حد النحو كما رسمه النحاة
وجهات البحث النحوي
أصل الإعراب
رأي المستشرقين في أصل الإعراب
معاني الإعراب
العلامات الفرعية للإعراب
التوابع
تكملة البحث
الصرف
خاتمة
Unknown page
حد النحو كما رسمه النحاة
وجهات البحث النحوي
أصل الإعراب
رأي المستشرقين في أصل الإعراب
معاني الإعراب
العلامات الفرعية للإعراب
التوابع
تكملة البحث
الصرف
خاتمة
Unknown page
إحياء النحو
إحياء النحو
تأليف
إبراهيم مصطفى
تقديم الكتاب
بقلم طه حسين
هذا كتاب سيراه الناس جديدا، وما أرى أنهم سيتلقونه بما تعودوا أن يتلقوا به الكتب من الدعة والهدوء، وما أحسبني أخطئ إن قدرت أنهم سيدهشون له، وأن كثيرا منهم سيضيقون به، وقد يتجاوزون الضيق إلى الخصومة العنيفة والإنكار الشديد؛ لأن الكتاب جديد كما قلت، في أصله وفي صورته، وهو من أجل ذلك يخالف كثيرا جدا مما ألف الناس، وقد يغير كثيرا جدا مما ألف الناس، فلا غرابة في أن يلقوه بالدهش، وفي أن يثور به الثائرون.
ولكني مع ذلك لا أقدمه إلى الناس كما أقدم شيئا جديدا بالقياس إلي، فإن عهدي به قديم، وإلفي له متصل، ولست أجاوز القصد إن قلت إني لقيته لقاء الصديق، واستمعت له كما أستمع لحديث الصديق، في كثير من الحب والحنان والوفاء، فهو يذكرني أكثر أطوار حياتي العلمية، منذ أخذت أطلب العلم صبيا وشابا إلى الآن؛ ذلك أنه كتاب نشأ مع عقل صاحبه، وتطور بتطوره، واختلفت عليه الصروف، كما اختلفت على صاحبه الصروف، ثم خرج منها كما رأيته وكما سيراه القراء، قويا صلبا متينا، لا يعرف الضعف ولا الفتور، ولا يعرف الخور ولا لين القناة.
أنا قديم العهد به، ألقاه الآن لقاء الصديق؛ لأني قديم العهد بصاحبه، ما لقيته قط إلا امتلأت نفسي بهجة ورقة وحنانا؛ لأني أرى فيه خير ما مر بي من أطوار الحياة، وشر ما مر بي من أطوار الحياة أيضا. وأراه الصديق الأمين والأخ الوفي في أطوار الخير والشر جميعا، وأرى معه هذا الكتاب يتحدث إلي به، ويجادلني فيه، ويلح علي في الحديث والجدال، فلا يبلغ إلحاحه مني مللا ولا سأما، وإنما يثير في رغبة مجردة إلى المناقشة والحوار.
وما رأيك في أني أعرف إبراهيم منذ آخر الصبا وأول الشباب، حين كنا نلتقي في حلقات الدرس في الأزهر الشريف، فنسمع لشيوخنا، ثم نلتقي بعد الدرس فنعيد ما كانوا يقولون، نكبر أقله فنستبقيه في أنفسنا، ونصغر أكثره فنعرض عنه إعراضا أو نتخذه موضوعا للعبث والمزاح.
Unknown page
وحين افترقنا فذهب هو إلى دار العلوم وبقيت أنا في الأزهر، ثم أبى الله إلا أن يجمعنا، ولما يمض على فراقنا إلا أقل الوقت وأقصره، فإذا نحن نلتقي في غرفات الجامعة المصرية القديمة، نسمع للأساتذة المحدثين من المصريين والأجانب، ثم لا نكاد نخرج من غرفات الدرس حتى يتصل بيننا الحديث كما كان يتصل بيننا في الأزهر، وإذا دروس الجامعة تفتح لحوارنا آفاقا طريفة، كنا نستلذ بها ونستحبها، فنمضي في الحوار وننسى له كل شيء وكل إنسان. نقطع الآماد البعيدة ماشين وقد أنسينا جهد المشي، وصرفنا عما حولنا من حركة الحياة واضطراب الأحياء، وقد ننتهي إلى مكان نأوي إليه ثم ننسى أنفسنا فيه؛ قد صرفنا عن هذا المكان وعن أنفسنا وعمن يحيط بنا من الناس، إلى ما نحن فيه من حوار، وإلى ما نستمتع به من لذة الحديث.
ثم نفترق مرة أخرى، فيذهب هو إلى مصر العليا مشتغلا بالتعليم، وأذهب أنا إلى ما وراء البحر مشتغلا بالتعلم، وينقطع الحوار بيننا، وتنقطع الرسائل أيضا، ويكاد يخيل إلى كل واحد منا أنه قد نسي صاحبه، وأن صاحبه قد نسيه. وتمضي على ذلك الأعوام الطوال، ثم نلتقي، ولا نكاد نأخذ في الحديث حتى يتبين كل واحد منا أنه لم ينس صاحبه قط، وكأنما التقينا أمس واستأنفنا لقاءنا اليوم، فنحن نصل حديثا لم نقطعه إلا أمس، وإن كنا قد قطعناه منذ أعوام طوال.
ثم يريد الله أن يجمعنا بعد الافتراق مرة أخرى، فإذا نحن في الجامعة المصرية الجديدة نعمل معا في التعليم، بعد أن كنا نشتغل معا في التعلم، وإذا أحاديثنا تتصل في الجامعة الجديدة، كما كانت تتصل في الجامعة القديمة، وكما كانت تتصل في الأزهر الشريف، وإذا الأمر يتجاوز بيننا اتصال الأحاديث، فيجد كل منا لذة في أن يختلف إلى بعض ما يلقي صاحبه من دروس، ويشارك فيما يثير بين الطلاب من مناقشة أو حوار.
