1 - قصة غرام
2 - أعظم المخدرات
3 - أحسن أم
4 - لماذا تزوج؟
5 - ذكريات قلب
6 - خريف + ربيع
7 - طلقت أخي
8 - غرفة الخادمة
9 - الحيوان الذي كان إنسانا
10 - ماتت 3 مرات
11 - تجربة علمية
12 - والدي العزيز
13 - لكن الله يرحمه
14 - العمارة ليست ملكه
15 - إلى المعاش
16 - صوت الشيخ
17 - رؤيا
18 - اختلفوا على الجهاز
19 - موت عظيم
20 - افتحوا لها الباب
21 - هل أنا قتلته؟
22 - قصة السبعة الكبار
23 - هجرتنا إلى القمر
1 - قصة غرام
2 - أعظم المخدرات
3 - أحسن أم
4 - لماذا تزوج؟
5 - ذكريات قلب
6 - خريف + ربيع
7 - طلقت أخي
8 - غرفة الخادمة
9 - الحيوان الذي كان إنسانا
10 - ماتت 3 مرات
11 - تجربة علمية
12 - والدي العزيز
13 - لكن الله يرحمه
14 - العمارة ليست ملكه
15 - إلى المعاش
16 - صوت الشيخ
17 - رؤيا
18 - اختلفوا على الجهاز
19 - موت عظيم
20 - افتحوا لها الباب
21 - هل أنا قتلته؟
22 - قصة السبعة الكبار
23 - هجرتنا إلى القمر
افتحوا لها الباب
افتحوا لها الباب
تأليف
سلامة موسى
الفصل الأول
قصة غرام
ولكن ليس هذا كل الغرام؛ فإننا نغرم بالمجد، ونغرم بالفن، ونغرم بالفلسفة، ونغرم بالطبيعة و ...
جاءني سكرتير التحرير وقال: إن القراء يشكون لأن قصصك لا تحوي غراما، وبعضهم يقول: إن الغرام أساس القصة.
قلت: ولكن جميع قصصي - تقريبا - تحوي غراما.
قال: أعني الغرام بالمرأة؛ أي الحب بين الرجل والمرأة.
قلت: ولكن ليس هذا كل الغرام؛ فإننا نغرم بالمجد، ونغرم بالفن، ونغرم بالفلسفة، ونغرم بالطبيعة، و ...
قال: ولكن غرام المرأة؟
قلت: إذا كان الغرام بالمرأة سيشغلنا عن الغرام بالمجد فإننا يجب أن نؤثر المجد على المرأة.
قال: ألم تقل في إحدى مقالاتك إن الحب يجب أن يكون الأساس للزواج؟
قلت: هو كذلك، وأيما أساس آخر للزواج؛ كالمال أو الوجاهة، هو أساس من رمل ينهار عليه بناء الزواج، ولكن اسمع، هل يمكنك أن تتخيل «نابليون» وهو في حروبه وبرامجه لتغيير الدنيا وتأليف المستقبل، يقعد إلى مكتبه كي يكتب خطابا غراميا لحبيبته يبين لها مقدار ما سحره جمالها، ويصف لها عينيها وأنفها وشفتيها وصدرها؟ أو هل يمكنك أن تتخيل «تولستوي» يفعل ذلك؟
قال: أنت تتحدث الآن عن حب العظماء الذين أغرموا وعشقوا فكرة أو هدفا، فهل تعتقد أن القراء يحبون أن تصف لهم مثل هذا الغرام أو العشق؟ أظن أنهم لن يكترثوا به!
قلت: ولم لا؟ ألا تعرف قصة الحب بين الأديب الفيلسوف «برنارد شو» والممثلة الرائعة «ألن تري»؟ لقد نشر كتاب قبل سنوات يحوي الخطابات التي تبودلت بينهما عن حبهما مدة سنوات، وكان أعظم ما يلفت في هذا الحب أن الحبيبين لم يكونا يلتقيان؛ فقد كان «برنارد شو» يقصد إلى دار التمثيل ويقعد على مقعد أمامي، ويراها كل ليلة وهي تمثل، فإذا عاد إلى منزله قعد إلى مكتبه وكتب إليها خطابا يسر إليها فيه باختلاجاته وارتعاشاته.
