واستمر الحال مع معروف على هذا الشكل، كل يوم يبعث بسل محشو بالأغراض، أو يحمل الخادم صدرا من الحلو، من بقلاوة أو كنافة أو عثملية وغيرها.
وكانت أمه، وقد غيرت رأيها فيه تقول: «الله يرضى عليه، معروف الله هداه وصار آدمي وشغيل، وهو يرسل لنا الخيرات والطيبات.»
ومضت ليال لم يأت معروف فيها إلى البيت، وقبيل انبثاق الفجر داهمت الشرطة ومعها المحقق بيت معروف الذي أصبح في السجن منذ أمس بسبب اقترافه سرقة أحد المحلات الهامة في المدينة.
وعندما خرج المحقق ومن معه، وقد سمع الجيران الضجيج والجلبة، قالت أم معروف للجيران، وهي تحاول ستر الطابق، وقد خجلت من هذا اللقب الجديد الذي أتاهم به ولدهم، قائلة: «الحمد لله، ما في شي أبدا، جاءوا بالغلط، معروف بألف خير.»
وبالطبع فإن معروفا بألف خير في سجنه وقد وجد مكانه اللائق ونهايته المحتمة؛ لأن أمثاله يجدون في هذا الجو المكان الصالح والتربة الملائمة لنمو مواهبهم وظهور مؤهلاتهم؛ لذلك ما إن دخل معروف إلى السجن حتى تلقاه زملاؤه بالترحاب، وأفسحوا له المقام اللائق به، وكالعادة أخذ يقص عليهم سبب حلوله ضيفا بينهم، ساردا مغامراته في عالم البطولة، وكان لا ينسى أن يفتل شاربيه بين الحين والحين وهو يقص حوادثه الجريئة، ومعروف كأمثاله من هذه الطبقة، ذو خيال خصب في ابتداع القصص والمبالغة فيها وسرد ما كان وما لم يكن، هو فنهم الذي برزوا فيه، وتربيتهم التي نشئوا عليها، فإذا كان مثلا ارتكب سرقة، قال إنه قام بضرب من ضروب البطولة، وإذا اعتدى على بعض الأبرياء، زعم أنه قام بمأثرة إنسانية أو عمل خيري، وإذا قتل فأرا راح يملأ الدنيا صورا عجيبة عن بطولته، حتى يصير الفأر في خياله أسدا رهيبا.
وعندما طالت غيبته ولم يعد يأنس الجيران بصراخه وشتائمه، التي تبدأ بسب الدين عند الصباح والظهر والمساء، كانت أمه تجيب عند سؤال الجيران عن أخباره (بأنه يقبر أمه) مسافر إلى حلب لمشترى أغنام، ولكن إحدى جاراتها عرفت من زوجها الموظف عن محاكمته بتهمة السرقة، وقد أعياها امتداد حبل الكذب، فقالت لها مرة بخبث: «لعل معروفا وهو عائد من حلب بأغنامه قد تعب، فعرج ليستريح قليلا في بيت خالته،
1
على الرمل!»
لنترك معروفا يبني مجده في السجن، ولنتابع سليما، فهو ما زال يكمل دروسه بجد ليلا، ويصور في النهار لبعض الناس ليظفر بالمال الحلال؛ لأنه وطد النية على السفر إلى فرنسا أو إيطاليا لإكمال دروسه فيها، وإنه لمن العسير على الإنسان أن يتصور كم لاقى هذا الشاب من الصعوبة والإرهاق من الزبائن وطباعهم وحيلهم وإقناعهم بضبط صوره كي يدفعوا له أجره، كم مرة ترك الزبون الصورة ولم يعد، وكم مرة تآمروا عليه بأساليب شيطانية، وفازوا مجانا بالصورة التي أضاع فيها نور عينيه وبذل حشاشة قلبه، وأخيرا عندما تجمع لديه مبلغ من المال، عرض فكرة السفر على والدته؛ لأنه كان يعتقد لصفاء نفسه، أن رضاء الوالدين هو أمر أساسي وعنصر من عناصر النجاح؛ لذلك ما كاد يعرض فكرة الرحيل على والدته حتى غضبت قائلة: «إياك والسفر، بلاد الإفرنج تفسد عليك أخلاقك وتضيع بينهم، وأنت لا تزال فتى لا تعرف شيئا ولا تستطيع إنقاذ نفسك، فالأحسن يا بني أن تبقى في بلدك وأن تفتح دكانا تربح منها بعض الدراهم مثل قرايبك خليل وجارنا فؤاد وابن صديقنا حسن، ثم منين طالع لنا بآخر هالزمان بهذه الأفكار؟ لا أبوك ولا جدك ولا أحد من أهلك سافر قبلك لباريس، أو روما أو ... ما بعرف بعد ... الأحسن قعود في بلدك ...»
وقد انتشر خبر سفر سليم لأوروبا في الحي، والنساء عندنا معلوم حالهن، فعندهن من المقدرة في سرعة نشر الأخبار ما تعجز عنه أعظم وكالات الأخبار العالمية، كما أن لديهن من الوقت لاستطلاع أخبار الناس ودس أنوفهن في مصالح الغير، وتحليل أمور الناس الخاصة بدقة وتفصيل عجيبين، نشاطا لو صرفن جزءا صغيرا منه في أمورهن الخاصة لكانت حالة المجتمع العربي بألف خير.
Unknown page