ثم تفرق الأيام بيننا - أستغفر الله - تحاول الأيام أن تفرق بيننا فلا تستطيع، أخرج من الجامعة وألزم داري حينا، وأشتغل بالسياسة العنيفة حينا آخر، ولكني ألقى صاحبي أكثر مما كنت ألقاه قبل المحنة، ويتصل الحديث بيننا أكثر مما كان يتصل قبل الأزمة، ثم أعاد إلى الجامعة، وإذا نحن نعود إلى الاشتراك في الدرس، ونمضي فيما كنا فيه من الجدل والحوار.
وكان النحو أشد موضوعات الحديث خطرا، وأكثرها جريانا فيما كان يكون بيننا من حوار. ضقنا بأصوله القديمة منذ عهد الأزهر، وأخذنا ننكر هذه الأصول أيام الجامعة القديمة، وأخذنا نلتمس له أصولا جديدة منذ التقينا في الجامعة الجديدة.
فأنت ترى أني حين أقدم إليك هذا الكتاب الجديد؛ إنما أقدم إليك صديقا قديما عرفته منذ عهد بعيد جدا، ورأيته يشب وينمو ويتطور حتى تم خلقه واستوى كما تراه في هذه الصفحات.
ولعلك بعد هذا تصدقني إن قلت لك إني الآن حائر لا أدري أي الطريقين آخذ؟ وأي الطريقين أدع؟ طريق الحديث عن الكتاب، أم طريق الحديث عن صاحب الكتاب؟ فكلاهما يملأ نفسي حبا وحنانا وإعجابا.
فأما الكتاب، فلأنه لا يصور الحياة العقلية لصاحبه وحده منذ أكثر من ربع قرن، ولكنه يصور طرفا من أطراف الحياة العقلية لي أنا أيضا، وإن صاحبي ليقرأ على الباب من أبواب الكتاب فلا أسمع صوت صاحبي، وإنما أسمع صوت إبراهيم، ولا أتجه إلى ما أسمع كما تعودت أن أتجه لما يقرأ علي من الكتب والأسفار، وإنما أتجه له في شيء من الاستعداد للمناقشة والتهيؤ للجدل والتأهب للنقد الشديد، كأني أناقش إبراهيم في مسألة من مسائل النحو، وما أعرف أني لقيته فأطلت لقاءه ثم افترقنا دون أن نلم بطرف من أطراف النحو ونخوض في مسألة من مسائله، ونستحضر قول هذا النحوي أو ذاك، ونحاول تخريج هذا البيت أو ذاك.
والكتاب بعد هذا أو قبل هذا يصور صاحبه أدق تصوير وأصدقه وأبرعه، فهو بريء كل البراءة من هذا الغلو الذي يمتاز به المجدون في لون من ألوان العلم، فإذا هم يفتنون بآرائهم الجديدة، ويفنون فيها، وينسون كل قصد واعتدال، ويتكلفون في سبيل ذلك ما يقبل وما لا يقبل من الرأي، ويحتملون في سبيل ذلك ما يطاق وما لا يطاق من التبعات.
والكتاب بريء من هذا كله، يزينه قصد صاحبه وإيثاره للاعتدال، تقرأه فلا تحس أنك تنتزع من النحو القديم انتزاعا، وإنما تحس أنك تمعن فيه إمعانا، وكأنك تقرأ كتب الأئمة المتقدمين من أعلام البصرة، أو الكوفة، أو بغداد.
Unknown page
علم غزير صحيح بأصول اللغة وفروعها، ومذاهب النحويين والأدباء في فهم هذه الأصول والفروع وتخريجها، وتحدث عن ذلك بلغة الرجل الذي ألفه وتعوده، فليس متكلفا له ولا محدثا فيه، وتواضع لا يفرضه صاحبه على نفسه ولا يحتال في الازديان به، وإنما هو صورة للطبع ومكون من مكونات المزاج.
تواضع تحسه، فيفيض في نفسك حب صاحبه، والميل إليه، والإعجاب به، والثقة بما يلقي إليك من الحديث، وأمانة في الرأي والنقل جيمعا، لا تكاد تمضي في الكتاب حتى تحسها قوية جلية، كأقوى ما تكون الأمانة وأجلاها، وإذا أنت ترى المؤلف يحاسب نفسه أشد الحساب كلما خطر له رأي، وكلما جرى قلمه بكلمة، أبغض الناس للتزيد، وأشد الناس انصرافا عن هذا التهاون مع النفس، الذي يبيح لكثير من الناس ما لا يباح للعالم الخليق بهذا الوصف.
ثم فقه بعد هذا كله بدقائق النحو ودخائله، ويجعله يضطرب في هذا العلم العويص الملتوي، كما يضطرب الرجل في بيت ألفه منذ نشأته، وعرف زواياه وخفاياه، فهو لا يخطو إلا عن علم، ولا يتقدم إلا عن بصيرة.
وهذا الفقه لدقائق النحو ودخائله، وهو الذي ملأ قلب إبراهيم حبا للنحو، وكلفا به، وحنينا إليه، وعطفا عليه؛ فهو يدرس النحو رفيقا به متلطفا في الدرس، كأنه يخاف أن يؤذيه أو يشق عليه، وكأنه يكره أن يناله بما لا يحب.
