمثالها قد ولدت ردود الفعل العنيفة عند بعض الحركات الأصولية المتشددة، فلا يجوز أن تدفع الغربيين إلى رسم صورة مشوهة للإسلام كعدو للغرب، بل يجب أن تدفعهم للبحث عن أسباب هذه الحركات المتطرفة، وتحثهم على مراجعة موازينهم ومعاييرهم المزدوجة، وتقنعهم بتغيير مواقفهم المتحيزة - التي ترجع لأسباب قديمة ومعقدة - ضد المسلمين والعرب، بحيث يبينون لهم أنهم يريدون أن يفهموهم لا أن يحاربوهم ... (راجع بحثه في هذا الكتاب عن دور البحث العلمي في حوار الأديان ومقاله عن الأصولية الإسلامية). وهكذا ينفي نفيا قاطعا أن يرجع الصراعات الكبرى في عصرنا إلى الخلافات الدينية، ويدعو إلى الحوار السمح بين الأديان، وتأكيد أوجه التشابه والتقارب والعناصر المشتركة بينها، وضرورة إسهام الباحثين العلميين في هذا الحوار الذي لا بد أن يعود بالخير على البشرية كافة ... (4) والمستعرب والمؤرخ الكبير لا يمل التنبيه إلى تعدد الاتجاهات والتيارات والحركات الإسلامية، وتأكيد الفروق الشديدة بينها، واختلاف أهدافها ومشاريعها وتصوراتها لنهضة «الأمة» أو الجماعة الإسلامية. وهو لا يمل كذلك دعوة الغربيين أن يبذلوا جهدهم لمعرفتها وتقدير الدوافع الكامنة وراءها، والشروط والمواقف التاريخية التي نشأ بعضها على الأقل كرد فعل لها. وهو يلح في كل مناسبة - كما سبق القول - على ضرورة تفهم هذه الحركات الإسلامية لا محاربتها، ولا يخفي تعاطفه مع التيار المعتدل الذي يدعو لاستقلال الأمة الإسلامية بهوية حضارية متميزة، ويشيد بمحاولات عدد كبير من المفكرين المجددين والدعاة المجتهدين لتأسيس مشروع حضاري يحمل الصبغة الإسلامية، ونموذج نهضوي يكون بديلا عن النموذج الغربي ويخرج العرب والمسلمين من حالة التبعية المهينة للغرب المتفوق (راجع مناقشته المنصفة - في المقال الرابع - لمحاولة تصنيف الجماعات الإسلامية والعلمانية ومساندته لضرورة الحوار بينها).
وهو ينوه في مواضع كثيرة من دراساته ومقالاته بسماحة الإسلام، ومرونة الشرع واتساع صدره - على مدى التاريخ الإسلامي - للعديد من التفسيرات الخلاقة والاجتهادات المبدعة. بل إنه ليرجع أحد أسباب الضعف والتخلف اللذين أصابا المسلمين، في القرون التي أعقبت ذروة مجدهم ونهضتهم الوسيطة وحتى وقتنا الحاضر، إلى إغلاق أبواب الاجتهاد في تفسير النصوص المقدسة، والتشبث بآراء القدماء لمجرد قدمها - على رغم تغير الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية - والعجز عن التجديد والإبداع والمواءمة بين «المثال» الثابت والواقع المتغير - ويكفي أن يراجع القارئ مقاله المهم عن «النائب عن الله» الذي يتتبع فيه تطور فهم المفسرين المختلفين لمعنى كلمة «خليفة» و«خلافة»، وذلك من الطبري إلى علي شريعتي، ليرى كيف يرحب بالتفسيرات والتخريجات المختلفة لمعاني الكلمتين، وكيف يؤكد أن النص القرآني نفسه يسمح بمرونة الاجتهاد في التفسير إلى أقصى الحدود، ما دام الاجتهاد والتفسير يقعان داخل إطار الإيمان الصادق والنظر العقلي الصائب. (5) من الطبيعي أن يهتم المستشرقون بوجه عام بجوانب من ديننا وتاريخنا وتراثنا وحضارتنا لا نعطيها نحن القدر الكافي من الاهتمام. إن عين الآخر ترى ما لا نراه، وبحكم التعود والاطمئنان إلى المألوف والموروث تغيب عنا دقائق تاريخية وخفايا اجتماعية كثيرة ينتبه إليها الأجنبي الغريب بنظرة واحدة. من ذلك موضوع «البدو» أو «الأعراب» الذين وصفهم القرآن الكريم بالذين
