256

Iliyadha

الإلياذة

Genres

دفعت أثينا هكتور إلى الأمام بمثل هذه الألفاظ وبالخداع. فلما اقتربا، خاطب هكتور العظيم - ذو الخوذة البراقة - أخيل بقوله: «لن أفر منك بعد الآن يا ابن بيليوس، كما هربت منك ثلاث مرات حول مدينة بريام العظيمة. فإنني لم أجرؤ من قبل على مواجهة هجمتك، أما الآن فإن روحي تأمرني بالوقوف لأواجهك سواء قتلتني أم قتلتك لنستدع الآلهة ليكونوا خير شهود وحراس، ولنتعاهد: ألا أمثل بجسمك أو أفعل بك ما يشين، لو منحني زوس القوة لأبقى بعدك، وأسلبك حياتك، وإنما أرد جسدك الفاني إلى الآخيين بعد أن أنزع عنك حلتك الحربية، يا أخيل، وكذلك تفعل أنت الآخر!»

عندئذ قطب أخيل - السريع القدمين - حاجبيه غاضبا وقال: «أي هكتور، لا تحدثني أيها الأحمق عن المواثيق، فكما لا توجد عهود إخلاص بين الأسود والبشر، وكما لا يوجد سلام بين الذئاب والحملان، وإنما يكن كل منهما الشر للآخر، هكذا أيضا يستحيل أن نكون - أنا وأنت - صديقين، ولن نرتبط بعهود حتى يسقط أحدنا، ويشبع بدمه نهم أريس، ذلك المحارب القوي ذو الترس المصنوع من جلد الحيوان. فكر مليا في كل لون من الشجاعة، فقد بات عليك أن تبرهن على أنك رماح ومحارب جسور. وليس أمامك بعد الآن مجال للهرب، بل ستجند لك - في الحال - بالاس أثينا برمحي. عليك الآن أن تدفع الثمن كاملا، ثمن أحزاني على أصدقائي الذين قتلتهم وأنت هائج برمحك!»

قال هذا، ووزن رمحه البعيد الظل، ورماه. غير أن هكتور المجيد، تتبعه بنظرة فتحاشاه، فمرق الرمح البرونزي من فوقه، وانغرس في الأرض، ولكن بالاس أثينا رفعته وأعطته ثانية لأخيل، دون أن يراها هكتور، راعي الجيش. وتحدث هكتور إلى ابن بيليوس - أوحد زمانه - قائلا: «لقد أخطأتني، ويبدو لي، يا أخيل - الشبيه بالآلهة - أنك لم تعرف مصيري من زوس حتى الآن، ولا فكرت فيه. فما أنت إلا ثرثار ومكار خبيث، تريد أن تخوفني منك حتى أنسى قوتي وشجاعتي. كلا لن أفر منك فتغرس رمحك في ظهري، بل عليك أن تغرسه في صدري وأنا أهجم عليك، إذا منحك ذلك إله ما. والآن تجنب - بدورك - رمحي البرونزي، وليتك تتلقاه كله في جسمك! فبموتك تصبح الحرب أخف وطأة على الطرواديين إذ إنك أكبر مجلبة لهلاكهم.»

قال هذا، ووزن رمحه البعيد الظل وقذفه، فاصطدم بترس ابن بيليوس، دون أن يخطئه، ولكن الرمح ارتد بعيدا عن الترس. واغتاظ هكتور من انطلاق الرمح السريع من يده عبثا، فوقف حائرا؛ إذ لم يكن معه رمح درداري آخر، ثم صاح عاليا، ينادي دايفوبوس ذا الترس الأبيض، ويطلب منه رمحا طويلا، ولكن هذا لم يكن قريبا منه! وعرف هكتور كل شيء في قرارة نفسه. فقال: «سحقا، لقد نادتني الآلهة حقا إلى حتفي، إذ ظننت المحارب دايفوبوس بقربي، ولكنه - للأسف - خلف السور، وقد خدعتني أثينا. لا شك أن الموت الشرير قريب مني، ولم يعد بعيدا، فلا مفر منه. هكذا أعتقد أن هذه - من قديم الزمان - مسرة زوس وابنه القواس - الذي يضرب من بعيد - وأولئك الذين ساعدوني من قبل بنفوس راضية. الآن قد حل حتفي، ولكنني لن أموت بغير صراع، ولا مجد، ولا دون نضال جليل تتناقله الأجيال القادمة.»

