257

Iliyadha

الإلياذة

Genres

أحزان طروادة!

هكذا تلوث رأسه بالثرى، فمزقت أمه شعرها، وقذفت بخمارها البراق، وأطلقت صيحة بالغة الشدة، إذ أبصرت ابنها على تلك الحال. وأخذ أبوه يئن حزينا، ومن حولهما انخرط القوم في البكاء والأنين، في جميع أنحاء المدينة، كما لو كانت طروادة بأسرها تحترق بالنار. وهرع القوم إلى الشيخ بريام يمنعونه وهو يحاول ثائرا أن يخرج من الأبواب الدردانية. وتوسل إلى الجميع، وهو يحبو وسط الأقذار، وينادي كل رجل باسمه، ويقول: «يا أصدقائي، أمسكوني، ولا تدعوني أخرج من المدينة بمفردي. وأسرعوا إلى سفن الآخيين، حتى أتوسل إلى ذلك الرجل العديم الرحمة - ذلك المؤذي - عسى أن يخجل أمام أقرانه، ويشفق على شيخوختي. فإن له أبا مثلي، وهو بيليوس الذي أنجبه ورباه ليكون مصدر هلاك للطرواديين، ولكنه آثرني دون جميع الآخرين بأكبر قسط من الخراب؛ إذ قتل عددا من أبنائي في ريعان شبابهم، فلم أبك أحدهم بكثرة كما بكيت هذا الابن - هكتور - الذي سوف ينزلني الحزن الممض عليه إلى بيت هاديس! ليته مات بين ساعدي، إذن لبكيت أنا وأمه التي أنجبته، ما شاء لنا أن نبكي!»

قال هذا وهو ينتحب، فبكى معه الآخرون. وقامت «هيكابي» بين نساء طروادة، ترأس العويل المفجع قائلة: «أي بني، وا فجعتاه! كيف أحيا في هذا العذاب الأليم، بعد موتك؟ يا من كنت أفخر بك ليل نهار في المدينة، وكنت ذخرا لجميع أهل طروادة جميعا - رجالا ونساء - فكانوا يحيونك دائما كإله؛ إذ كنت لهم مجدا بالغ العظمة أثناء حياتك، أما الآن فقد أصابك الموت والقدر!»

قالت هذا وهي تبكي، في حين أن زوجة هكتور لم تعلم شيئا مما جرى؛ لأنه ما من رسول صادق ذهب ليخبرها بأن زوجها بقي خارج الأبواب.

وكانت تنسج قماشا في أقصى موضع من البيت الشامخ، نسيجا أرجوانيا من طبقتين، طرزت عليه أزهارا مختلفة الألوان. ونادت خادماتها الجميلات الغدائر، ليضعن فوق النار ركيزة ضخمة، كي تعد حماما ساخنا لهكتور متى عاد من المعركة. ولم تكن لتتصور أن أخيل وأثينا قد قتلاه. غير أنها سمعت الصراخ والأنين عبر الحائط، فارتخت أطرافها، وسقط المغزل من يدها إلى الأرض. فعادت تقول لخادماتها الجميلات الجدائل: «لتأت منكن اثنتان وتتبعاني، لأرى ماذا تم من أمور. فقد سمعت صوت زوج أمي المبجلة، فخفق قلبي في صدري نذيرا بنكبتي، وإن ساقي لتخزاني. حقا أن ثمة شرا قريبا جدا من أبناء بريام. لتكن الكلمة بعيدة عن أذني، فشد ما أخشى أن يكون أخيل المجيد قد عزل هكتور الشجاع وحده عن المدينة، وساقه إلى السهل، فجعله يكف الآن عن الشجاعة المخربة التي كانت تتملكه؛ إذ إنه لم يكن يبقى بين جموع الرجال، وإنما كان يهجم دائما إلى الأمام بعيدا، غير مستسلم لأحد في قوته!»