يقف عند مسألة من مسائل النحو، فيطيل النظر فيها مشغوفا بها، ثم إذا أرضى فيها حاجته عاد إليها فأطال الوقوف عندها والنظر فيها، متهما فهمه الأول، ملتمسا أشياء يشفق أن تكون قد غابت عنه، أو خفيت عليه. ثم هو يقلب المسألة على وجوهها المختلفة وأشكالها المتباينة، ثم هو لا يرضى بكتاب أو كتابين أو كتب، ولا يقنع فيها برأي إمام أو إمامين أو أئمة، ولكنه يستقصي ويمعن في الاستقصاء، وإذا المسألة التي يدرسها من مسائل النحو قد أصبحت عنده كائنا حيا له تاريخه، فهو يتتبع هذا التاريخ من أصوله، يرجع إلى أصل هذه المسألة كيف نشأت وكيف تصورها النحويون الأولون، وكيف تحدرت منهم إلى كتب الأجيال المختلفة من النحاة، وبأي طور مرت عند ذلك الجيل، وإلى أي طور انتقلت عند هذا الجيل، حتى إذا أرضى نفسه من هذا الاستقصاء - وما أصعب رضا نفسه! - عاد إلى المسألة يدرسها من جديد كأنه لم يدرسها من قبل، ولكنه في هذه المرة لا يلتمسها في كتب النحويين، وإنما في كلام العرب على اختلاف أجيالهم. يوازن بين ألوان هذا الكلام ويستخلص منه ما يرى أنه الحق، وإذا هو يتفق مع النحويين حينا ويخالفهم أحيانا، وليس هذا الكتاب إلا تصويرا لبعض النتائج التي وصل إليها من هذا الدرس المزدوج.
وإني لمعجب أشد الإعجاب بهذا الصبر الطويل، وهذا الجلد الذي لا أعرف له نظيرا في هذا الجيل الذي نعيش فيه، فليس يسيرا أن تعاشر النحويين فتطيل عشرتهم، فضلا عن أن تنفق حياتك كلها في مصاحبتهم، والتحدث إليهم، والتحدث عنهم.
والناس بعد يضيقون بالنحو ويتبرمون بحديثه، فما بالك برجل قد أصبح يضيق بكل شيء لا يتصل بالنحو، ويتبرم بكل حديث لا يمس النحو من قريب أو بعيد، حتى سميناه فيما بيننا بالفراء؟!
أنا معجب بهذا الصبر، ولكن إعجابي بنتائجه عظيم أيضا، وما رأيك في رجل يستطيع أن يؤرخ نشأة النثر العربي؛ يستخلص تاريخه لهذا الفن الأدبي العظيم من درس النحو وإطالة النظر فيه ، ويصل إلى نتائج باهرة حقا؟! وما رأيك في رجل يطيل النظر في النحو، فإذا هو يرد تفكير النحويين إلى تفكير الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين، وإذا هو يرد قصور النحو وتقصيره إلى علته الطبيعية، وهي أن النحويين قد فلسفوا النحو، فقصروا به عن أن يذوق جمال العربية، ويصور ذوقها كما كان ينبغي أن يصور.
وهو لا يتحدث إليك بهذا كله حديث المدعي بغير دليل، أو المتكثر من غير طائل، ولكنه أمين دقيق، لا يقول إلا عن علم، ولا يرى إلا عن بصيرة، دليله معه دائما ودليله ملزم دائما؛ لأنه لا يحاول أن يقنعك إلا بعد أن يفرغ من إقناع نفسه، وليس إقناعه نفسه بالشيء اليسير.
أليس هذا كله خليقا أن يحبب إلي الحديث عن هذا الكتاب وتقديمه إليك؟!
Unknown page
أليس هذا كله خليقا أن يصرفني إلى الكتاب عن صاحبه؟! ولكن صاحب الكتاب كما قلت ملائم أشد الملاءمة لكتابه؛ لا ترى في الكتاب خصلة إلا وهي مستمدة من نفس صاحبه، ملائمة لطبعه، مشتقة من مزاجه، فهو أبعد الناس عن التكلف، وأبغضهم للتصنع، وأشدهم ترفعا عن الرياء.
ما في الكتاب من صدق اللهجة صورة ما في صاحبه من صدق الخلق، وما في الكتاب من الدقة والأمانة، صورة ما في صاحبه من الدقة والوفاء، وما في الكتاب من القصد والاعتدال، صورة ما في نفس صاحبه من التواضع الذي يكرم به الرجل، ويملأ قلوب الذين يعرفونه حبا وإكبارا ووفاء.
أقبل علي إبراهيم ذات يوم فقرأ علي فصولا من كتابه هذا، فأبيت عليه إلا أن يمضي في القراءة من الغد، وما زلنا كذلك، يقرأ وأسمع وأناقش، حتى فرغنا من قراءة الكتاب، ولم يكن يعرف له اسما، فاقترحت عليه هذا الاسم الذي رسمه به «إحياء النحو» فأكبره واستكثره وأشفق منه، وألححت أنه فيه، فلم يستطع لي خلافا.
وأنا أتصور إحياء النحو على وجهين؛ أحدهما: أن يقربه النحويون من العقل الحديث ليفهمه ويسيغه ويتمثله، ويجري على تفكيره إذا فكر، ولسانه إذا تكلم، وقلمه إذا كتب. والآخر: أن تشيع فيه هذه القوة التي تحبب إلى النفوس درسه ومناقشة مسائله، والجدال في أصوله وفروعه، وتضطر الناس إلى أن يعنوا به بعد أن أهملوه، ويخوضوا فيه بعد أن أعرضوا عنه.
وأشهد لقد وفق إبراهيم إلى إحياء النحو على هذين الوجيهن، فانظر في هذا الكتاب فسترى أن إبراهيم لا يعرض عليك علما ميتا، وإنما يعرض عليك علما حيا يبعث الحياة في الذوق.
ثم سترى إبراهيم لا يعرض عليك مسائل جامدة هامدة، ولكنه يفتح للنحويين طريقا إن سلكوها فلن يحيوا النحو وحده، ولكنهم سيحيون معه الأدب العربي أيضا.
ثم انتظر بهذا الكتاب وقتا قصيرا فسترى أني لم أغل ولم أسرف، حين زعمت في أول هذا الحديث أنه سيحفظ قوما، وسيدفعهم إلى الخصومة والجدال دفعا.
فالكتاب كما ترى، يحيي النحو لأنه يصلحه، ويحيي النحو لأنه ينبه إليه من اطمأنوا إلى الغفلة عنه، وحسبك بهذا إحياء.