وما إن قال هذا، حتى استل سيفه البتار، الذي كان معلقا إلى جنبه. سيفا قويا عظيما. وبعد أن استجمع قواه، انقض كالصقر العالي التحليق؛ إذ يهبط خلال السحب القائمة إلى السهل ليقبض على حمل غض، أو أرنب برية قابعة، هكذا أيضا انقض هكتور، شاهرا سيفه الحاد، فهجم عليه أخيل، بقلب يفيض حنقا وشراسة، واضعا أمام صدره ترسه الجميل الفاخر الترصيع. ورمى بخوذته ذات القرون الأربعة، فتموجت حولها الرياش الذهبية التي وضعها هيفايستوس، بغزارة حول الخصلة. وكما يتقدم - وسط الكواكب في ظلمة الليل - نجم المساء، المشرق في كبد السماء، كأجمل النجوم طرا، كذلك أومض بريق الرمح القاطع، الذي وزنه أخيل في يمناه وهو يضمر الشر لهكتور العظيم، ويمعن النظر إلى لحمه الجميل، ليبحث عن أكثر المواضع عريا فيسدد إليه ضربته. كان كل جسمه مغطى بالحلة الحربية البرونزية، تلك الحلة الحربية العظيمة التي استولى عليها عندما قتل باتروكلوس العتيد. غير أنه كانت هناك فتحة، حيث تفصل عظمة الترقوة بين العنق والكتفين، موضع البلعوم، الذي يتسرب الموت منه إلى الجسم بأقصى سرعة. هناك غيب أخيل العظيم رمحه، وهو يهجم عليه. فنفذ طرف الرمح خلال العنق الرقيق، ولكن الرمح الدرداري الثقيل لم يخترق القصبة الهوائية، فاستطاع هكتور الرد على عدوه، قبل أن يتردى في الثرى. إذ تهلل فوقه أخيل العظيم قائلا: «أي هكتور، أظنك حسبت - وأنت تقتل باتروكلوس - أنك ستكون بمأمن. ولم تفكر في، أيها الأحمق، إذ كنت بعيدا عنه، ولكن ثمة منتقما، بالغ البأس، كان قد تخلف عند السفن الجوفاء، ذلك هو أنا، الذي أرخيت ساقيك. ولسوف تمزقك الكلاب والطيور بصورة بشعة. أما هو فسيدفنه الآخيون!»

عندئذ تحدث إليه هكتور ذو الخوذة البراقة، وقد خارت قواه: «أتوسل إليك بحياتك وساقيك ووالديك، ألا تجعل الكلاب تنهشني بجانب سفن الآخيين. خذ هدايا البرونز والذهب التي سيعطيكها أبي وأمي الجليلة، لقاء أن ترد جسدي ثانية إلى وطني، حتى يعطيني الطرواديون وزوجاتهم جزائي المناسب من النار في موتي.» فنظر إليه أخيل السريع القدمين نظرة حقد - من تحت حاجبيه - وقال: «لا تتوسل إلي أيها الكلب، بالساقين والوالدين. ليت الغضب والثورة يسولان لي أن أقطع لحمك وآكله نيئا، جزاء ما اقترفت يداك. لن يوجد من بين الأحياء من يمكنه أن يدفع الكلاب عن رأسك، كلا، ولو افتدوك بعشرة أضعاف، أو عشرين ضعفا، ووعدوا بالمزيد، كلا، ولو طلب بريام بن داردانوس، أن يدفع قدر وزنك ذهبا، فلن تسجيك أمك الجليلة على سرير وتبكيك، أنت ابنها الذي أنجبته بنفسها، وإنما ستنهشك الكلاب والطيور عن آخرك!»

