Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Genres
«الاختيار معدوم من الوجود جملة، وإنما تصرفنا قوانين مرتبة نعرفها ومصادفات واتفاقات ربما كانت تسير على قوانين لا نعرفها.»
1
لم يشتغل العقل الإنساني بشيء مثل اشتغاله بمسألة القدر والجبر. فمن أول ما بدت تباشير الفكر وقدر لنا أن نقف على أخبار المتقدمين أهل التاريخ الأول سمعنا بهذه المسألة. فهي قديمة وربما كانت أعرق في الوجود من كل فكرة أخرى. ولما جاءت في الأديان جعلتها موضع نظر ولكنها لم تتوصل إلى حلها بل تركتها بحذافيرها تنتقل من جيل إلى جيل حتى وصلت إلينا، ولم تزل الشغل الشاغل للمفكرين والفلاسفة. بل لا نغالي إن قلنا: إنها من الأسس الأولى التي تبنى عليها اليوم أقسام كبيرة من الفلسفة والعلم. فمسائل التشريع والقواعد الاقتصادية والأفكار الاجتماعية كلها تمس هذه الفكرة وتعتد بها. وكلنا في أعمالنا اليومية ومعاملاتنا مع الآخرين لا ننسى مبلغ ما يترتب على عملنا من المسئولية الشخصية، ولا مقدار المسئولية التي تقع على عاتق غيرنا بانين ذلك على أن الإنسان حر مختار. وكلنا نحس أن الأفراد لا يتساوون في هذه المسئولية، بل تصغر عند قوم وتكبر عند آخرين على نسب مختلفة للعمل الواحد.
ولم يصل كثير من الباحثين إلى نقطة عملية عامة في هذه المسألة. بل تراهم يميلون إلى الاعتراف بقسط من الاختيار لكل فرد من الأفراد لم يخرج عن عقله، كبر ذلك القسط أم صغر. وتراهم يقولون: إنه لولا ذلك لما ساغ لنا أن نستاء من عمل غيرنا ولا أن نفرح له. لكنا نستاء ونفرح. ولا شك أن معنى هذا أننا نقدر أن هذا الشخص كان يستطيع أن يعمل غير ما عمل فيستحق منا إحساسا مخالفا للإحساس الذي أبديناه حين رأيناه عمل ما عمل. ولا بد لنا أيضا من الاعتراف بقسط من الجبر أو الاضطرار يختلف قدره باختلاف الأفراد. وهذا هو السبب في أن الإحساس الذي نقابل به عملا معينا من زيد ليس هو بعينه الإحساس الذي نقابل به العمل نفسه من كل شخص غيره.
هذه هي الأفكار العملية العامة في الموضوع. ولسنا ندري هل تتغير قريبا؟ ولكن ما لا شك فيه أنها تشكلت بأشكال كثيرة، وليست مع الأحوال المختلفة لبوسا جمة. فبالنسبة لقيم الاختيار والاضطرار، وبالنسبة لمصدرها راجت أفكار وأوهام كثيرة على مدى الأزمان المختلفة. فجبرية اليوم يرجعها المعاصرون من كتاب أوروبا إلى تأثيرات الوراثة والوسط في حين كان يرجعها أهل الزمن القديم إلى القدرة الإلهية. والاختيار المطلق والاختيار النسبي شغلا من الأبحاث آلاف الصحائف. وكذلك مقدار الاختيار. ولسنا نريد بما نكتب تحليل هذه الأبحاث، ولا التنقيب عما كان واستظهاره، بل إثبات رأي نعتقده وإظهار أثر هذا الرأي في بعض جهات العلم والفلسفة، ولا سيما ما اختص بفكرة المسئولية وتقدير الخير والشر.
وقبل الشروع في ذلك نرى أن نوضح هذا الرأي في ذاته وموضعه بالنسبة للآراء الأخرى. ولا يلمنا أحد بالتعجب في ذلك، فإن أول ما نطلب أن يكون القارئ عارفا بمرامينا حتى إذا قرأ ما نكتب كان قادرا على اتباع أسباب الحجة التي ندلي بها وطرقها ومسالكها، فيصل بها معنا إلى الغاية التي نراها من غير أن يكلف نفسه الرجوع إليها؛ ليرى مواضع الضعف منها.
أما رأينا فهو أن الاختيار معدوم من الوجود جملة، وإنما تصرفنا قوانين مرتبة نعرفها ومصادفات واتفاقات ربما كانت تسير على قوانين لا نعرفها. ولسنا نقصد بالاختيار هذه الحرية الجزئية الضئيلة التي نستطيع معها أن نسير إلى اليمين لا إلى اليسار، ونأكل صنفا دون آخر، ولكنما نقصد به مجموع القوة المصرفة للحياة والمتسلطة على هامة الحرية الجزئية، نقصد به روح الحياة ذاتها. فهذه الروح أو تلك القوة أو ما شئت فسمها معدومة الاختيار من جميع الجهات، سواء كان ذلك من جهة تكوينها المباشر بالذات، أو من جهة الظروف الخارجية التي تعيش وقتيا في وسطها. وهي مدفوعة في طريقها بعوامل لا دخل لها مطلقا فيها، أو إن كان ثمة لها دخل فهو ضئيل إلى درجة معدومة الأثر. وهذه الحرية الجزئية الضئيلة التي نعتقد أننا نملكها بيدنا، وأنا نتصرف على مقتضاها في حياتنا اليومية معدومة أيضا وما نراه منها إنما هو خيال ووهم.
كلما تيسر لي أن أفصل بذلة جديدة يدخل رأسي تصميم أن أغير الألوان المعتادة التي ألبسها، وأدخل محل الخياط على هذا التصميم. وبعد أن أقلب خمسين قطعة من القماش أقف عند اختيار لون لا يخرج مطلقا عن ألواني المعتادة. وقد خرجت مرة عن هذا الجمود لعلي أرى في الجديد طلاوة. فلما لبست بذلتي الجديدة شعرت بعدم ارتياح لما عملت كأنه خالف اختياري. فهل أنا مختار في المرات الأولى، وهل أنا مختار في هذه المرة الأخيرة؟ وأعتقد أن كثيرين مثلي لاحظوا من ذلك ما لاحظته.
نجد هذا أيضا عند اعتيادنا اختيار الطعام. نجد هذا الاختيار محدودا لا يتعدى أصنافا معينة، فإذا تعداها الإنسان حسب نفسه خرج على نفسه أي حسب نفسه غير كامل الاختيار. ويكون ذلك إحساسه في غير هذه الجزئيات كل مرة يخرج فيها عن معتاد اختياره، اللهم إلا إذا نسي نفسه مع أصحاب أو جماعة أيا ما يكونون. وهو لا شك في هذه الحالة مسلوب الاختيار في أغلب الأحيان.
ونظن القارئ في غنى عن أن نضرب له الأمثال لذلك. ومن هذا نرى أن هذه الجزئيات البسيطة من متعارف ما في الحياة، ومما نظن لأنفسنا كامل الحرية فيه إنما حدد اختيارنا لها ظروف خارجة عنا كونت عندنا عادة أعدمت هذا الاختيار، وبالتالي قتلت هذه الحرية.
Unknown page