أرأيت أني كنت خليقا أن أقف موقف الحائر؟! لا أدري أأتحدث عن الكتاب أم عن صاحبه، وأني خليق الآن بعد أن بينت لك مصدر هذه الحيرة أن أكتفي من تقديم هذا الكتاب إليك، بأن أسجل بهذه الكلمة القصيرة القاصرة ما يملأ قلبي من حب لإبراهيم، وما يملأ عقلي من إعجاب بكتاب إبراهيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
Unknown page
هذا بحث من النحو، عكفت عليه سبع سنين وأقدمه إليك في صفحات، سبع سنين من أوسط أيام العمر وأحراها بالعمل، صدقت فيها الاعتكاف إلى النحو، وإلى ما يتصل بمباحثه، وأضعت له من حق الصديق والأهل والولد والنفس جميعا.
كان سبيل النحو موحشا شاقا، وكان الإيغال فيه ينقض قواي نقضا، ويزيدني من الناس بعدا، ومن التقلب في هذه الدنيا حرمانا، ولكن أملا كان يزجيني ويحدو بي في هذه السبيل الموحشة؛ أطمع أن أغير منهج البحث النحوي للغة العربية، وأن أرفع عن المتعلمين إصر هذا النحو، وأبدلهم منه أصولا سهلة يسيرة، تقربهم من العربية، وتهديهم إلى حظ من الفقه بأساليبها.
كانت بارقات الأمل - خادعة وصادقة - تدفعني في سبيلي، غير راحمة ولا وانية، فليكن ما أنفق من هذا العمر ذخرا في أعمار الدارسين من بعد، ولتكن شيخوخة هذا الشيخ فدى للعربية؛ أن تقرب من طالبيها، ويمهد السبيل لمتعلميها.
اتصلت بدراسة النحو في كل معاهده التي يدرس فيها بمصر، وكان اتصالا طويلا وثيقا؛ ورأيت عارضة واحدة، لا يكاد يختص بها معهد دون معهد، ولا تمتاز بها دراسة عن دراسة، هي التبرم بالنحو، والضجر بقواعده، وضيق الصدر بتحصيله؛ على أن ذلك من داء النحو قديما، ولأجله ألف «التسهيل» و«التوضيح» و«التقريب»، واصطنع النظم لحفظ ضوابطه، وتقييد شوارده.
والنحو مع هذا لا يعطيك عند المشكلة القول البات، والحكم الفاصل. قد يهدي في سهل القول، من رفع فاعل ونصب مفعول، فإذا عرض أسلوب جديد، أو موضع دقيق، لم يسعفك النحو بالقول الفصل، واختلاف الأقوال واضطراب الآراء وكثرة الجدل التي لا تنتهي إلى فيصل ولا حكم. كل ذلك قد أفسد النحو أو كاد، فلم يكن الميزان الصالح لتقدير الكلام، وتمييز صحيح القول من فاسده.
وإذا جئنا إلى مدارس الناشئين، كانت المشكلة في تعليمهم النحو أشد وأكد؛ فهو على ما تعلم من بعد تناوله، وصعوبة مباحثه، قد جعل المفتاح إلى تعلم العربية، وكتب على الناشئ أن يأخذ بنصيبه منه، منذ الخطوة الأولى في التعليم الابتدائي والثانوي. واختير له جملة من القواعد، قدر أنها تفي بما يحتاج إليه لإصلاح الكلام وتقويم اللسان، ثم كانت خصومة هادئة قاسية بين طبيعة التلميذ وبين هذا المنهاج والقائمين عليه. أما التلميذ فقد بذل الجهد وأعيا، ولم يبلغ من تعلم العربية أربا، وأما أصحاب المنهج فقد رأوا أن يزيدوا في منهجهم، ويكملوا للتلميذ حظه من القواعد، فلا سبيل له إلى العربية غير هذا النحو؛ فزادوا في هوامش كتبهم ما يكمل القواعد ويتمم الشروط - ثم تسللت هذه الزيادات إلى جوف الكتاب فضخم، وزاد المنهاج المفروض - ولكن طبيعة التلميذ الصادقة في إباء هذه القواعد، والتململ بحفظها، لم تخف شهادتها، ولم يستطع جحدها، فكانت ثورة على المنهاج وأصحابه، وخفف منه، وانتقص من مسائله، والداء لم يبرأ، والعوارض لم تتغير، وتكررت الشكوى ، وعادوا على المنهاج بالنقص، حتى كان المقرر قواعد من النحو مختلفة، كأنما هي نماذج يراد بها عرض نوع من مسائله.
قد كان في هذا، الشهادة الصريحة بفشل هذا النحو أن يكون السبيل إلى تعلم العربية، والمفتاح لبابها.
ولقد بذل في تهوين النحو جهود مجيدة، واصطنعت أصول التعليم اصطناعا بارعا، ليكون قريبا واضحا؛ على أنه لم يتجه أحد إلى القواعد نفسها، وإلى طريقة وضعها، فيسأل: ألا يمكن أن تكون تلك الصعوبة من ناحية وضع النحو وتدوين قواعده، وأن يكون الدواء في تبديل منهج البحث النحوي للغة العربية؟
هذا السؤال هو الذي بدا لي، وهو الذي شغلني جوابه طويلا.
ولقد تميز عندي نوعان من القواعد: نوع لا تجد في تعليمه عسرا، ولا في التزامه عناء، ولا ترى خلاف النحاة فيه كبيرا، وذلك كالعدد ورعاية أحكامه في مثل: قال رجلان والرجلان قالا، وقال رجال والرجال قالوا. فمع دقة الحكم في رعاية العدد، واختلافه تبعا لموضع الاسم والفعل من الجملة لا تجد العناء في تصوره، ولا المزلة في استعماله.
Unknown page
ونوع آخر لا يسهل درسه، ولا يؤمن الزلل فيه، وقد يكثر عنده خلاف النحاة، ويشتد جدلهم؛ كرفع الاسم أو نصبه في مواضع من الكلام.
