Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Genres
وإذا ارتقينا فوق هذه الدرجة، وجعلنا أعمالا أكبر من الأعمال اليومية موضع نظرنا تجلى لنا انعدام الاختيار عند الإنسان بشكل أوضح. وليست الأمثلة هي التي تعوزنا هنا. فنادر هو الرجل الذي لم تجئه حادثة خارجة عن انتظاره، بل عن اعتقاده فاضطرته أن يتبع مسلكا من مسالك الحياة لم يكن يحلم به. ونادر من لم تؤثر في حياته أو أعماله صداقة رجل معين أو حب امرأة معينة. ونادر من لم تغير خطته مقابلة في قطار أو سفرة إلى بعض المكان. ونادر منا من لم يكن لمرضه أو لزواجه أو لنسله تعديل عام لطريق سيره. وربما كانت كلمة نادر غير كافية، فأقول: ليس في الوجود إنسان لم يذعن لحكم كل هذه الظروف أو بعضها على أنها حين تقابل الواحد منا تحدث عنده أثرا غير الأثر الذي تحدثه عند الآخر، وربما كان على عكسه والواحد منا لا يستطيع أن يغير فيها أو يبدل، وإنما يخضع لها مجبرا غير مختار.
ومركز الواحد منا في الحياة - كونه ابن زيد لا ابن عمرو، وكونه ولد في بلد وفي قطر معين وفي عصر معين - أي اختيار له في هذا؟ من غير شك لا اختيار له، وإنما هو يحتل هذا المركز مجبرا سواء أراده أم لم يرده. ومن لنا بالرجل الذي يقدر على اختيار مركزه.
ربما قيل: إنه مهما أمكن التسليم بصحة ما تقدم فإن في نفي الاختيار إطلاقا مغالاة. وأن من الواجب الاعتراف باختيار نسبي للفرد يميز به بين الخير والشر والحسن والقبيح، ويمكن معه احتمال مسئولية العمل الذي يعمله. وإن هذا الاختيار النسبي الذي هو أساس المسئولية ونتيجة من نتائج الإرادة حرية نسبية، وهو متعلق بالفرد ملتصق به بل هو جزء منه.
ولا شك في أن هذا الكلام غير خلو من المعنى. فإن لنا إرادة نسبية نميز بها أعمالنا اليومية، وتجعلنا مسئولين أمام أبناء عصرنا عما يصدر منا من الأعمال، وهذه الإرادة هي التي تعطينا الحق في مؤاخذة غيرنا، وفي مؤاخذة أنفسنا. لكن هذه الإرادة النسبية هي كما قدمنا محكومة بظروف خارجة عنها مؤثرة فيها باعثة إياها حتما لتسير في طريق معين. أي: إن إرادتنا ليست حرة في أن تريد. فالأحكام التي تصدر عنها والتصميمات التي تتبعها إنما هي مدفوعة إليها بعوامل خارجة عنها، ربما كانت قوانين الطبيعة، وربما كانت المصادفة التي لا نعرف قوانينها، وربما كانت أيضا روح الوجود الخفية والقوة المصرفة له التي لا تدرك ماهيتها. وربما كانت مجموع هذه الأشياء.
ففي الأمثلة البسيطة التي قدمنا عن اختيار اللون في الملبس والمطعم، رأينا أن هذا الاختيار مقيد بقيود كثيرة منها الوسط الزماني والوسط المكاني، ونوع التربية ومبلغ الصحة أو المرض والقوة أو الضعف، التي عند الفرد وعوامل كثيرة أخرى ليس من السهل حصرها، وقد رأينا أيضا حين ترقينا فوق هذه الأمثال أن هذه القيود لا اختيار لنا في وجودها. وكون الرجل ابن شخص معين ولد في بلد معين، وفي زمن معين وفي أمة معينة أمور كلها بعيدة جدا عن أن تكون من اختياره. ومع ذلك فلها تأثير بين واضح في آخر درجات الاختيار؛ لأنها هي أسباب الإرادة.
