لم تكن أمها تفهمها. وحين تراها في مكانها المعهود في السرير تزحف بهدوء إلى جوارها وتحتل مكان أبيها. وكما كانت تراه يفعل تلف ذراعيها الصغيرتين حول عنقها الكبير. كانت تدرك بإحساس يقيني أن جسد أمها هو الوحيد الذي يفهمها. وتلتف ذراعا أمها الكبيرتان حولها بقوة غريبة تكاد تسحقها.
ذلك الحين كانت تقرأ قصص الأطفال والأساطير الخرافية. في إحدى تلك الأساطير كان هناك إله رهيب يعبده الناس في مدينة سحرية، هذا الإله كان قادرا على أن يمسك بيده الواحدة أي شيء صلب، ويضغط عليه، ثم يفتح يده، فإذا بها فارغة.
وكانت تنزعج أمام هذه القوة التي تهدد وجودها انزعاجا فطريا لم تفهمه في طفولتها، لكنها أصبحت تفهمه بالتدريج، وأدركت من بعد أنها كانت تفهمه منذ البداية، منذ اللحظة التي اكتشفت فيها أن لها جسدا خاصا منفصلا عن جسد أمها.
هذه اللحظة لا تغيب عن ذاكرتها، الألم فيها كان كالسكين الذي يمزق اللحم من اللحم، ومع ذلك لم يكن ألما حقيقيا، حين دارت يدها دورة كاملة حول جسدها المستقل قفزت في الهواء قفزة عالية، كعصفور يطير من الفرح، لكنها لم تكن عصفورا، وسقطت على الأرض «بسبب الجاذبية الأرضية»، منذ ذلك السقوط وهي تعرف وزن جسدها الخاص، تعرف أنه أثقل منها، وأن الأرض تشده إليها بقوة أكثر من قوتها، كذراعي أمها تشدانها إليها مرة أخرى، وبكل قوتها تحاول أن تجعل جسديهما شيئا واحدا، بلا جدوى فالانفصال الأبدي حدث في لحظة مضت ولن تعود.
منذ طفولتها وهي تحس المأساة فوق جسدها الخاص، تحملها معها في كل خطوة، داخل كل خلية من خلاياها. رغبة جامحة في العودة من حيث أتت في الخروج من مجال الجاذبية الأرضية، في أن تصبح بغير جسد له ثقل، وله سطح، وله حدود خارجية تفصله عما حوله، رغبة جامحة في الذوبان كذرات الهواء في الكون، والتلاشي الكامل النهائي.
كانت تحملق في صورة الإله الخرافي، وتدقق في أصابعه الكبيرة وهي تسحق الأشياء بضغطة واحدة، وحينما تنهض في اليل مفزوعة تتسلل إلى سرير أمها وأبيها وتدس جسمها الصغير بين جسميهما العاريين، لكن ذراعي أبيها الكبيرتين تشدانها بعيدا عنهما، بكل قوته يبعدها. أما أمها فتنظر إليها بعينين سوداوين تشبهان عينيها وتقول بصوت حان: اذهبي إلى سريرك يا بهية، لقد كبرت.
صوتها كان حانيا، تحس حنانه كالأصابع الناعمة فوق جسدها، تدور برقة وحنان، تدور دورة كاملة وكأنها ترسم خطوط جسدها، تحدده عن الكون الخارجي، وتبكي وحدها في سريرها بسبب ذلك الحنان، الذي يلامسها برقة ويؤكد وجودها المستقل، وكيانها الخاص المنفصل، وتنشج ببكاء مكتوم يرجها ويرج السرير، وتجتاحها الرغبة الجامحة في أن تكف هذه الأصابع عن حنانها الخادع، وأن تضغط عليها بقوة رهيبة، تخلصها إلى الأبد من جسدها وتجعلها هي وأمها شيئا واحدا.
أغمضت عينيها لتنام لكنها لم تنم، تملكها الفزع لفكرة غريبة خطرت لها، ذلك أنها ستفني حياتها كلها بحثا عن هذه اللحظة أو هربا منها، وخبأت رأسها تحت اللحاف من شدة الرعب، وامتلأت حجرة نومها بأشباح الأساطير والآلهة الخرافية، يضغطون على جسدها ليسحقوها وهي تقاوم بكل قوتها، ترفسهم بقدمها، وتعضهم بأسنانها، وتصرخ مستنجدة بأبيها وأمها.
صراخها لم يكن خوفا حقيقيا، كان خدعة، تخدع بها أمها. كانت تتعلم الخداع منها، كانت أمها تكذب عليها، تنام معها في سريرها وتقول لها إنها لن تتركها، وفي منتصف الليل تحس بها وهي تتسلل خارج سريرها وتذهب إلى سرير أبيها، وكانت تفعل مثلها تماما، تعرف كيف تصرخ بصوت مرتعش مثير للشفقة، وتأتي أمها إليها وتنام في سريرها.
لم تكن أمها تفهم رغبتها، كانت تملأ فمها بالطعام، وحين تستدير تبصق الطعام في الصحن، وتعجب كيف أن أمها لا تعرف مع أنها كانت مثلها. سألتها مرة فقالت إنها لا تذكر شيئا، وأدركت أن الناس تنسى عن قصد الذكريات الحقيقية، ثم تملأ ذاكرتها بأشياء لم تحدث.
Unknown page