وكان أسوأ ما يسخطه، من حيث لا يدري، أنه كان في تعس ذهني؛ إذ لم تكن له هواية تسري عنه مضض العيش؛ فلم يكن مغرما بقراءة الصحف أو المجلات، ولم يكن مهتما بشئون السياسة، وكان انطوائيا لا يحسن الصداقة ولا يتآلف الأصدقاء، فكان من بيته إلى مكتبه، ومن مكتبه إلى بيته، أو بالأحرى من زوجته إلى مكتبه، ومن مكتبه إلى زوجته!
وكان الجيران والزملاء في المكتب يظنون أنه رجل مستقيم، ولكنه هو كان يعرف نفسه أكثر؛ وهو أنه كان يكابد الحياة مكابدة بلا مسرات، وبلا استطلاعات، وبلا مغامرات.
وكانت زوجته مثله، بل أكثر في مكابدة الحياة؛ لأن السأم كان يخيم على نفسها كما لو كانت غيمة، وكانت تتأمل أحوال الناس فترى الأزواج يرتقون في الوظائف، أو يزدادون ثراء إلا زوجها، هذا الزوج الراكد الذي لا يعرف غير الأكل والنوم.
وكانت السيدة أنيسة تحس احتقارا لزوجها، ولكنها لم تكن تعرف علاجا يجعله ينتقل من الركود إلى الحركة والارتقاء؛ ولذلك كان هذا الاحتقار يتجسم أحيانا في سباب جنوني، حتى لقد كانت تصفه بأنه بقة يمص دمها، وأنه نحلة تلسع جلدها، وكان المسكين ينظر إليها وهو صامت؛ اعتقادا بأن صمته يخفف من توترها.
وكان الموضوع الذي يتكرر في المناقرة أن ابن عمها كان يريد أن يتزوجها، ولكنه هو جاء لنحسها، وآثرته أمها عليه فتزوجها، مع أن ابن عمها الآن يبلغ مرتبه ضعف مرتب زوجها.
وكذلك لم تكن تنسى أن أمه؛ أم زوجها، التي ماتت قبل خمس سنوات، كانت تعاكسها، وكان كل الناس يقولون له انفصل أنت وزوجتك عنها، ولكنه لم ينفصل.
لقد عاشت مع أمه أكثر من عشرين سنة وهي في عذاب، ولم يرحمها هو، ولم ينفصل.
ولكن - بالطبع - هذه الذكريات القديمة كانت تأتي في آخر المناقرة، عندما تحس أن الموضوع الحاضر قد استنفد كل ما يتحمل من ألوان البيان اللغوي!
وكان الموضوع الحاضر أن أخته قد زارتهم، وأنها؛ أي السيدة أنيسة، كانت قد طلبت من زوجها ألا يزورها، وأنه لو كان قد استمع لكلامها لما زارتهم، وها هي قد جاءت أمس فجعلت تنتقد كل شيء، فقالت: إن زجاج النوافذ يحتاج إلى تنظيف وجلاء! بل دخلت المطبخ وسألت عما فيه، ولم تنس أن تقول: إن البصل قد فسد من الرطوبة، وأنه يجب أن يوضع في الشمس! ما شأنها هي؟ ولماذا تأتي إلى بيتنا؟ وهل ذهبت هي إلى بيتها ودخلت مطبخها؟!
هل ماتت أمه وجاءت أخته كي تكون حماتها بدلا منها؟!
Unknown page