ثم رأيت علامات العدد تصور جزءا من المعنى يحسه المتكلم حين يتكلم، ويدركه السامع حين يسمع. أما علامات الإعراب، فقل أن ترى لاختلافها أثرا في تصوير المعنى، وقل أن يشعرنا النحاة بفرق بين أن تنصب أو ترفع، ولو أنه تبع هذا التبديل في الإعراب تبديل في المعنى، لكان ذلك هو الحكم بين النحاة فيما اختلفوا فيه، ولكان هو الهادي للمتكلم أن يتبع في كلامه وجها من الإعراب.
فلو أن حركات الإعراب كانت دوال على شيء في الكلام، وكان لها أثر في تصوير المعنى، يحسه المتكلم ويدرك ما فيه من الإشارة ومن وجه الدلالة، لما كان الإعراب موضع هذا الخلاف بين النحاة، ولا كان تعلمه بهذه المكانة من الصعوبة، وزواله بتلك المنزلة من السرعة.
ألهذه العلامات الإعرابية معان تشير إليها في القول ؟ أتصور شيئا مما في نفس المتكلم، وتؤدي به إلى ذهن السامع؟ وما هي هذه المعاني؟
والعربية - لغة القصد والإيجاز - أتلتزم علامات الإعراب على غير فائدة في المعنى، ولا أثر في تصويره؟
لقد أطلت تتبع الكلام، أبحث عن معان لهذه العلامات الإعرابية، ولقد هداني الله - وله خالص الإخبات والشكر - إلى شيء أراه قريبا واضحا، وأبادر إليك الآن بتلخيصه: (1)
إن الرفع علم الإسناد، ودليل أن الكلمة يتحدث عنها. (2)
إن الجر علم الإضافة، سواء أكانت بحرف أم بغير حرف. (3)
إن الفتحة ليست بعلم على إعراب، ولكنها الحركة الخفيفة المستحبة، التي يحب العرب أن يختموا بها كلماتهم ما لم يلفتهم عنها لافت؛ فهي بمنزلة السكون في لغتنا الدارجة. (4)
إن علامات الإعراب في الاسم لا تخرج عن هذا إلا في بناء، أو نوع من الاتباع، وقد بيناه أيضا.
Unknown page
فهذا جماع أحكام الإعراب؛ ولقد تتبعت أبواب النحو بابا بابا، واعتبرتها بهذا الأصل القريب اليسير، فصح أمره، واطرد فيها حكمه.
ثم زدت في تتبع هذا الأصل، فتجاوزت حركات الإعراب، ودرست التنوين على أنه منبئ عن معنى في الكلام، فصح لي الحكم واستقام، وبدلت قواعد «ما لا ينصرف»، ووضعت للباب أصولا أيسر وأنفذ في العربية مما رسم النحاة للباب، ولا أؤجل عنك إجمال هذه الأصول أيضا: (1)
إن التنوين علم التنكير. (2)
لك في كل علم ألا تنونه، وإنما تلحقه التنوين إذا كان فيه حظ من التنكير. (3)
لا تحرم الصفة التنوين حتى يكون لها حظ من التعريف.
والبحث الذي أقدمه إليك الآن، هو شرح موجز لهذه الفكرة، ودرس لها في أبواب النحو المختلفة، وبيان لما رأينا من الأدلة لتأييدها.
وكنت أريد أن أشكر لصديقي الدكتور طه حسين، وأذكر فضله في إتمام البحث وإخراج الكتاب؛ ولكنه آثر أن يقدم الكتاب، وانزلق إلى الثناء على صاحبه، فأجررت أن أتكلم.
وحق علي أن أشكر تلاميذي الذين عاونوني في شيء من المباحث، وإن لم أملك الآن أن أسميهم وأعمالهم.
وأحمد الله حمدا ملؤه التوحيد والتمجيد والشكر.
حد النحو كما رسمه النحاة
Unknown page
يقول النحاة في تحديد علم النحو: إنه علم يعرف به أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء.
1
فيقصرون بحثه على الحرف الأخير من الكلمة، بل على خاصة من خواصه، وهي الإعراب والبناء، ثم هم لا يعنون كثيرا بالبناء ولا يطيلون البحث في أحكامه، وإنما يجعلون همهم منه بيان أسبابه وعلله.
فغاية النحو بيان الإعراب وتفصيل أحكامه، حتى سماه بعضهم علم الإعراب؛
2
وفي هذا التحديد تضييق شديد لدائرة البحث النحوي، وتقصير لمداه، وحصر له في جزء يسير مما ينبغي أن يتناوله، فإن النحو - كما ترى، وكما يجب أن يكون - هو قانون تأليف الكلام، وبيان لكل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة، والجملة مع الجمل، حتى تتسق العبارة ويمكن أن تؤدي معناها.
وذلك أن لكل كلمة وهي منفردة معنى خاصا تتكفل اللغة ببيانه، وللكلمات مركبة معنى؛ هو صورة لما في أنفسنا، ولما نقصد أن نعبر عنه ونؤديه إلى الناس. وتأليف الكلمات في كل لغة يجري على نظام خاص بها، لا تكون العبارات مفهمة ولا مصورة لما يراد حتى تجري عليه، ولا تزيغ عنه.
والقوانين التي تمثل هذا النظام وتحدده تستقر في نفوس المتكلمين وملكاتهم، وعنها يصدر الكلام، فإذا كشفت ووضعت ودونت فهي علم النحو.
ولو عرضت عليك جملة من لغة لا تعرفها، وبينت لك مفرداتها كلمة كلمة، ما كان ذلك كافيا في فهمك معنى الجملة، وإحاطتك بمدلولها، حتى تعرف نظام هذه اللغة في تأليف كلماتها، وبناء جملها، وذلك هو نحوها.
وكثير من اللغات لا إعراب فيها، ولا تبديل لآخر كلماتها، ولها مع ذلك نحو وقواعد مفصلة تبين نظام العبارة، وقوانين تأليف الكلم.