آمنوا ولم يهاجروا ... فهم الفريق الثالث، إلى جانب المهاجرين والأنصار، الذين كان لهم وضع ديني وقانوني واجتماعي يميزهم عن هذين الفريقين، كما كانت لهم مشكلات تستحق الاهتمام بها من وجهة نظر التاريخ الاجتماعي والطبقي للإسلام (راجع المقال الثامن عن الذين آمنوا ولم يهاجروا)، ولعلهم كانوا يمثلون دور «الهامشيين» أو «الغرباء» الذين لم يندمجوا - على الأقل في فترة تاريخية معينة - في الجماعة الإسلامية اندماجا كاملا، وظلوا متمسكين - حتى بعد دخولهم في الإسلام - ببعض تقاليدهم وعاداتهم التي أخذوها ابنا عن أب عن جد، من حياتهم القبلية وانتمائهم القديم الموروث للقبيلة الذي كان يفوق أي انتماء آخر. وعلى الرغم من قصر هذه المقالة، فإنها في تقديري يمكن أن تفتح الباب لبحوث أشمل عن أوضاع هؤلاء البدو المغتربين أو الهامشيين، على الأقل في المرحلة المبكرة من تاريخ الإسلام. (6) وتشهد الدراسات والمقالات المقدمة في هذا الكتاب على عمق التعاطف العقلي والوجداني الذي يكنه المؤلف للإسلام والمسلمين (وربما يرجع أحد أسباب هذا المنحنى الفكري الموضوعي النزيه إلى انتمائه لبلد غير مثقل بتاريخ استعماري بغيض. ومن ثم لا تنطبق عليه الصورة التي رسمها إدوارد سعيد والعلامة محمود محمد شاكر للاستشراق المسخر لخدمة الاستعمار ...) وأوضح شاهد على هذا التعاطف المنصف والحكيم في وقت واحد هو المقال القصير الذي كتبه في سنة 1989م عن حاجة المسلمين الذين يعيشون في وطنه إلى تنظيم موحد يجمع شملهم على اختلاف لغاتهم وأصولهم، ويقرب الخلافات المذهبية التي طالما تسببت في التفريق بينهم، بل ودفعتهم في أوقات كثيرة إلى تجريد السيوف من أغمادها وكأنهم أعداء لم يوحد بينهم دين السلام والإسلام لوجه الله الواحد الذي وجههم لقبلة واحدة ... وقد كتب هذا المقال قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشئومة والمريبة، أي قبل أن تنخرط منظمات عديدة وتكتلات ضخمة من بعض العناصر اليهودية والمسيحية في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وتأليب القوى الغربية الغبية على شن الحرب عليهم وكأنهم أعدى أعداء السلام والنظام العالمي ... وأعتقد مخلصا أنه لو قدر للمؤلف أن يكتب هذا المقال بعد ذلك التاريخ المشئوم لما تغيرت لهجته الطيبة المتعاطفة، ولكن ماذا نفعل وقد أقعده المرض اللعين منذ حوالي سنة 1996م فحرمنا من نفثات قلم عالم إنسان يندر وجوده اليوم في العالم الغربي؟
وتتجلى أمانة «شتيبات» في عرضه الشامل للتطور السياسي والاجتماعي والحضاري الحديث في بعض البلاد العربية والإسلامية. وتدفعه هذه الأمانة إلى إلقاء الذنب في «خيبة الأمل» - التي تلخص الشعور العام للعرب والمسلمين بعد فشل نظمهم الحديثة على اختلاف أشكالها في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وإنسانية حقيقية - على كاهل الدول الصناعية المتقدمة التي يرجع جزء كبير من «أزمة الوعي» في العالم العربي والإسلامي إلى إحساس شعوبها بالتبعية لها والاعتماد عليها، سواء جاء ذلك مباشرة من خلال مخترعات تلك الدول المتقدمة وأفكارها وخططها التي استعارها العرب والمسلمون وجربوها دون نجاح يذكر، أو جاء بطريقة غير مباشرة من «المتغربين» من أبنائها الذين حصروا كل جهدهم في نقل نموذج «الحداثة» الغربية أو الدعوة للاقتداء بالغرب، بدلا من مراعاة ظروفهم التاريخية والتراثية أو ظروفهم الحاضرة، ومحاولة وضع نموذج مستقل تتحقق فيه الهوية الحضارية الذاتية بغير انغلاق عن الغرب ولا تهالك عليه. وهذه الشجاعة التي لم تمنعه من تحميل الغرب المتقدم، بتاريخه الاستعماري المجرم والظالم، مسئولية الأزمة وخيبة الأمل اللتين ذكرنا مدى حدتهما، هي نفسها التي جعلته يفسر الدوافع الحقيقية وراء حركات «الإحياء» أو «الصحوة الإسلامية» على اختلاف توجهاتها وأهدافها، وأن يبرر احتجاجها على التبعية للقوى الأجنبية ونموذجها الحضاري، وسعيها للبحث في الدين والتراث الإسلامي عن «السند الخاص» والمنبع