طوال الطريق إلى بيتها كنت أحكي قصتي، تركنا شارع النيل ودخلنا في شارع صغير جانبي، وبعد قليل صعدنا في إحدى العمارات الكبيرة، وارتجف جسدي وهو يرتفع وحده إلى أعلى داخل المصعد، وأخرجت من حقيبتها مفتاحا، ووجدت نفسي على النيل، أخذتني إلى الحمام لأستحم، وعلمتني كيف أفتح الماء الساخن والبارد، وأعطتني ملابس من عندها، ملابس ناعمة يفوح منها عطر جميل، وأصابعها وهي تمشط لي شعري أو تعدل ياقة الفستان حول عنقي ناعمة، وكل شيء من حولي ناعم، وأغمضت عيني تاركة نفسي للنعومة، وجسدي أصبح ناعما كجسد طفل ولد منذ لحظة.
حينما فتحت عيني ورأيت نفسي في المرآة؛ أدركت أنني أولد من جديد، بجسد ناعم نظيف، وملابس ناعمة نظيفة، وبيت نظيف، وهواء نظيف، وتنفست بعمق لأملأ صدري بالهواء النظيف، وتلفت حولي فرأيتها واقفة تنظر إلي بعينين يشع منهما ضوء قوي أخضر بلون الشجر ولون السماء ولون النيل، وألقيت بنفسي بين عينيها، وحوطتها بذراعي وأنا أقول: من أنت؟ قالت: أمك. قلت: أمي ماتت من سنين. قالت: أختك. قلت: ليس لي أخت ولا أخ، كلهم ماتوا وهم صغار كالكتاكيت. وقالت: كل الناس تموت يا فردوس، وأنا سأموت وأنت ستموتين، ولكن المهم أن تعرفي كيف تعيشين. قلت: وكيف أعيش؟ الحياة قاسية، ولا يعيش إلا من هو أقسى من الحياة يا فردوس، الحياة قاسية، ولا يعيش إلا من هو أقسى منها. وقلت: ولكنك لست قاسية، فكيف تعيشين يا شريفة؟ وقالت: أنا قاسية شديدة القسوة. قلت: ولكنك رقيقة ناعمة. قالت: بشرتي ناعمة، لكن قلبي قاس ولدغته قاتلة، قلت: كالحية. قالت: نعم، كالحية، والحية والحياة شيء واحد يا فردوس، إذا عرفت الحية أنك لست حية مثلها قرصتك، وإذا عرفت الحية أنك لا تلدغين لدغتك.
وأصبحت تلميذة صغيرة بين يدي شريفة، تفتح عيني على الحياة، وتسلط الضوء على حوادث لم أعرفها، وملامح من وجهي وجسدي لم أرها من قبل، عرفت أن لي عينين سوداوين فيهما بريق يشد إليه العيون، وعرفت أن أنفي ليس كبيرا وليس مكورا، وإنما هو أنف له نعومة وفيه امتلاء، ينم عن شهوة حادة قادرة على النهم، وجسدي ممشوق، وفخذاي عضلاتهما مشدودة قادرة على أن تشد أكثر وأكثر، وعرفت أنني لم أكره أمي ولم أحب عمي، ولم أعرف بيومي ولم أر رجلا آخر من أتباع بيومي. وقالت لي شريفة: بيومي وأتباع بيومي لم يعرفوا قيمتك؛ لأنك تعرفين قيمة نفسك، الرجل يا فردوس لا يعرف قيمة المرأة، ولكن المرأة هي التي تحدد قيمتها، كلما كان ثمنك غاليا أدرك الرجل قيمتك، ودفع لك من عنده، وإذا لم يكن عنده سرق من الآخرين وأعطاك. تساءلت في دهشة: وهل لي قيمة يا شريفة؟ وقالت : أنت جميلة ومثقفة. قلت: مثقفة؟! لم أحصل إلا على الثانوية. قالت: وهل هذا قليل؟ أنا لم أحصل على الابتدائية. قلت بشيء من الحذر: وهل لك قيمة يا شريفة؟ قالت: بالطبع، لا يمكن أن يلمسك أحد دون أن يدفع غاليا، وأنت أكثر شبابا مني وأكثر ثقافة، ولا يمكن أن يلمسك أحد دون أن يدفع ضعف ما يدفعه لي. قلت: ولكني لا أستطيع أن أطلب من الرجل شيئا. قالت: لا تطلبي شيئا، ليس هذا هو شأنك ... إنه شأني أنا.