وهنا ضحك سكرتير التحرير وقال: هذا حب في الهواء.
فقلت: ولكن هذه الخطابات لم تكن كلها اختلاجات وارتعاشات؛ إذ كانت تحوي أيضا الحكمة والفلسفة والفن.
قال: ولكن، لماذا لم يكونا يلتقيان؟
قلت: استبقاء للحب؛ حتى لا ينطفئ باللقاء، وحتى يغذوه الخيال فلا يفسد أو يفتر بالواقع.
قال: ولكن، هل هذا يطاق؟!
قلت: إن ها هنا موضوعا للتحليل، واعتقادي أن الحب يفتر، وقد يموت بالإسراف في البعد كما يموت بالإسراف باللقاء؛ بالاثنين، وأظن أن حبهما مات وإن لم يفهم هذا من رسائلهما.
فتململ سكرتير التحرير وقال: نريد قصة تحتوي غراما، ودعك من هذه الفلسفة؛ ألم يكن «برنارد شو» نباتيا؟ وهل ننتظر من رجل لا يشتهي أكل اللحم أن يشتهي حب المرأة؟!
قلت: إنك أذكرتني الآن؛ فإن «غاندي» كان نباتيا أيضا، وتزوج عن حب، ولكنه عندما بلغ سن الرابعة والثلاثين انفصل عن زوجته، وصار ينام وحده في غرفة أخرى.
قال: ولماذا؟
قلت: لأنه رأى أن يتزوج الهند، وأن يغرم بالإنسانية، وأن يأرق في الليل فيذكر استقلال الأمم ومكافحة الاستعمار، أليس في هذا الغرام ما يعلو على الغرام بين رجل وامرأة؟
قال: ولماذا لا يجمع بين الاثنين؟
قلت: لأنه لا يستطيع أن يعبد ربين ويصلي في معبدين.
قال: ولكن «غاندي» شاذ.
قلت: إنه فذ، وعصرنا بمشكلاته العديدة وما تجر في أثرها من كفاح واستمتاع، يغرينا بالحب للإنسانية، ويطالبنا بالأفذاذ، ونحن نحس أن وجودنا يتزايد بهذا الحب أكثر مما يتزايد بالحب للمرأة؛ لا، بل إن اهتماماتنا الإنسانية وانكبابنا على الدرس والكفاح يرتفع بنا إلى درجة من النضج تجعلنا نحدد ونقيد استمتاعاتنا بالحب للجنس الآخر، ألم تسمع عن «هافلوك إليس»؟
قال: وماذا في «هافلوك إليس»؟
قلت: إنه رجل أرصد نفسه للفلسفة والعلم، وقد أخرج في بداية هذا القرن نحو أربعين مؤلفا في مختلف العلوم، ولم يكن يؤلفها، وإنما كان يرأس تحريرها ويوجه مؤلفيها، وكان يهدف من ذلك إلى أن يصوغ الذهن الأوربي كي يفكر التفكير العلمي، وقد نجح، ثم هو أيضا أول رائد للبحوث الجنسية وتشريح الحب أو تأليفه، ومؤلفاته حجة لمن يدرسون هذه الموضوعات.
فقال سكرتير التحرير: وأين كل هذا من ضرورة احتواء القصة للحب؟!
قلت: انتظر قليلا؛ فإنه قبل نحو سبعين سنة عرف امرأة تشير إلى ضوء الفجر الجديد، وتدعو إلى مجتمع علمي، فأحبها وأحبته؛ أحب كل منهما عناصر الارتقاء في الآخر.
قال: وهل سعدا بالحب؟
قلت: سعدا بالحب والزواج بضع سنوات قليلة، ثم انتهى «هافلوك إليس» إلى ما انتهى إليه «غاندي».