Unknown page
فالنحاة حين قصروا النحو على أواخر الكلمات وعلى تعرف أحكامها قد ضيقوا من حدوده الواسعة، وسلكوا به طريقا منحرفة إلى غاية قاصرة، وضيعوا كثيرا من أحكام نظم الكلام وأسرار تأليف العبارة.
فطرق الإثبات، والنفي، والتأكيد، والتوقيت، والتقديم، والتأخير، وغيرها من صور الكلام قد مروا بها من غير درس، إلا ما كان منها ماسا بالإعراب، أو متصلا بأحكامه، وفاتهم لذلك كثير من فقه العربية ، وتقدير أساليبها.
نعم؛ ربما تعرضوا لشيء من هذه الأحكام حين يضطرون إليها لبيان الإعراب وتكميل أحكامه؛ فقد تكلموا في وجوب الصدارة لأسماء الاستفهام وبعض أدوات النفي، حين أرادوا شرح التعليق وبيان مواضعه، ولزمهم أن يحصوا من الأدوات ما يحجب ما قبله عن العمل فيما بعده، وبينوا بعض الأدوات التي يجب أن يليها فعل، والتي لا يليها إلا اسم، حين أرادوا تفصيل أحكام الاشتغال، ولكن هذه المباحث جاءت متفرقة على الأبواب، تابعة لغيرها، فلم يستوف درسها ولا أحيط بأحكامها.
فالنفي مثلا كثير الدوران في الكلام، مختلف الأساليب في العربية، متعدد الأدوات - ينفى بالحرف، وبالفعل، وبالاسم - وكان جديرا أن يدرس منفردا لتعرف خصائصه، وتميز أنواعه وأساليبه، ولكنه درس مفرقا على أبواب الإعراب ممزقا كما ترى: (أ) «ليس» درست في باب كان لأنها تعمل عملها، على أن «كان» للإثبات و«ليس» للنفي، وعلى أن «كان» للمضي و«ليس» للحال، ولكن العمل وحده - وهو الحكم اللفظي - كان سبب التبويب والتصنيف. (ب) «ما، وإن» درستا في باب ألحق بكان؛ لأنهما يماثلانها في العمل أحيانا. (ج) «لا» درست ملحقة بكان، ثم تابعة لإن؛ إذ كانت تماثل الأولى في العمل مرة، وتماثل الثانية فيه مرة أخرى. وهذا الحرف أكثر استعماله أن يكون مهملا، ويتصرف إذن في النفي تصرفا واسعا، ولكن النحاة لا يعنون به إلا أن يكون عاملا، وأن يكون ذا أثر في الإعراب. (د) «غير، وإلا، وليس» تدرس في باب الاستثناء. (ه) «لن» في نصب الفعل. (و) «لم» و«لما» في جزمه.
درست هذه الأدوات كما ترى مفرقة، ووجهت العناية كلها إلى بيان ما تحدث من أثر في الإعراب، وأغفل شر إغفال درس معانيها، وخاصة كل أداة في النفي، وفرق ما بينها وبين غيرها في الاستعمال. ولو أنها جمعت في باب وقرنت أساليبها، ثم ووزن بينها، وبين منها ما ينفي الحال وما ينفي الاستقبال وما ينفي الماضي، وما يكون نفيا لمفرد، وما يكون نفيا لجملة، وما يخص الاسم، وما يخص الفعل، وما يتكرر، لأحطنا بأحكام النفي وفقهنا أساليبها، ولظهر لنا من خصائص العربية ودقتها في الأداء شيء كثير أغفله النحاة، وكان علينا أن نتتبعه ونبينه.
ومثل النفي في ذلك التأكيد يدرسونه في «باب إن»، ويقرنون «بإن» المؤكدة «أن» الواصلة، «وليت» المتمنية؛ لأنها أدوات تتماثل في العمل، وإن تباعد ما بينها في المعنى والغرض. وفي باب الفعل يذكرون نوني التوكيد وأحكامهما لأثرهما في إعرابه. وفي بحث التوابع يجعلون للتوكيد بابا خاصا يذكرون فيه عددا من الكلمات، حكمها في الإعراب حكم ما قبلها.
ولو جمعت أساليب التوكيد في العربية - ما ذكر هنا وما لم يذكر - وبين ما يكون تنبيها للسامع، وما يكون تأكيدا للخبر، وما يكون تقوية لرغبة، لكان أقرب إلى أن تدرس كل أنواع التوكيد، ويبين لكل نوع موضعه؛ ولكان أدنى إلى توضيح أساليب العربية وسرها في التعبير.
والزمن جعله النحاة ثلاثة أنواع: الماضي، والحال، والمستقبل. وجعلوا للدلالة عليها صيغتين
3
فقط: الفعل الماضي، والفعل المضارع. وكفاهم ذلك؛ لأن أحكام الإعراب لا تكلفهم أكثر منه، ولم يحيطوا بشيء من أنواع الزمن وأساليب الدلالة عليه، وهي في العربية أوسع من هذا وأدق. يدل على الزمن بالفعل، وبالاسم، وبالفعل والفعل، وبالفعل والاسم، وبالحرف. ولكل أسلوب من هذه جزء من الزمن محدود يدل عليه.
Unknown page
وليس لهذه الأبحاث من موضع يجب أن تفصل وتبين أحكامها فيه إلا علم النحو.
وقد ذكرنا هذه الأمثلة لنبين أن النحاة حين قصروا النحو على البحث في أواخر الكلم قد أخطأوا إلى العربية من وجهين:
الأول:
أنهم حين حددوا النحو وضيقوا بحثه، حرموا أنفسهم وحرمونا؛ إذ اتبعناهم من الاطلاع على كثير من أسرار العربية وأساليبها المتنوعة، ومقدرتها في التعبير؛ فبقيت هذه الأسرار مجهولة، ولم نزل نقرأ العربية ونحفظها ونرويها، ونزعم أننا نفهمها ونحيط بما فيها من إشارة، وبما لأساليبها من دلالة. والحق أنه يخفى علينا كثير من فقه أساليبها، ودقائق التصوير بها.