أيمكن أن يتغير النيل والسماء والشجر؟! ولكني تغيرت، فلماذا لا يتغير النيل؟ ولماذا لا يتغير لون الشجر؟ كنت أفتح النافذة كل صباح فأرى النيل وأرى الشجر لونه أخضر، والخضرة يشع منها ضوء قوي داكن يشعرني بقوة الحياة وقوة جسدي وقوة الدم الساخن داخل عروقي، يبعث الدفء في جسدي: دفء ناعم نعومة الملابس الحريرية، والسرير الحريري، وعطر كعطر الورد يملأ أنفي، وأترك جسدي يغرق في الدفء والنعومة والعطر، وأمدد ساقي تحت الغطاء الحريري، وأدفن وجهي في الوسادة الحريرية، أنهل النعومة بأنفي وفمي وأذني.
وفي الليل تسقط أشعة القمر فوق جسدي بيضاء حريرية، وأصابع الرجل أيضا بيضاء حريرية، وأظافر بيضاء نظيفة، ليست كأظافر بيومي السوداء بلون الشاي الأسود، ولا أصابع عمي من تحتها طبقة من الطين الأسود، وأغمض عيني وأترك جسدي يعزف في الضوء الأبيض، وأحس الأصابع الحريرية فوق وجهي وفوق شفتي، تهبط فوق عنقي، وتغوص بين ثديي، وهي تهبط فوق بطني، أسفل بطني بين فخذي، وأحس الانتفاضة في جسدي، انتفاضة غريبة في بدايتها لذة تشبه الألم، وفي نهايتها ألم يشبه اللذة، لذة قديمة قدم حياتي، عرفتها منذ زمن بعيد ونسيتها منذ زمن بعيد، أبعد من عمري الذي عشته، وأبعد من اليوم الذي ولدت فيه، فكأنها تنبعث من جرح قديم في جسدي، أو من عضو خارج جسدي، واحدة أخرى، أحسها كما لو كانت تنبعث من جسد امرأة أخرى غيري.
وقلت لشريفة ذات يوم: لم لا أحس يا شريفة؟ وقالت شريفة: نحن نعمل يا فردوس، والعمل عمل، لا تخلطي بين العمل والإحساس. قلت: ولكني أريد أن أحس يا شريفة. وقالت شريفة: الإحساس يا فردوس لن يعطيك شيئا إلا الألم. وقلت: أليست هناك لذة، أية لذة ولو ضئيلة؟ وضحكت شريفة بشدة، ورأيت أسنانها البيضاء الصغيرة المدببة تتوسطها السن الذهبية، وقالت: ألا تشعرين بلذة حين تأكلين الفراخ المحشوة بالأرز؟ ألا تشعرين بلذة وأنت تعيشين في هذا البيت الدافئ النظيف المطل على النيل؟ ألا تشعرين بلذة حين تفتحين النافذة كل صباح وترين النيل والسماء والشجر؟ ألا يكفيك كل هذا؟ لماذا تطلبين أكثر؟!
لم يكن ما أطلبه جشعا، ولكني كنت قد فتحت النافذة ككل يوم فلم أجد النيل؛ موجود أمام عيني لكني لم أعد أراه، وكأنما عين الإنسان لم تر الموجود، والعطر أيضا تحت أنفي موجود ليل نهار، فلم أعد أشم العطر، وكأنما الأنف كالعين لا تدرك الموجود، والنعومة، والحرير، والفراش الوثير، والطعام، وكل شيء موجود، أصبح كأنما هو غير موجود.