قال: وعاش في غرفة أخرى ينام فيها وحده؟
قلت: لا، فعل أكثر من ذلك؛ إذ هو اختار مسكنا غير المسكن الذي كانت تقيم فيه زوجته.
قال: هل كان هذا عقب الطلاق؟
قلت: لا، لم يحدث بينهما طلاق؛ فإنهما كانا على حب متين، ولكن لأن لكل منهما شخصية فذة، ولأن لكل منهما اهتمامات إنسانية وعلمية واجتماعية تستغرق الوقت العظيم والجهد المتواصل، فإنهما انفصلا كي يجد كل منهما الحرية التامة في مواصلة عمله وتأدية رسالته.
قال: وهل يمكن أن يسمى هذا زواجا؟
قلت: كانا يجتمعان شهرا أو شهرين كل سنة.
ونفض سكرتير التحرير يده وهو يقول: - ما دامت هذه أفكارك عن الحب والزواج فلن تستطيع أن تكتب قصة.
قلت: ليست الدنيا قصصا، إنما الدنيا كفاح ورسالة، ومع ذلك، سأكتب لك قصة تحوي غراما وزواجا.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: هاك خلاصة القصة: كان «أندريه أوجست» طالبا في كلية العلوم في السوربون في باريس، وكان البحث العلمي يستوعب كل وقته في النهار والليل، لا يكاد يجد في اليوم كله سوى خمس أو ست ساعات للنوم، وتخرج في السوربون، وأسس معملا صغيرا للتجارب في الدجاج والفئران والديدان، وكان هدفه أن يصل إلى الغذاء الذي يجدد الأنسجة فيطيل العمر، كما يقي من المرض، وبعد آلاف التجارب نجح في الاهتداء إلى هذا الغذاء، وفي يوم نجاحه غمره الهوى حتى صار يرقص! أفلا تعترف معي بأن هذا الغرام بإيجاد غذاء يأكله كل الناس وتزيد أعمارهم به إلى الضعف خير من الغرام بالمرأة؟
قال: أجل، خير ألف مرة.
قلت: ولكن اسمع، فإن «أندريه أوجست» كان مع غرامه هذا بالعلم قد تعرف إلى فتاة، وكانت تزوره وهو بالمعمل، ولم يكن يلتفت إليها أيام بحثه قبل اهتدائه إلى الغذاء المضاعف للعمر، أما بعد ذلك فقد شرع يرفه عن نفسه؛ فصار يزور الملاهي معها، ويجالسها ويتحدث إليها كثيرا، وأعادت إليه شبابه المنسي فأغرم بها.
قال: هذه طوالع حسنة للقصة؛ قصة بلا حب للمرأة ليست قصة.
قلت: ولكنك لم تستمع إلى آخرها! فإن «أوجست» كان قد فكر كثيرا في الانتفاع بهذا الغذاء، وكان يجد في أزمة العالم الحاضرة أن غذاءه الرخيص الذي يمكن أية عائلة في العالم أن تطبخه وتأكله، هذا الغذاء لا فائدة منه ما دام العالم يحارب ويقتل بعضه بعضا؛ وخاصة عندما نعرف أن الحرب القادمة قد تقتل ربع البشر أو نصفهم، ولهذا السبب أعلن عن غذائه، وشرط أنه لن يفضي بالسر الخاص بتركيبه إلا للأمة التي تقدم البراهين العملية على أنها لا تنوي الحرب ولا تستعد لها.
فقال سكرتير التحرير: هذا رجل عظيم!
وقلت: لما أحب هذه الفتاة جعلت تغريه بجمالها كي يفشي لها سر الغذاء، ولم يكن قصدها سيئا، وإنما هي شهوة الاستطلاع العلمي فقط، وأفشى لها السر؛ للحب الوثيق بينهما.
فقال: وماذا فعلت به؟
قلت: كانت هذه الفتاة تنتمي إلى الأمة التي تتهيأ للحرب، فحملتها وطنيتها على أن تفشي السر لرجالها.
