وثانيا:
أن شعراء العرب أنفسهم لم يكونوا يحسنون فهم اليونانية، فلم يكن فيهم من يصلح لتلك المهمة.
وإن قيل: إن عجز النقلة عن الإجادة في نظم الشعر العربي لم يكن مانعا من تعريب الإلياذة نثرا كما عربت شهنامة الفردوسي. قلنا: «إن الارتباط بين الفرس والعرب كان أكثر منه بين العرب واليونان، وشتان بين ناظم الإلياذة وناظم الشهنامة، فذلك من عبدة الأصنام، وهذا من أدباء الإسلام، ومع ذلك فلم يقم بين العرب من تجرد لتعريب الشهنامة إلا بقيام ملك يحسن فهم العربية والفارسية طرب بتلاوة الأصل، فأراد أن يطرب أمته بتلاوة التعريب؛ فوسع بالرزق على رجل توسم فيه الكفاءة، وهيهات أن يتيسر ذلك في غير تلك الحال.
56
ثم إنه لا يخفى أن الشعر إذا ترجم نثرا ذهب رونقه، وبهت رواؤه». والظاهر أن هذا الحكم انطبق على تعريب الشهنامة، فأهملها الناس وإلا فما ذهبت ضياعا، وبقيت أثرا بعد عين نقرأ عنها في كتب التاريخ، وليس في الأدباء من روى لنا منها حديثا مذكورا.
وخلاصة القول أنه مهما يكن من الحوائل التي كانت تصد الأدباء عن نقل الإلياذة، وتحول دون إبرازها للعامة فما بقي لتلك الحوائل أثر في زمننا بل صار من لوازم العصر إلباسها حلة عربية تجاري لغتنا لغات أبناء الحضارة، وخصوصا أن ما فيها من أساطير دين الوثنية قد باد أثره، فصار من المحتوم أن يبقى خبره عبرة للمعتبر.
التعريب
حكاية المعرب في تعريب الإلياذة
سألني الجم الغفير من أصدقائي الأدباء كيف عربت الإلياذة؟ وما حداني إلى تعريبها؟ فكتبت الفصل الآتي، ولعله لا يخلو من فائدة لمن قضي عليه أن يسير في مثل هذه العقبة.
كلفت منذ الصغر بمطالعة الشعر القصصي، ولا سيما ما تعلق منه بالخياليات وعبادات الأقدمين، ولما كانت لغتنا تكاد تكون خلوا من ذلك الشعر، وفروض الدروس تستنزف الوقت، ولا تبقي معها بقية لقراءة ما شذ من مثل ذلك عن معيناتها؛ فتحول دون استقاء المياه من مواردها كنت ألتقط ما سقط عرضا من أفواه الأساتذة أو ورد شاهدا في كتب التدريس، فاجتمعت لدي نبذ ضمنتها بعض قصائد لفقتها، ولم أتم العقد الثاني من أعوام الحياة، ولا يطالبنني المطالع اللبيب بأمثلة من تلك القصائد ، فحسبي هزء نفسي بي دون هزئه إذ لا أتمالك من الضحك كلما خطر على البال شيء مما علق في الذاكرة، فهنالك يم مختبط اختلطت فيه آلهة الكلدان بآلهة اليونان والرومان، وأنزلت معبودات مصر موضع معبودات الهند والصين، واشتبه الذكور بالإناث، والتبست الأعلام الإفرنجية بالأسماء اليونانية على نحو ما دون الكتبة في كثير من أخبارهم عن أمم القرون الخالية، وهذا ولا بدع شأن كل كاتب تطاول إلى فن دخله من غير أبوابه.
Unknown page