ولم أكن أخرج من البيت، بل لم أكن أخرج من حجرة النوم، بالنهار وبالليل أظل مصلوبة فوق السرير، وفي كل ساعة يدخل رجل، رجال كثيرون: من أين يأتون! وكلهم متزوجون، كلهم متعلمون، وكلهم يحملون حقائب جلدية ثقيلة، والمحافظ في جيوبهم الداخلية ثقيلة، وأجسادهم ثقيلة بسنين طويلة طول الدهر، وبطونهم ثقيلة بشبع زائد عن الحد، وعرق غزير مختزن يملأ أنفي برائحة عطنة كرائحة الماء الراكد. وأبعد أنفي عن الرائحة، لكنهم يشدون أنفي، ويغمسونه في الرائحة، ويغرزون أظافرهم الطويلة المدببة في جسدي، وأطبق فمي لأكتم الصرخة، لكن شفتي تنفرجان رغم إرادتي عن أنة خافتة مكتومة، يسمعها الرجل منهم فإذا بصوته الغبي يرتطم بأذني: أتشعرين بلذة؟ وأكور شفتي لأبصق في وجهه، فإذا به يمسك شفتي بأسنانه، وأحس لعابه اللزج داخل فمي، فأطرده بلساني إلى فمه مرة أخرى.
رجل واحد فقط لم يكن غبيا، ولم يسألني أتشعرين بلذة، ولكنه سألني: أتشعرين بألم؟ وقلت: نعم. قال: ما اسمك؟ قلت: فردوس، وأنت؟ قال: أنا فوزي. قلت: كيف عرفت أنني أشعر بألم؟ قال: لأني أحس بك . وقلت في ذهول: تحس بي! قلت: لا أدري، وشريفة قالت لي العمل عمل ليس فيه إحساس. وضحك ضحكة قصيرة وهو يقبلني فوق شفتي وقال: شريفة تضحك عليك؛ تكسب من ورائك، وأنت لا تأخذين شيئا إلا الألم. وبكيت فمسح دموعي وحوطني بذراعيه فأغمض عيني وقبلني فوق جفني برقة وهو يقول: أترغبين في النوم؟ قلت: وشريفة؟ قال: لا تخافي من شريفة. قلت: وأنت، ألا تخاف منها؟ ضحك ضحكته القصيرة وقال: وهي التي تخاف مني.
كنت لا أزال نائمة في سريري وعيناي مغمضتان، لكن أصواتا خافتة وصلت أذني من خلال الجدار الذي يفصل حجرتي عن حجرة شريفة، وسمعت صوتها وهي تتحدث مع رجل خيل إلي أنني سمعت صوته من قبل. - ستأخذها مني يا فوزي؟! - سوف أتزوجها يا شريفة. - أنت لا تتزوج يا فوزي. - هذا في الماضي، ولكني كبرت وأريد ابنا. - ليرث الأرض والأموال؟! - لا تسخري مني يا شريفة، لو أردت أن أكون صاحب ملايين لأصبحت، ولكني رجل يعشق لذائذ الحياة، وأكسب المال لأنفقه، ولا شيء يستعبدني، لا المال ولا الحب. - أتحبها يا فوزي؟! - وهل أنا قادر على الحب يا شريفة؟! ألم تقولي لي إنني رجل فقدت القدرة على الحب؟! - أنت لا تحب يا فوزي ولا تتزوج، ولكنك تريد أن تأخذها مني كما أخذت كاميليا من قبل. - كاميليا هي التي جاءت معي. - وقعت في حبك، أليس كذلك؟! - النساء تحبني، ما ذنبي أنا؟! - الويل لمن تحبك يا فوزي. - إذا لم أحبها. - وهل أنت تحبها يا فوزي؟ - أحيانا. - هل أحببتني يا فوزي؟ - أتعودين إلى هذا السؤال يا شريفة؟ ليس عندي وقت كما تعرفين، سوف آخذ فردوس. - لن تأخذها. - سآخذها. - أتهددني يا فوزي؟ ولكني لم أعد أخاف من تهديدك، لا تستطيع يا فوزي أن تسلط علي البوليس، فأنا الآن لي في البوليس معارف وأصدقاء أكثر منك. - وهل أنا رجل يلجأ إلى البوليس؟ الرجل الضعيف هو الذي يلجأ إلى البوليس، فهل أنا رجل ضعيف يا شريفة؟! - ماذا تقصد يا فوزي؟! - أنت تعرفين. - ستضربني يا فوزي؟! - منذ فترة طويلة لم أضربك، ويبدو أن عندك حنينا إلى الضرب. - إذا ضربتني سأضربك يا فوزي. - هذا جميل، وسنرى من يغلب فينا. - إذا وضعت يدك علي يا فوزي، فسوف أحضر لك شوقي. - من هو شوقي هذا؟ هل لك رجل غيري؟ أتحبين رجلا غيري يا شريفة؟ أتجرؤين؟!
Unknown page