قال: أعوذ بالله! وماذا فعل هو؟
قلت: لما عرف «أندريه أوجست» أن سر الغذاء قد عرفته الأمة التي تنوي الحرب انتحر!
الفصل الثاني
أعظم المخدرات
إن أسوأ المخدرات هو النجاح المبكر، أنت سكران بنجاحك، إني أدعو لك بالفشل!
لما عرفته، قبل سنتين، أحببته؛ ذلك أنه كان يمتاز بشخصية انبساطية؛ يتحدث ويضحك، ويرى الدنيا مفروشة بالورود، وكان يجمع إلى الشباب شيئا من الوسامة، وكان قد حاول الكسب وهو لا يزال طالبا في الجامعة بالكتابة إلى الصحف الأسبوعية، ونجح في محاولته، وكان يكتب الأخبار التافهة الصغيرة التي تحتاج إليها المجلات ويتقاضى عليها نحو ثلاثين جنيها في الشهر.
وكنت أكفه عن هذا النجاح الذي أصبح عادته، ولكنه طغى في نجاحه، حتى قلت له ذات مرة إنه يتناول أسوأ المخدرات!
قال مدهوشا: أنا؟ أنا لا أعرف المخدرات!
فقلت: يا عاطف، إن أسوأ المخدرات هو النجاح المبكر، نجاح يرافقه شباب ووسامة.
فقال: هل تطلب لي الفشل؟!
قلت: نعم؛ أنت سادر، أنت سكران بنجاحك، إني أدعو لك بالفشل.
فقال ضاحكا: إن شاء الله أنت!
كان هذا قبل سنتين، وكنت أتابع نجاحه وأنا في أسف عليه، ثم تخرج في الجامعة في يونية الماضي، وأحس قوة جديدة زادت طغيانه في النجاح، فوثب وسقط.
وأسوأ ما في النجاح المبكر أنه يعود صاحبه الإقدام، ثم التهور!
فإن عاطف شرع منذ بلوغه الثامنة عشر يغزو قلوب الفتيات، بلا رحمة ولا تبصر، وكانت له معهن ميزتان: السخاء والدموع؛ فإن المرأة تعجب بالقوة، والسخاء من أعظم مظاهر القوة؛ فإنه كان لا يبالي أن ينفق مع الفتاة التي يدعوها إلى التنزه معه نحو خمسة أو ستة جنيهات في اليوم، وكان له أسلوب في إخراج النقود وإلقائها على المائدة، كما لو كانت شيئا تافها، وكان يتفضل على خادم المطعم بنحو عشرين قرشا فوق الثمن، يدفعها إليه كما لو كانت ثلاثة قروش، وكان هذا السلوك يسحر الفتيات.
وفوق ذلك كان له أسلوب قاتل في الدموع.
وقد أخبرني هو كيف وقع على هذا الأسلوب؛ فقد قال لي إنه كان يلعب وهو في العاشرة مع صبية من عائلة مجاورة، وكانت تأكل بعض الحلويات، فرغب إليها أن تعطيه منها، فأبت عليه فبكى، وتأسفت الصبية حين رأت دموعه، وحنت عليه وأعطته الحلوى كلها.
واستقر عند هذا الأسلوب؛ أسلوب أطفال، ولكنه أسلوب قاتل؛ فإنه كان عندما يجد جمودا أو نفورا من إحدى الفتيات يبكي، وكان البكاء يغمر وجهه فتحمر وجنتاه، وتنهمر دموعه ويتشنج، ووجد بالتجارب أنه ليست هناك فتاة تستطيع مقاومته وهو في هذه الحال.
وليس هذا غريبا؛ فإن كل فتاة أم بطبيعتها، وهي تلعب بالعروس وتحتضنها وهي لا تزال طفلة؛ أي تلعب بالأمومة، ولذلك يمتزج الحب عندها بالحنان، وهي تعامل حبيبها كما لو كان طفلها وهي أمه!
