وأصبحت أنام في سرير طوال الشتاء والصيف أيضا، لم يضربني مرة واحدة، ولم ينظر في صحني وأنا آكل، كنت أعطيه السمكة كلها ولا آخذ لنفسي إلا الرأس أو الذيل، وإذا ما طبخت أرنبا أعطيته الأرنب، ولم آخذ إلا الرأس. كنت أنهض من مقعدي دائما قبل أن أشبع، وحين أكون ذاهبة إلى السوق أتطلع إلى بنات المدارس وهن سائرات في الشارع، وأتذكر أنني كنت واحدة منهن وأنني حاصلة على الشهادة الثانوية، وتوقفت مرة أمام بعض الطالبات وأنا أتطلع إليهن، فإذا بهن ينظرن بازدراء إلى ملابسي ورائحة السمك تغرقني، فقلت لهن: إنني حاصلة على الشهادة الثانوية، فإذا بهن يسخرن مني، وسمعت واحدة تهمس في أذن زميلتها وتقول: يبدو أنها مجنونة، انظري إنها تكلم نفسها! ولم أكن أكلم نفسي، ولكني كنت أقول: إنني حاصلة على الشهادة الثانوية.
وحين عاد بيومي في تلك الليلة قلت له: إنني حاصلة على الثانوية، وأريد أن أعمل، فقال لي: إن المقهى يمتلئ كل يوم بشباب بغير عمل، كلهم حاصلون على شهادات من الجامعة. وقلت: ولكني لا بد أن أعمل، لا أستطيع أن أستمر هكذا، وسألني دون أن يرفع عينيه إلى وجهي: ماذا تقصدين بكلمة «هكذا»؟ قلت وأنا أتلعثم: لا يمكن أن أستمر في أن أعيش في بيتك، فأنا امرأة وأنت رجل والناس تتكلم، وأنت وعدتني بأن أبقى حتى تجد لي عملا، ورد بغضب: وماذا أفعل؟ هل أخلق عملا من المساء؟ قلت: أنت مشغول طول النهار بالمقهى، ولم تبحث لي عن عمل، وسأخرج اليوم لأبحث بنفسي عن عمل.
كان صوتي منخفضا، وكنت مطرقة إلى الأرض، لكنه انتفض واقفا وصفعني على وجهي وهو يقول: أترفعين صوتك على صوتي يا بنت الشوارع يا ساقطة؟! كفه كانت كبيرة قوية، أقوى كف تسقط على وجهي، جعلت رأسي يرتج في الهواء عدة مرات، وارتجت الأرض والحجرة من حولي، فأمسكت رأسي بيدي، وحين استقرت الأرض والحجرة مرة أخرى رفعت رأسي والتقت عيناه بعيني.
وكأنما أرى العينين لأول مرة، عينان سوداوان تنظران في عيني، وتتحركان ببطء شديد فوق وجهي وعنقي، وتهبطان ببطء أشد فوق صدري وبطني، وتستقران في النهاية أسفل بطني بين فخذي، سرت فوق جسدي رجفة باردة كرجفة الموت، وامتدت يدي دون أن أحس، وأخفيت بطني وفخذي، لكن يده القوية الكبيرة امتدت ونزعت يدي، وضربني بقبضة يده في بطني حتى فقدت الوعي.