الثاني:
أنهم رسموا للنحو طريقا لفظية، فاهتموا ببيان الأحوال المختلفة للفظ من رفع أو نصب من غير فطنة لما يتبع هذه الأوجه من أثر في المعنى. يجيزون في الكلام وجهين أو أكثر من أوجه الإعراب، ولا يشيرون إلى ما يتبع كل وجه من أثر في رسم المعنى وتصويره. وبهذا يشتد جدلهم ويطول احتجاجهم، ثم لا ينتهون إلى كلمة فاصلة.
على أن هذا السبيل المحدود، وتلك الغاية القاصرة، لم يصر إليها النحاة عرضا، ولكن كان في مساق التاريخ ما رسم الطريق وحدده.
وسنشير إلى شيء من هذا التاريخ لا لنعتذر عن النحاة فحسب، ولكن لنهتدي به ولنسلك في درس النحو أهدى سبيل وأجداه.
وجهات البحث النحوي
كان العرب شديدي العناية بالإعراب، وكان حسهم به دقيقا يقظا، يعدونه عنوان الثقافة التامة، والأدب الرفيع، والخلق المهذب، قالوا: اللحن هجنة على الشريف. وكان الرجل منهم إذا تكلم فلحن سقط من أعينهم، وكان خالد بن صفوان يحسن الكلام ويلحن في الإعراب، فقال له مرة بلال بن أبي بردة: «تحدثني حديث الخلفاء وتلحن لحن السقاءات!»
Unknown page
وكان العرب يرقبون ذلك من أنفسهم، ويتعمدون الإعراب ويحرصون عليه أن يخطئوه، يروون لعبد الملك بن مروان أنه قال: «شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن.»
ويروون عن الحجاج بن يوسف - وهو ما تعلم من الفصاحة وقوة البيان - أنه كان يسأل يحيى بن يعمر النحوي: «أتراني ألحن؟» ويشدد عليه أن يبين له ما يسمعه منه من لحن.
أما أبو الأسود الدؤلي الكناني فكان يقول: «إني لأجد للحن غمرا
1
كغمر اللحم.»
فلما وقع اللحن في القرآن كان أثره عليهم أشد، وكان إليهم أبغض، فبادروا إلى إعراب القرآن وضبط كلماته بنقط يكتبونها عند آخر الكلمات تدل على حركاتها - وكان ذلك عمل أبي الأسود في النحو، وعمل طبقتين من النحاة بعده؛ يعربون المصحف، أي: يضبطون أواخر كلماته بالنقط، ويرسلون المصاحف في الناس يهتدون في القراءة بها وتكون لهم إماما.
وقد أطالوا بذلك مراقبة أواخر الكلمات، وربما اختلفوا فيها، وتجادلوا عندها. وطول هذه المراقبة ودأبهم عليها هداهم إلى كشف سر من أسرار العربية عظيم؛ وهو أن هذه الحركات ترجع إلى علل وأسباب يطرد حكمها في الكلام، ويمكن الرجوع إليها والاحتجاج بها.
وقد أعجبوا بهذا الكشف إعجابا عظيما فألحوا في الدرس وفي تتبع الأواخر والكشف عن أسرار تبديلها؛ وسموا ما كشفوا أول الأمر - علل الإعراب - أو علل النحو، ثم لم يلبثوا أن أوجزوا فسموها علم النحو أو الإعراب، ولم يمض عليهم زمن طويل، مذ هدوا إلى علل الإعراب، حتى كانوا قد أحاطوا بها ودونوها، وجمعها سيبويه في كتابه الذي لم يزل من بعده إمام النحاة.
وإذا كانت فتنة النحاة بما كشفوا قد دفعتهم إلى التسابق في الكشف، وإلى التعمق في البحث حتى أحاطوا بقواعد الإعراب في سرعة معجزة؛ فإنها صرفتهم عن درس ما سوى الإعراب مما في العربية من قواعد لربط الكلام وتأليف الجمل.
وقد بدا لبعض النحاة مسلك آخر في درس العربية يتجاوز الإعراب إلى غيره من القواعد العربية؛ فألف أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 208 كتابا في «مجاز القرآن»، حاول أن يبين ما في الجملة العربية من تقديم أو تأخير أو حذف أو غيرها، وكان بابا من النحو جديرا أن يفتح، وخطوة في درس العربية حرية أن تتبع الخطة الأولى في الكشف عن علل الإعراب، ولكن النحاة - والناس من ورائهم - كانوا قد شغلوا بسيبويه ونحوه وفتنوا كل الفتنة، حتى كان الإمام أبو عثمان المازني المتوفى سنة 247 يقول: «من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستح.»
Unknown page
2
فلم تتجه عنايتهم إلى شيء مما كشف عنه أبو عبيدة في كتاب مجاز القرآن، وأهمل الكتاب ونسي، ووقع بعض الباحثين في أيامنا على اسمه فظنوه كتابا في البلاغة. وما كانت كلمة المجاز إلى ذلك العهد قد خصصت بمعناها الاصطلاحي في البلاغة، وما كان استعمال أبي عبيدة لها إلا مناظرة لكلمة النحو في عبارة غيره من علماء العربية؛ فإنهم سموا بحثهم «النحو»؛ أي: سبيل
3
العرب في القول، واقتصروا منه على ما يمس آخر الكلمة. وسمي بحثه المجاز؛ أي: طريق التعبير، وتناول غير الإعراب من قوانين العبارة العربية، ولم يكثر ما أكثر سيبويه وجماعته، ولم يتعمق ما تعمقوا، ولا أحاط إحاطتهم، ولكنه دل على سبيل تبصرة انصرف الناس عنها غافلين، وقد بقي لنا من هذا الكتاب جزء يسير ننقل منه ما يبين أسلوب بحثه، ويصدق ما ذهبنا إليه من رأي في تقديره.