وكان عاطف من ذلك الطراز الانبساطي الذي يذوب؛ يذوب فرحا فيضحك كأنه سينفجر، ويذوب أسفا حتى تبلله الدموع، وكان يعرف، بالتجارب العديدة، أنه ليس شيء أفعل من رحيق الحب عندما يمتزج بملح الدموع في القبلة الحارة، وبذلك كثرت ضحاياه.
وهذا هو الذي جعلني أدعو له بالفشل؛ فقد كان خطره كبيرا على الفتيات، كما كان الخطر عليه هو نفسه كبيرا أيضا؛ إذ هو كان يحيا وهو سكران بهذا المخدر القوي: النجاح الدائم.
وحدث هذا العام ما تمنيت له، ولكن بصورة أبشع وأفظع مما تمنيت!
فإنه عرف فتاة طردته لأول لقاء، ولكنه سلط عليها ثلاثة أسلحة: الشباب والسخاء والدموع، فوقعت، وكان وقوعها عظيما؛ إذ حملت، ولم يعرف عاطف في كل مغامراته الماضية مثل هذه الكارثة، وقصد إلى الأطباء في القاهرة يساومهم على إسقاط الجنين، ولكنهم رفضوا، وفكرت الفتاة في الانتحار، وأحس عاطف بجريمته، وجعل يخفف عنها، ويمنيها بإسقاط الجنين، وبالزواج منها.
وسافر إلى طنطا، وهناك وجد من الأطباء من قبل إجراء العملية بخمسين جنيها، وخرج الاثنان من القاهرة في الصباح التالي إلى طنطا، وبعد أقل من ساعتين كان الطبيب يرتكب جريمة الإجهاض التي أتمها بعد أكثر من ساعة من العذاب للفتاة المسكينة.
وعاد الاثنان إلى القاهرة حوالي الظهر، وودع عاطف الفتاة عند باب منزلها، وتجنب السؤال عنها توقيا للشبهة، ولكنه بقي سبعة أيام وهو يتقلب على نار من القلق.
وذات صباح وهو يتصفح الجريدة قرأ نعيها؛ ماتت من عملية الإجهاض، أو من آثارها!
ولقيته بعد هذا الحادث بنحو شهر، وقد هزل وشحب، وكنت قد عرفت الخبر، فكان أول ما قلت له: كان أولى أن تموت أنت!
وجعل يحدثني ويهذي عن الانتحار، فقلت له: اسمع يا عاطف، كنت أتمنى لك فشلا يوقظك من نشوة الانتصار، ولكن شاءت الأقدار أن تسفك الدم، أو تشترك في سفكه حتى تستيقظ؛ أنت مجرم! •••
وقعت هذه الجريمة منذ خمسة شهور، ولم أره منذ ذلك اللقاء المؤلم الأخير، ولكني لم أنقطع عن السؤال عنه، وعرفت أن أم الفتاة قد أصيبت بالفالج، وأنها تلزم السرير منذ وفاة ابنتها.
أما عاطف فقد تغير؛ فإنه لم يترك بيته، بل غرفته، هذه الشهور الثلاثة الأخيرة؛ فقد زهد الدنيا، والنجاح، والحب، وهو لا يزال يجتر جريمته: موت فتاة شابة، وشلل الأم.
واعتقادي أنه سوف يعيش وهو يحمل على عاتقيه هذين الوزرين الثقيلين، ولا بد أيضا أنه سيقلع عن أسلوبه القديم.
ولكن ما منفعة ذلك الآن؟ هل يصلح إنسان بموت إنسان آخر؟!
الفصل الثالث
أحسن أم
الإنسان الذي لا يعتقد أن أمه أعظم امرأة في العالم لا يعد إنسانا حسنا؛ إن كل أم امرأة عظيمة عند أبنائها.
كان الدكتور شوقي يقول لي إن أمه أحسن أم في الدنيا، وكنت أقول له إنه يقول ذلك لأنها ماتت، ونحن نكبر في العادة من فضائل الموتى، وننسى تقصيراتهم أو نقائصهم، ولو كانت أمه حية لكان في الاحتكاكات السيكولوجية اليومية ما يجعل أمه مثل سائر الأمهات؛ لا تزيد ولا تنقص.
