وإن ما قيل عن النصرانية في نشؤها يصدق على الإسلام في قرونه الأولى، إذ لا ريب أن أئمة الأمة لو فرضنا وقوفهم ذلك الحين على محتويات الإلياذة لما ارتاحوا إلى بثها بين العامة؛ لئلا تكون من مفسدات الإيمان.
وزد على ذلك أن العرب لم يكادوا يخرجون من مهامه البداوة حتى ملكوا الأمصار، وانتشروا في سائر الأقطار، وأسسوا الممالك الكبار، وما استقر الملك للأمويين في الشام حتى بدت لهم الحاجة إلى استخراج كتب العلم، وما توطدت دعائم الدولة العباسية في العراق حتى نظم الخلفاء مجالس النقلة؛ لتعريب علوم المتقدمين من الفرس والهنود واليونان، فلاح لهم أنهم أحوج إلى العلوم منها إلى الشعر والأدب، وكانت حاجتهم الكبرى إلى علم الطب، ثم إلى علم الكلام للمناضلة عن الدين؛ فعمدوا إلى تعريب طب أبقراط وجالينوس، وفلسفة أرسطوطاليس ونظائرهما، وأغفلوا الإلياذة وجميع ما يجري مجراها من كتب الشعر والأدب.
ثم إنه ليس في لغات الأرض لغة يربو شعرها على الشعر العربي، ويزيد شعراؤها عددا على شعراء العرب وهم جميعا مخلصو الاعتقاد في شعرهم، ورعين في تعبده، فلا يخالون في الإمكان وجود شعر أعجمي يجاري قصائدهم بلاغة وانسجاما، ودقة وإحكاما.
فهذا أيضا كان من دواعي تقاعدهم عن الإقبال على شعر الأعاجم اكتفاء بما لديهم من درر ذلك البحر الزاخر.
على أنني أعتقد أنه لو طال زمن عظمة الدولة العباسية أو لو تأخر زمن تبوء المأمون أريكة الخلافة جيلين لكانت بعض مقاطيع الإلياذة تتلى الآن في أندية الأدب، ولا يطعن بهذا القول قيام دولة الأندلس بعد حين، واشتغالها في الأدب، فإن الأمويين الأندلسيين تفننوا بآداب العرب، ورقوا درجات في مرقاة الشعر، ولكنهم لم يضاهوا العباسيين في بغداد بشيء من إقبالهم على التقاط فلسفة الأعاجم وتعريب كتبهم.
وبعد هاتين الدولتين لم تقم للعرب دولة حريصة نظيرهما على اختزان العلوم من مخابئها، وادخار الآداب من مناشئها، فإن كلا من دولة الفاطميين بمصر، ودول المغرب كانت، منصرفة إلى مشاغل أخرى فضلا عن قلة النقلة في أزمانها من المتضلعين في لغات الأعاجم فوق لغتهم.
نقلة العرب
وهناك أيضا حاجزان طبيعيان وقفا عقبة صماء في وجه تعريب الإلياذة شعرا في القرون الأولى، ولعلهما لا يقلان شأنا عن حواجز الدين أو يزيدان وهما:
أولا:
أن معربي الخلفاء كابن الخصي، وابن حنين، وآل بختيشوع لم يكونوا عربا، وإن تفقهوا بالعربية على أساتذتها، فلم يكن يسهل عليهم نظم الشعر العربي، وهم إنما كانوا بنظر العرب علماء أكثر منهم أدباء، وإن كانوا حريصين على آداب لغاتهم حتى حلوا جيد السريانية بقلادة الإلياذة منظومة شعرا كانوا يترنمون به في مجالسهم، ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا قليلون معظمهم من الفرس الذين تفرغوا لآداب العرب، فبرزوا فيها كابن المقفع، وهؤلاء أيضا لم يكونوا في عداد الشعراء.
Unknown page