بدأ كتابه بمقدمة ذكر فيها كثيرا من أنواع المجاز التي يقصد إلى درسها، ثم أخذ في تفسير القرآن الكريم كله، يبين ما في آياته من مجاز على المعنى الذي أراد.
فمن المقدمة قوله: «ومن مجاز ما خبر عن اثنين مشتركين أو عن أكثر من ذلك فجعل بعض الخبر لبعض دون بعض، وكف عن خبر الباقي، قال:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله . ومن مجاز ما جعل في هذا الباب الخبر للأول منهما أو منهم، قال:
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها . ومن مجاز ما جعل في هذا الباب الخبر للآخر منهما أو منهم، قال:
ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا
ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الغائب ومعناه الشاهد، قال:
Unknown page
الم * ذلك الكتاب
مجازه الم هذا القرآن.
4
ومن مجاز ما جاء مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تركت وحولت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، قال الله تعالى:
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم
أي: بكم. ومن مجاز ما جاء خبرا عن غائب ثم خوطب الشاهد، قال:
ثم ذهب إلى أهله يتمطى * أولى لك فأولى .
ثم قال: ومن مجاز المكرر للتأكيد، قال:
إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين
أعاد الرؤية، وقال:
Unknown page
أولى لك فأولى
أعاد اللفظ، وقال:
فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة
وقال:
تبت يدا أبي لهب وتب
ومن مجاز المقدم والمؤخر، قال:
فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت
أراد ربت واهتزت ... ومن مجاز ما يحول خبره إلى شيء من سببه ويترك خبره هو، قال:
فظلت أعناقهم لها خاضعين
حول الخبر إلى الكناية التي في آخر الأعناق.
Unknown page
ثم قال: «وكل هذا جائز معروف قد يكلمون به.»
فهذا مثال مما جاء في مقدمة الكتاب، ومن التفسير قوله : «مالك يوم الدين» نصب على النداء وقد تحذف ياء النداء مجازه «مالك يوم الدين»؛ لأنه يخاطب شاهدا، ألا تراه يقول:
إياك نعبد
فهذه حجة لمن نصب، ومن جر قال: هما كلامان ... ومجاز من جر «مالك يوم الدين» أنه حدث عن مخاطبة غائب، ثم راجع فخاطب شاهدا، فقال:
إياك نعبد وإياك نستعين
قال عنترة:
شطت مزار العاشقين فأصبحت
عسرا علي طلابك ابنة مخرم
5
قال أبو كبير الهذلي:
Unknown page
يا لهف نفسي كان حرة وجهه
وبياض وجهك للتراب الأعفر
غير المغضوب عليهم ولا الضالين
مجازها غير المغضوب عليهم والضالين، ولا من حروف الزوائد والمعنى إلغاؤها.
قال العجاج:
في بئر لا حور سرى ولا شعر
أي في بئر حور: أي هلكة.
وقال أبو النجم:
فما ألوم البيض ألا تسخرا
لما رأين الشمط القفندرا
Unknown page
القفندر: القبيح الفاحش؛ أي: فما ألوم البيض أن يسخرن.
وقال:
ويلحينني في اللهو ألا أجيبه
وللهو داع دائب غير غافل
والمعنى: ويلحينني في اللهو أن أجيبه. وفي القرآن آية أخرى:
قال ما منعك ألا تسجد
مجازها ما منعك أن تسجد.
6
ا.ه.
ولقد نكون أطلنا الاقتباس ولكنه مثل من البحث النحوي نريد أن نجليه للناس، وندعوهم إليه ونستزيدهم منه - لعلهم يذوقون من سر العربية ونظم تأليفها ما يتجاوز آخر الكلمة وحكم إعرابه.
Unknown page
وجاء بعد ذلك بآماد الشيخ عبد القاهر الجرجاني، المتوفى سنة 471، ورسم في كتابه دلائل الإعجاز طريقا جديدا للبحث النحوي، تجاوز أواخر الكلم وعلامات الإعراب، وبين أن للكلام «نظما» وأن رعاية هذا النظم واتباع قوانينه هي السبيل إلى الإبانة والإفهام، وأنه إذا عدل بالكلام عن سنن هذا النظم لم يكن مفهما معناه، ولا دالا على ما يراد منه، وضرب المثل لذلك بالمطلع المشهور، وهو:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
لو خولف فيه «النظم» وعدل به عن سننه وقواعده، فقيل:
نبك قفا حبيب من ومنزل ذكرى
لكان لغوا من الكلام وعبثا. ثم بين أن هذا النظم يشمل ما في الكلام من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وفصل ووصل، وعدول عن اسم إلى فعل، أو عن صيغة إلى أخرى، وغير هذا من سائر أحوال الكلمة إذا ألفت مع غيرها لتفهم.
ثم بين أنه ليس شيء من هذا «النظم» إلا وبيانه إلى علم النحو. قال في صفحة 61 من دلائل الإعجاز:
7 «واعلم أنه ليس النظم إلا أن تضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت فلا تخل بشيء منها؛ وذلك أنا لا نعلم شيئا يتبعه الناظم بنظمه، غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه، فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك: زيد منطلق، وزيد ينطلق، وينطلق زيد، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق. وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك: إن تخرج أخرج، وإن خرجت خرجت، وإن تخرج فأنا خارج، وأنا خارج إن خرجت، وأنا إن خرجت خارج ... وينظر في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، وفي الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيضع كلا من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له. هذا هو السبيل فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه؛ واستعمل في غير ما ينبغي له.» ا.ه.
وكرر عبد القاهر بيان هذا المعنى في مواضع من كتابه، وبالغ في الاستدلال له، وكأنه أحس ذلك من صنيعه، فقال: «واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أنه لا معنى للنظم غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم، قد بلغت من الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى الغاية، وإلى أن تكون الزيادة عليه، كالتكلف لما لا يحتاج إليه، فإن النفس تنازع إلى تتبع كل ضرب من الشبهة.»
8
إلخ.
Unknown page