ولكن سوء التربية الاجتماعية والجهل يدفعان بالإنسان أن يتدخل في أمور غيره ناسيا شئونه الخاصة، فتحصل البلبلة ويقع الشجار وتسوء الحالة وتعم الفوضى.
وقد أصبح لسليم معارف ومعجبون، لا سيما بين الأجانب، ومن المواطنين المسيحيين الذين كانوا يتوسمون فيه الاستعداد ويرجون له المستقبل اللامع. وصادف أن اثنين من معارفه قابلا صديقا لسليم وسألاه عن أخباره، فأعلمهما لأمر ما أن سليما ترك الفن وفتح دكانا قرب بيته يبيع الخضار والفجل، ولأمر ما أكد لهما ذلك بعد الإلحاح، عندئذ لم يريا بدا من الذهاب لبيته ليجلوا الحقيقة بعد أن صعب عليهما الاعتراف بالخبر، فقصدا منزله، وهناك وجدا سليما منكبا كعادته على عمله، فوقفا وقد بدت عليهما الدهشة، وقد قرأ سليم على وجهيهما هذه الدهشة، وعندما سألهما أخبراه بالواقع.
فابتسم سليم كعادته في مثل هذه المواقف، وقد علمته الأيام منذ أبصر النور ما يضمر الناس لبعضهم في هذه البلاد من نوايا قد لا تنفعهم، ولكنها على كل حال لا تفيد غيرهم أبدا وقد تلحق بهم الضرر في بعض الأحيان.
وكأن هذه الأشياء ما كانت إلا لتزيد فتانا نشاطا وعزما، فإذا هو يصل ليله بنهاره جادا عاملا يتلقى العلم ويجمع المال لتلك الغاية.
ومعلوم أن لكل شيء حدا ولكل أمر نهاية، ولا بد للصبر أن ينفد، فقد ضاق سليم ذرعا بتطفل الأقارب والجيران والغرباء ومداخلاتهم في شئونه، فقد دخل يوما للبيت فإذا به يرى جمهورا من النساء يلتففن حول أمه وهن يأتزرن بالملاءات السود ويكلمن والدة سليم دفعة واحدة وبصوت عال.
وما إن أبصرن سليما داخلا حتى أنزلن المناديل على وجوههن تحجبا، ثم بادرنه بالكلام وهن غريبات عنه قائلات: «شو يا ابنا، أنت لساك شاب صغير، حرام تسافر وتترك أمك، وإذا كان في ما شاء الله غيرك في البيت لكن شو بدك بالسفر، بلاد بعيدة ما بتعرف فيها حدن، أحسن لك تشوف لك بنت ناس تتزوج بها بهالمصاري أو بتعمل لك بيت بتنستر فيه و... و...»
أما سليم، هذا الفتى الوديع الرقيق، فقد أضاع وعيه وأصبح كالذئب، فالتفت إليهن وقال بلهجة حازمة: «أنا ما بعرفكن ولا عمري تداخلت معكن؛ لذلك فالأحسن أن تذهب كل منكن لبيتها وتهتم بشغلها!» ثم التفت لأمه، وقد أخذ منه الغضب مأخذه وقال: «يا أماه، أنا استشرتك بالسفر احتراما لك، فأنا لم أطلب منك مالا ولا شيئا، فالمال مالي جمعته بعرق الجبين وسهر الليالي، لهذا أطلب الكف عن الحديث، وأنا مسافر لتحقيق غايتي التي سأشرف بها أهلي وبلادي، ولن أفعل كغيري أسرق ثم أدخل السجن.» ثم بعد هذا الكلام أبرز لهم بطاقة السفر.
وقد ساد سكوت رهيب؛ إذ انتصر الفكر على الجهل، والحق على التدجيل، والجد على الثرثرة، ثم خرج توا لإكمال عمله.
وعند المساء جاء سليم يرافقه الحمال ووضع حقائب السفر، ثم أخذ بإعدادها وتنظيمها دون أن ينبس بكلمة واحدة، وقد أدرك الجميع أن الأمر جد ولا مجال للشغب والجدل.
وفي المساء جاء بعض الأصحاب فأعادوا الحديث وكرروا النغمة لإرجاعه عن غايته في أمر السفر، ولكن سليما لم يفه بكلمة، بل ذهب وعرض عليهم حقائب السفر، فكان ذلك أفحم جواب وأبلغ حجة، وكان بين الحاضرين شاب نير الذهن فقال: «الحمد لله، لقد انتصر العلم على الجهل ...»
Unknown page