خذ مثلا فاتحة الكتاب الكريم، وأحص ما فيها من الحركات، فسترى أن الفتحة وحدها أكثر من الضمة والكسرة معا.
وإذا رجعت إلى علم «مخارج الحروف» واستشهدت طبيعة الفتحة في نطقها، وقستها إلى غيرها من الحركات، وجدت البرهان الجلي على خفة الفتحة، والشهادة لذوق العرب في استحبابها؛ وذلك أن الفتحة القصيرة، أو الفتحة الطويلة - وهي الألف - لا تكلف الناطق إلا إرسال النفس حرا، وترك مسرى الهواء أثناء النطق بلا عناء في تكييفه.
أما الضمة وامتدادها وهو الواو، فإن النطق بها يكلفك ضم الشفتين ومطهما وتدويرهما حتى تحقق نطق الضمة أو الواو، واختبر ذلك في: قل وصم، وقولوا وصوموا مثلا، وراع هيئة الفم والشفتين حين النطق.
وكذلك الكسرة وامتدادها، وهو الياء، تكلفك أن تكسر مجرى الهواء وتحني طرف اللسان عند اللثة ليمثل الصوت ما تريد من الكسرة أو الياء، كما ترى في: صيد وبيع، وصد وبع.
وقد جمعنا في هذا البيان بين كل حركة واللين الناشئ منها؛ لنجلي لك الحقيقة أتم تجلية؛ فإن نطق الحركات ربما خفي في درج القول وفي وسط الكلمات؛ إذ اللسان لا يتلبث في النطق، فلا يستقر بعد الحرف، بل يتهيأ لتشكيل حرف آخر، فيمر نطق الحركة سريعا غير واضح التمثيل، فإن شئت تمثيله تأنيت في أعقاب الحروف فتصور الحركة وتشبعها، فإذا أشبعتها تمثلت واضحة وتمثل حرف اللين الناشئ منها.
والنحاة أنفسهم يقررون أن الألف فتحة مشبعة، والياء كسرة مشبعة، والواو ضمة مشبعة (انظر سر صناعة الإعراب لابن جني في باب الحركة).
وكانوا يسمون الفتحة الألف الصغيرة، والكسرة الياء الصغيرة، والضمة الواو الصغيرة، وكان هذا من أصل عملهم في الشكل الذي رسموا ليضبطوا به الحركات.
16
فخفة الفتحة في النطق، وامتيازها في ذلك على أختيها: الضمة والكسرة، أمر جلي، يؤيده البرهان من كل وجه.
والذي نحاول أن نقرره بعد، هو أن الفتحة أخف من السكون أيضا، وأيسر نطقا، خصوصا إذا كان ذلك في وسط اللفظ ودرج الكلام.
Unknown page