الأصيل لهويتها الحضارية. ولا شك في أن حيرة العربي والمسلم بين السندين والمنبعين - الخاص والأجنبي - هي أحد الأسباب الأساسية الكامنة وراء «وعيه الشقي» وخيبة أمله المريرة. بجانب أسباب أخرى ترجع - كما سبق القول - لفشل النظم المختلفة في البلاد العربية والإسلامية وعجزها عن تحقيق التنمية والتحديث والتقدم والتنوير ... إلخ، بصور واقعية ملموسة، وأشكال قادرة على التطوير والتغيير الحقيقيين بدلا من التخفي وراء الأقنعة الخطابية والبلاغية المكرورة (راجع بحثه المهم عن الدور السياسي للإسلام، وتأمل تحليله لمسيرة الدولة الدينية في كل من إيران وباكستان وليبيا، والمشكلات والعثرات التي ما زالت تقع فيها، وسوف تشعر شعورا واضحا بأنه يميل إلى موقف «الحداثيين» الذين نجحوا - على رغم الاعتراضات المستمرة من جانب الأصوليين التقليديين وعلماء الدين - في تأكيد أن وجود الدولة المرتكزة على الشرع لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع التأثر الصحي بثقافة الغرب ومحاكاته - محاكاة حرة وخلاقة - في علمه وتقدمه واحترامه للحقوق الإنسانية كافة لإقرار السيادة الشعبية وتبني النظم الديموقراطية، كتداول السلطة، وانتخاب رئيس الدولة وممثلي البرلمان انتخابا شعبيا ...) أي إنه يقف - في هذا المقال وفي غيره - في صف التفسير الخلاق للنصوص الشرعية بما يلائم الضرورات والحاجات المتغيرة بتغير الزمن وظروف الحياة، كما يعبر هنا وفي مواضع أخرى عن يقينه الراسخ بأن الإسلام يقدم للمسلم مجالا واسعا للاجتهاد وتقديم تفسيرات جديدة وشجاعة للنصوص الشرعية، واتخاذ قرارات خاصة قد تسير به إلى الأمام أو ترجع به إلى الوراء. (7) ويتضح المنهج التاريخي النقدي الذي يتبعه المؤلف بأجلى صورة في بحثه عن «عمر الأول» - أي عمر بن الخطاب رضي الله عنه - الذي كان وسوف يبقى رمزا خالدا للعدل الخالص، وقدوة عالية لكل حاكم في تاريخ هذه المنطقة التي ما فتئت تشتاق إلى العدل (منذ عهد «جلجاميش» طاغية أوروك - كما نعرفه من أساطير السومريين ومن الملحمة البابلية الشهيرة - حتى كبار الطغاة وصغارهم في العصر الحديث). ويحلل المؤرخ الكبير الحكايات والأساطير التي نسجت حول هذه الشخصية النادرة، ويشرح الظروف التاريخية التي نشأ فيها وغيرته كما غيرها، أو أنتجته - كما نقول اليوم - وأنتجها: كيف تمت كبرى الفتوح الإسلامية بفضل حكمته وتوجيهه وصلابة عزيمته، وكيف «دون» الدواوين لمواجهة مقتضيات المد الإسلامي في بلاد جديدة وحضارات عريقة، وكيف استطاع أن يدمج القبائل العربية النافرة في موكب الإيمان الزاحف وتحت راية الرسالة الجديدة الموجهة للبشر كافة، وكيف أصر حتى النهاية على التوحيد بين العروبة وعالمية الإسلام في كيان جوهري واحد. هل نقول إن هذا التاريخ المجيد من صنع عمر أم إن عمر نفسه من صنعه؟ ولكن عمر لم يكن ليفهم هذا السؤال وأمثاله، ونظرية البطل والبطولة في صنع التاريخ - كما تبناها كارلايل والعقاد، أو كما تصورها هيجل في زعمه بأن «دهاء العقل» أو الروح المطلق يسخر الأبطال العظام لتحقيق أغراضه - هذه النظرية لا تصلح أيضا لتفسير عظمة هذه الشخصية التي جسدت المثل الإسلامي الأعلى في الواقع أو قربته منه إلى أقصى حد تقدر عليه طاقة البشر. لقد كان عمر نفسه يتخذ ما اتخذ من قرارات حاسمة وصارمة وهو يعلم أنه مجرد أداة لتحقيق خطة إلهية عهد إليه بتنفيذها، ومن ثم تجلت عظمته في «اختراق التراث» واستلهامه وتفسيره على نحو خلاق للاستجابة للظروف التاريخية والحضارية الجديدة، وبذلك استطاع أن يشكل هذه الظروف التي عملت عملها كذلك في تشكيله. وبذلك يبقى عمر نموذجا للحفاظ على التراث وتجديده في آن واحد، وصوتا محذرا من التمسك العبودي به