فتحدث إليه هكتور - ذو الخوذة البراقة - وهو يسلم الروح قائلا: «حقا أنني لم أعرفك جيدا، وإلا لتنبأت بما سيكون. ما كان لي أن أحمل عليك، فما القلب في صدرك إلا من الحديد. فكر الآن مليا، خشية أن أجلب عليك نقمة غضب الآلهة، يوم يقتلك باريس وأبولو - عند الأبواب السكايية - رغم كل شجاعتك.»

وبينما كان يقول هذا، غشيته نهاية الموت، وأسرعت روحه بالخروج من أطرافه، ورحلت إلى هاديس تبكي حظها، تاركة الرجولة والشباب. وفي موته خاطبه أخيل العظيم قائلا: «ارقد ميتا، أما حتفي فسوف أرضى به، عندما ينتوي زوس وغيره من الآلهة الخالدين أن ينفذوه.»

قال هذا ، وجذب من الجثة رمحه البرونزي، فألقى به جانبا، وشرع يجرد الكتفين من الحلة الحربية الملطخة بالدماء. وهرع أبناء الآخيين الآخرون حوله، يتطلعون إلى حجم هكتور وجماله الرائع. ولم يقترب منه إلا وأحدث به جرحا. وهكذا كان الواحد يقول، وهو ينظر إلى جاره: «انظر يا هذا، إن هكتور أيسر شيئا الآن، مما كان حين أحرق السفن بالنار المستعرة.» هكذا كان المرء منهم يقول، وهو يقترب من الجثة ويحدث بها جرحا. وما إن فرغ أخيل العظيم - السريع القدمين - من سلبه، حتى انتصب واقفا بين الآخيين يخاطبهم بكلمات مجنحة قائلا: «أي أصدقائي، قادة وحكام الأرجوسيين، الآن وقد منحتنا الآلهة أن نقتل هذا الرجل، الذي ألحق بنا من الشر أكثر مما أحدثه بقية الجيش كله، هلموا بنا إلى محاولة بالأسلحة حول المدينة لنستطلع الأغراض التي ينتويها الطرواديون؛ هل سيتركون المدينة الشامخة، بعد أن سقط هذا الرجل، أو أنهم يزعمون الصمود، بالرغم من أن هكتور لم يعد له وجود، ولكن لماذا يحدثني قلبي هكذا؟ إن بجانب السفن ميتا، لم يبكه أحد، ولم يدفن بعد، ألا وهو باتروكلوس، الذي لن أنساه ما حييت، وما ظلت ساقاي سريعتين. كلا، ولو نسي الموتى - في بيت هاديس - موتاهم، فلسوف أظل أذكر صديقي العزيز، حتى هناك! هيا بنا، نرتل أنشودة الظفر، عائدين إلى السفن الجوفاء، ولنأخذ معنا عدونا، لقد كسبنا لأنفسنا مجدا عظيما، بقتل هكتور المجيد، الذي كان الطرواديون يصلون له في جميع أنحاء مدينتهم، كما لو كانوا يصلون إلى إله!»

قال هذا، وابتكر معاملة مزرية لهكتور العظيم، فشق طنب كلتا قدميه من الخلف - من العقب إلى مفصل الكعب - وربط فيها سيورا من جلود الثيران، ووصلها بعربته، تاركا الرأس متدليا على الأرض. ثم صعد إلى عربته، ووضع فيها الحلة الحربية المجيدة، ولمس الجوادين بالسوط، إيذانا ببدء المسير - لم يقف في طريق الجوادين شيء، وقد انطلقا يعدوان قدما. فثار الغبار حول هكتور والعربة تجره فوق الثرى، وقد تناثر شعره القاتم حوله من كل جانب، وتمرغ رأسه الجميل في التراب والأقذار، إذ سلمه زوس إلى أعدائه، ليهينوا وطنه في شخصه.

Unknown page