وهذه الأسباب نفسها غير مختارة؛ لأنها غير متعلقة بإرادة عاقلة تعرف ماهيتها. فوجود زمن من الأزمان أو مكان من الأمكنة على صورة معينة أمر لا دخل لإرادة معينة فيه، بل هو نتيجة لعوامل بعيدة عن إرادة الناس أفرادا كانوا أو جماعات. وكل جيل من الأجيال يحتمل غير مريد نتيجة أعمال آلاف الأجيال التي سبقته، ويحتمل غير مريد شر أعمال الأجيال المعاصرة له. وإذا كان ذلك شأن الجيل فإن الفرد الذي هو ذرة منه يحتمل تأثير ملايين من إرادات معاصريه وملايين الملايين من إرادات الأجيال الماضية. فهل يبقى مع ذلك صاحب إرادة خاصة، ويستطيع أن يقول حين يعمل عملا معينا: إني قمت به؛ لأنني أردته؟
ليتصور القارئ معي نفسه: هو الآن يقرأ هذه السطور. فهل هو مريد في ذلك؟ وإذا كان مريدا فما هي قيمة اختياره في هذه الإرادة. أولا من أجل أن أكتب ما أكتب مررت بآلاف بل بملايين من المؤثرات التي شكلت إرادتي على ما أردت هي لا على ما أردت أنا. ثم كتبته بعد ذلك. وكتبته في أوقات ربما كان يكفي أن تتغير هي لتغير ما أكتب. ثم نشرته في هذه المجلة بعد تفكير في ظروف لا دخل لي فيها هي التي استوقفت عزمي عندها. فلم لم أنشرها في غيرها؟ لأسباب خارجة عن إرادتي إذا نحن اعتبرنا مطلق الإرادة. وقرأها القارئ في هذه المجلة؛ لأنه من قرائها؛ لا لأنه يريد أن يقرأ كلامي.
ثم ما هو الإحساس الذي يجده القارئ حين القراءة؟ أهو الانبساط أم الامتعاض أم عدم الاهتمام؟ لا شك أن ذلك كله يختلف كثيرا ما بين قارئ وقارئ. فمن الممكن أن يثني القارئ عطفه قائلا: وما نتيجة هذه الأبحاث في الحياة؟! ومن الممكن أيضا أن يقول: لقد أحسن الكاتب فإن في بحث هذه النظريات ما يؤثر في تقدير المسئولية الاجتماعية والمسئولية الفردية. ومن الممكن كذلك أن يمر بما أكتب ثم يلقي المجلة من يده متثائبا. هذا كله إذا لم ير في طرق باب مثل هذا الموضوع ما لا يسمح به الدين. وكل هذه الأحكام التي يصدرها يحسب أنه مريد كل الإرادة في إصدارها مع أنها إنما تتعلق بنوع تعليمه وبالمدرسة التي نشأ فيها، وبالقراءات التي قرأها وبطرق التفكير التي مر بها، وبالحوادث التي واجهها. ولو أن شيئا من ذلك كله تغير لتغير هذا الحكم وبكلمة أخرى لتغيرت الإرادة.
وظاهر من ذلك أن الإرادة لا تعمل بذاتها مجردة، ولكن تحت مؤثرات كثيرة هي التي تكونها على نحو خاص، وتجعلها بذلك تصدر أحكامها على هذا النحو محكومة بقوى تلك المؤثرات. ولا يمكن أن يقال مع ذلك: إنها حرة في أن تريد، بل ظاهر أنها مجبرة على السير في الطريق الذي رسمته لها هذه المؤثرات. وبكلمة أخرى مجبرة في اختيارها.
ومن الممكن أن نلخص العوامل التي تؤثر في الإرادة، وتحكمها في الاختيار على الطريقة الآتية: (1)
Unknown page