من ناحية، ومن تجاهله والقفز فوقه عن جهل ورعونة من ناحية أخرى. (8) وتصل الرحلة إلى نهايتها مع البحث الطويل المهم عن «المسلم والسلطة» الذي يتناول قضية «تطبيق الشريعة» وتاريخ الدولة الإسلامية منذ أن كانت مثلا أعلى تحقق في الواقع في ظل الدولة الإسلامية الأولى التي أسسها الرسول - عليه السلام - في المدينة، إلى أن ابتعد المثال بالتدريج عن الواقع، وتنكر شيئا فشيئا للمبادئ الإسلامية نفسها في انتخاب الخليفة وتعيينه والمساواة بين الحكام والمحكومين أمام الله والشرع، وذلك منذ أن أصبح الحكم في عهد الأمويين ملكية دنيوية ووراثية، واضطر بعض علماء الدين في العصر العباسي إلى تبرير وجود الأمير الغاصب والظالم والطاعة له درءا للفتنة، بعد أن أصبح الخليفة تابعا تبعية مطلقة للقواد المرتزقة في عهد البويهيين والسلاجقة - وذلك عملا بالحديث المنسوب إلى الرسول: إمام ظالم غشوم خير من فتنة تدوم - وكيف أثر هذا على مر التاريخ في موقف المسلم من السلطة بحيث أصبح - على الأقل منذ محنة ابن حنبل حتى يومنا الحاضر - هو موقف «التقية»: أي تبرير الخضوع المطلق للسلطة التي يرى المسلم وجهيها في وقت واحد: الوجه «الأبوي» الذي يتصور أنه يحميه ويكفل له أمنه ورزقه، والوجه الظالم الكريه الذي لا حيلة له معه وليس في وسعه تغييره ولا التمرد عليه - على الأقل في الأوساط السنية - خوفا على نظام الدنيا ووحدة الجماعة واتقاء للفتنة. والمهم أن البحث يبين مدى صعوبة «تطبيق الشريعة»، وفشل كل المحاولات التي بذلت - بعد دولة المدينة الأولى - عبر التاريخ الإسلامي لتقريب المثال من الواقع وتحقيق المبادئ الإسلامية في السياسة العملية. ولعل الباحث يريد أن يقول إن الدولة الدينية تنتمي إلى عالم المثل الذي يستحيل تحقيقه في الدنيا وفي واقع البشر، ولكن يمكن أن نعاين ظله على الأرض عندما نعيش في حمى دولة «متدينة» تهتدي بأنوار الدين وتأخذ في الوقت نفسه بالأساليب الحديثة المتفق عليها في الديموقراطية أو الحكم بالشورى (كانتخاب رئيس الدولة، وسيادة الشعب، وتعددية الأحزاب والمنابر، وتداول السلطة، وتحقيق المساواة بين الحكام والمحكومين أمام الشرع والقانون، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في التفكير والاعتقاد والتعبير والنقد). ولعل التجارب الأخيرة في تأسيس الدولة الإسلامية - كما ناقشها في بحث سابق عن الدور السياسي للإسلام وتمثلت في باكستان وإيران وليبيا وغيرها من المحاولات العشوائية القصيرة العمر - لعل هذه التجارب، التي لم يكتب لها الاستقرار حتى اليوم، أن تقنع المسلمين بأن تطبيق الشرع في هذه الدنيا ممكن إذا استطاعوا تحقيق التوازن بين متطلبات الدين والمتطلبات التي تفرضها روح العصر وضروراته وحاجاته المتجددة كل يوم بل كل لحظة. (9) تلك هي البحوث والمقالات «الإسلامية» التي عرضناها في هذا الكتاب عرضا أمينا ودقيقا بقدر الطاقة. وراعينا في ترتيبها أن نبدأ بأحدثها - من حيث زمن كتابتها - وأشدها التصاقا بظروفنا وقضايانا المعاصرة (وهي ترجع إلى سنة 1996م)، وصولا إلى البحوث المبكرة التي يرجع أحدها إلى منتصف السبعينيات. وقد رأيت من الضروري، لكي تكتمل رؤية المستعرب الكبير للتاريخ العربي والإسلامي أمام القارئ العربي، أن أقدم تلخيصا وافيا لأبرز بحوثه ومقالاته عن جوانب مهمة من تاريخ العرب الحديث، وبدايات حركة القومية العربية في سوريا ولبنان، ونكبة فلسطين، ومشكلات النظام الثوري في مصر بعد انهيار الوحدة مع سوريا، ونظام التعليم قبل الاحتلال البريطاني لمصر ومشروعات إصلاحه عند طه حسين، فضلا عن عرض مقالين عن روايتين لهما أهميتهما الفكرية والفنية معا، وهما طواحين بيروت وأولاد حارتنا.
Unknown page