وما إن قالت هذا، حتى هرعت كالمخبولة عبر القاعة بقلب خافق، فتبعتها خادمتاها. حتى إذا بلغن السور وحشد الرجال، توقفت وأطلت من فوق السور، فأبصرته والعربة تجره أمام المدينة. وكان الجوادان السريعان يجرانه - بلا رحمة - ضعف سفن الآخيين الجوفاء. فهبطت على عينيها ظلمة الليل وطوقتها، فسقطت مغشيا عليها إلى الخلف وهي تشهق، ودفعت عن رأسها غطاءه البراق، عصابة الجبين والقلنسوة، والمنديل والشريط المطرز، والخمار الذي أهدتها إياه أفروديت الذهبية يوم زفافها إلى هكتور - ذي الخوذة المتألقة - تاركة منزل أبيها أيتيون، بعد أن جهزها بهدايا عرس لا عداد لها. فاجتمعت حولها شقيقات زوجها وزوجات إخوته وحملنها بينهن، وكأنما استولت عليها غشية الموت. فلما أفاقت، وعادت روحها إلى صدرها، رفعت صوتها بالعويل، وتكلمت وسط نساء طروادة قائلة: «أي هكتور، وا فجيعتاه! أعتقد أن كلا منا قد ولد لمصير واحد، أنت في طروادة - في بيت بريام - وأنا في طيبة، أسفل بلاكوس ذات الأحراش، في بيت أيتيون، الذي رباني منذ طفولتي. إنه أب منحوس لطفلة منكودة الحظ، ليت أبي لم ينجبني قط! ها أنت ذا ترحل إلى منزل هاديس - تحت أعماق الأرض - وتتركني في غم مرير، أرملة في ساحاتك، وما زال ولدي مجرد طفل - ابنا لوالدين تعيسين، أنا وأنت! - ولن تكون ذا نفع له يا هكتور ، بعد أن مت، ولا هو بنافع لك. فرغم نجاته من حرب الآخيين المؤلمة، إلا أن نصيبه سيكون الشقاء والحزن فيما بعد، إذ سيسلبه الآخرون أراضيه. إن يوم اليتم يقطع الطفل عن أصدقاء شبابه، ويجعله دائما مطأطئ الرأس، مبلل الخدين بالدموع. وإذا ما احتاج التجأ إلى أصدقاء أبيه، يجذب هذا من معطفه، وذاك من عباءته، فإذا ما تحركت الشفقة في نفس أحدهم نحوه، رفع كأسه مكتفيا بأن يرطب شفتيه، دون أن يبلل حلقه! وقد يطرده طفل لم يتيتم من الوليمة بصفعة من يده، ويعيره قائلا: «اغرب عن وجهي! فلا أب لك يجلس معنا في مأدبتنا!» وعندئذ يعود ثانية إلى أمه الأرملة دامع العين، بالاستواناكس الذي كان فيما مضى لا يأكل فوق ركبتي أبيه غير النخاع ودهن الضأن الفاخر، فإذا غلبه النعاس، وكف عن لعب طفولته، نام بين ساعدي مربيته في فراشه الوثير، وقد شبع من أطايب الأشياء. أما الآن، فكم من محن سيقاسيها، إذ فقد أباه! بالاستواناكس، الذي أطلق عليه الطرواديون هذا الاسم لأنك وحدك - يا هكتور - قد أنقذت أسوارهم الشامخة. أما الآن فستنهشك الديدان الجائعة بجانب السفن المدببة، بعيدا عن والديك، بعد أن تنال منك الكلاب كفايتها، جثة عارية. وتبقى في قصرك ثيابك الجميلة النسج، التي أبدعت صنعها أيدي السيدات، ولكني سأحرق جميع هذه بالنار المتأججة، النار التي لن تكون نافعة لك، لأنك لن تحترق فيها، ولكنها ستكون تمجيدا لك من رجال ونساء طروادة.»

هكذا كانت تبكي، فشاركتها النساء نحيبها.

الأنشودة الثالثة والعشرون

«... وكان أخيل السريع القدمين ممسكا - طيلة الليل - بكأس ذهبية ذات مقبضين، يغترف بها الخمر من طاس من الذهب ويسكبها فوق الأرض حتى بللها، وهو ينادي روح باتروكلوس المسكين ...»

كيف شيعت جنازة باتروكلوس؟ وطقوس الجنازة.

Unknown page