ولأن العقل البشري عاجز عن إدراك حقيقة الأشياء، فقد أصبحت معروفة عند الجميع كبهية شاهين، أما حقيقتها فلم تكن معروفة لأحد.
وكانوا يندهشون حينما تسير، وتصبح هناك مسافة مرئية بين ركبتيها. وتراهم يحملقون في هذه المسافة، فتتظاهر بأنها لا تراهم، وتواصل سيرها، تحرك ساقيها وتفصل بينهما، وتدب بكل قدم على حدة فوق الأرض، بقوة تدرك بها عن يقين أنها ليست بهية شاهين.
ذلك اليوم بلغت الثامنة عشرة. كانت تقف وقفتها الطبيعية «الشاذة في نظر المجتمع» قدمها اليمنى على حافة المنضدة الرخامية، وقدمها اليسرى فوق الأرض. وقفة لا تستطيع أن تقفها أية فتاة في ذلك الوقت، ولا أي فتى أيضا. فهي تحتاج إلى ساقين على قدر كبير من الثقة بمرونة عضلاتهما وقوة عظامهما واستقامتهما. وكانت سيقان الفتيان في معظم الأحوال معوجة «بسبب نقص التغذية في الطفولة» والفتى منهم لا يستطيع أن يرفع قدمه ليضعها على حافة المنضدة الرخامية العالية على أن تظل قدمه الأخرى فوق الأرض. أقصى ما كان يستطيعه الواحد منهم هو أن يرفع إحدى قدميه ويضعها على حافة المقعد الخشبي المنخفض. وكانت ترى معظم الفتيان يقفون هذه الوقفة، فهي عادية ومسموح بها للذكور فحسب.
الوحيد الذي كان يستطيع أن يرفع قدمه أكثر ليضعها على حافة المنضدة هو الدكتور علوي أستاذ التشريح. يمر بين المناضد بمعطفه الأبيض ونظارته البيضاء، وحين يقف عند أي منضدة يخفض الطلبة أقدامهم المرفوعة على المقاعد، ويقفون أمامه فوق ساقين تكادان تلتصقان. أما هو فيرفع قدمه عاليا في الهواء، ويضعها بكل ثقة على حافة المنضدة، وينظر مباشرة في عيون الطلبة، بعينين زرقاوين لا ترمشان.
حين كان يقف عند منضدتها لم تكن تخفض قدمها. وحينما يصوب إليها عينيه الزرقاوين تصوب إليه عينيها السوداوين. كانت تدرك أن اللون الأسود أشد قوة من اللون الأزرق وبالذات في العينين. الأسود هو الأصل، هو الجذر العميق الممدود في بطن الأرض.
بين أصابعه البيضاء المحمرة كان يبرز الملقط المعدني، يمده في بطن الجثة المفتوح، أو الذراع، أو الساق، أو الرأس، أو العنق، ويمسك أي شيء بطرفيه الرفيعين ويصيح بصوته الحاد: ما هذا؟ دائما كان يلتقط أصغر الأشياء وأدقها. وريد صغير يجري تحت عضلة صغيرة، شريان رفيع مختف في ثنية جلد، عصب دقيق كالشعرة لا يكاد يمسك بالملقط.
كن ثماني فتيات حول جثة واحدة. وبينهن واحدة أو أكثر تحفظ أسماء الأوردة والشرايين والأعصاب عن ظهر قلب. فما أن يسأل الدكتور علوي: ما هذا؟ حتى يرن في المشرحة صوت أنثوي حاد ومنخفض في نفس الوقت بالاسم الصحيح.
في كل مرة كان ينظر إليها، متوقعا مرة أن ترد، أن تثبت له أنها تعرف الإجابة لكنها كانت ترفض من حيث لا تدري أن يمتحنها أحد.
ذلك اليوم، الرابع من سبتمبر، كانت تحس أن شيئا خطيرا سيقع في حياتها. كل سنة في مثل هذا اليوم ينتابها هذا الإحساس. تفتح عينيها في الصباح وترى الشمس متوهجة بشكل غير عادي، وعيني أمها أكثر حدة وبريقا، وتهمس لنفسها بصوت خافت: في مثل هذا اليوم حدث لأمي شيء خطير في نظري، فقد ولدتني. وفي كل مرة تحس أن شيئا خطيرا سيحدث في هذا اليوم، أشد خطورة من كونها تولد.
وحينما تهمس في أذن أمها بهذا الخاطر تضحك تلك الضحكة الأنثوية المألوفة في ذلك الوقت، المكتومة على شكل شهيق متقطع وتقول: اعقلي يا بهية.
Unknown page