وأصبح يغلق علي باب الشقة قبل أن يخرج، وأصبحت أنام على الأرض في الحجرة الأخرى، ويأتي في منتصف الليل يشد عني الغطاء ويصفعني ويرقد فوقي، لم أكن أفتح عيني، وأترك جسدي تحت جسده بغير حركة ولا رغبة ولا لذة ولا ألم ولا أي شيء، جسد ميت لا حياة فيه، كقطعة من الخشب، أو جورب من القطن، أو فردة حذاء، وذات مرة أحسست أن جسده أثقل مما كان، وأنفاسه لها رائحة لم أشمها من قبل، وفتحت عيني فرأيت فوق وجهي وجها آخر غير وجه بيومي، وقلت: من أنت؟ قال: أنا بيومي. قلت: لست بيومي. قال: أنا وبيومي شيء واحد، وسألني: أتشعرين بلذة؟ وخفت أن أقول: لا أشعر بشيء، وأغمضت عيني وقلت: نعم، فغرز أسنانه في لحم كتفي، وعضني عدة مرات في صدري وبطني وهو يردد: يا مرة يا بنت ال ... وسب أمي بكلمة لم أستطع أن أسمعها أو أنطقها، لكني سمعتها بعد ذلك كثيرا من بيومي ومن أصدقاء بيومي حتى تعودت سماعها، وتعودت أن أنطقها أحيانا حين أحاول فتح الباب فأجده مغلقا، فأضرب الباب وأقول: يا بيومي يا ابن ... وكدت أن أسب أمه بالكلمة نفسها النابية، لكني تداركت الخطأ، وأصبحت أسب أباه بدلا من أمه.
ورأتني إحدى الجارات ذات يوم وأنا أبكي من خلال شراعة الباب، فسألتني وحكيت لها فبكت معي، وقالت: إنها ستطلب البوليس، لكني فزعت من كلمة البوليس، وطلبت منها أن تحضر نجارا ليفتح الباب، وجاء النجار وفتح الباب، فخرجت من بيت بيومي إلى الشارع أجري، أصبح الشارع هو المكان الآمن الذي أجري إليه، وألقي فيه بكل نفسي، كنت أجري ومن حين إلى حين أنظر خلفي، فإذا لم أر وجه بيومي انطلقت أجري.
ووجدت نفسي في نهاية النهار في شارع لا أعرفه، شارع نظيف، مرصوف بالأسفلت، يطل على النيل، وعلى جانبيه أشجار عالية، والبيوت تحوطها أسوار وحدائق خضراء، والهواء دخل صدري نظيفا خاليا من التراب، ورأيت مقعدا حجريا بحذاء النيل فجلست، وتركت وجهي في مواجهة الهواء المنعش وأغمضت عيني، لكني سمعت صوت امرأة يأتيني من جواري ويقول: ما اسمك؟ وفتحت عيني، فرأيت عينيها، لون أخضر، يحوطني ويلفني ويغرقني.
إحساس غريب بأنني أغرق في خضرة داكنة لها كثافة، ولها ملمس كملمس ماء البحر، أغرق فيه وأنا نائمة أحلم، أغوص في الماء فلا يصيبني البلل ولا أغرق، أترك نفسي في جوف البحر، يبتلعني حتى القاع، أو يرفعني برفق فوق السطح دون أن أسبح وأتحرك.
وأحسست بجفني يثقلان كأنما سأنام، لكن الصوت عاد إلى أذني، صوت ناعم له نبرة ناعسة: أنت متعبة، شددت جفني بقوة وقلت: نعم. ازدادت الخضرة داخل عينيها قوة وحدة، وقالت: ماذا فعل بك الكلب؟ انتفضت كمن يصحو من النوم فجأة: من هو؟ قالت وهي تلف الشال الأخضر حول كتفيها وتتثاءب: أي كلب منهم، كلهم كلاب تحت أسماء مختلفة: محمود، حسنين، فوزي، صبري، إبراهيم، عوضين، بيومي ... قاطعتها لاهثة: بيومي!
ضحكت بشدة، ورأيت أسنانها صغيرة بيضاء مدببة، تتوسطها سن ذهبية: أنا أعرفهم كلهم، من الذي بدأ: أبوك، أخوك، خالك، عمك؟ انتفض جسدي فوق المقعد الحجري: عمي! ضحكت مرة ثانية وألقت بالشال الأخضر وراء ظهرها وقالت: وماذا فعل بيومي بك يا ... لم تقولي لي اسمك، ما اسمك؟ قلت: فردوس، وأنت من أنت؟ قالت وهي تشد ظهرها وعنقها في كبرياء غريب: أنا شريفة صلاح الدين، وكل الناس تعرفني.
Unknown page