وكان صديقي شابا في السادسة والعشرين، قد تخرج في كلية الطب قبل ثلاث سنوات، وتزوج في السنة الماضية، وبعد زواجه بنحو ستة شهور ماتت أمه، فأصبحت كأنها من القديسات؛ لها معبد في قلبه يذكرها ويصلي لها.
وكان لا يفتأ يذكرها حتى كنت أسأم ثرثرته عنها، وأخيرا قلت له كي يكف عن ثرثرته: «عرفت كل شيء عن أمك؛ فقد كانت أحسن أم في الدنيا؛ لأنها كانت تجيد طبخ الرز والملوخية، وكانت تصلح الأزرار المقطوعة، وكانت تحسن غسل ملابسك وترقع جواربك، و ...».
ولكنه قاطعني قائلا: «أنت لا تعرف أمي، فقد كانت تفعل كل هذا الذي تقول، ولكنها كانت تفعل أكثر من ذلك، وأنا لا أحبها وأذكرها لأنها كانت أمي، بل لأنها كانت الأمومة، أتفهم هذه الكلمة؟ كانت الأمومة»!
ونبهني صديقي بهذه الكلمة إلى أن الحديث جد، وأن مزاحي لا يليق.
ثم قال: «ماتت أمي في نحو السبعين، وقبيل وفاتها بشهرين رأيتها وهي عارية، وكنت قد دخلت المنزل دون أن أحدث صوتا؛ لأن معي مفتاحا للباب، وكنت متزوجا، قد مضى على زواجي نحو أربعة شهور فقط، وكانت زوجتي في غرفتها، فكان دخولي كالتسلل لم ينبه أحدا في البيت، وقصدت من فوري إلى الحمام لحاجة، وكان الباب مردودا، ولكنه لم يكن مقفلا، فلما دفعته انفتح ورأيت أمي في الطست الكبير، وكانت تستحم بالماء الساخن الذي كانت تحبه، وكانت قد غمرت رأسها ووجهها برغوة الصابون فلم تحس بفتح الباب ولم ترني، وكانت قد هزلت؛ لأن مرض السكر كان قد عاث فيها وحطمها، وكانت ترفض حقنة الأنسولين، فوقفت أتأملها وأتذكر تاريخها معي طيلة عمري الماضي، وكنت أتوقع موتها بعد شهرين أو ثلاثة شهور، وأحسست كأني أودعها.
وجعلت أتأمل ضلوعها البارزة، وثدييها الضامرين المترهلين، وشعرها الأبيض، وقفص العظام المركب منه جسمها الضئيل، وغمرني حب وحزن ولوعة، ووددت لو أجد الشجاعة وأرتمي على جسمها وأقبلها، وقلت في نفسي: لقد استهلكتها، أنا استهلكت أمي التي فنيت وهي على وشك الزوال الآن؛ فقد أعطتني كل ما فيها من دم وقوة كي أحيا وأنجح، وها هي ذي تبيد وتتبدد كما لو كانت دخانا بعد الإشعال، وبعد شهور ستنطفئ!
ثم رددت الباب في هدوء، وقصدت إلى غرفة الضيوف، فدخلتها وأقفلت علي الباب، وجعلت أبكي وألطم وجهي، وكنت أفعل هذا وأنا أكتم صوتي حتى لا تسمعني زوجتي؛ لأني كنت أخجل أن تراني وأنا في هذه الحال.
تهزأ وتقول إنها كانت تخيط الأزرار المقطوعة، وتطبخ الرز وترقع الجوارب؟ ألم تفن حياتها في هذه الأعمال، وكل هذا من أجلي؟!».
قلت وقد غمرني خجل: «لم أقصد إهانة والدتك، وإنما كنت أعبث بك فقط! ولكل الناس أمهات يمتن، ولكن الدنيا للأحياء وليست للأموات، ويجب أن ننسى حتى أمهاتنا ونحيا حياتنا».
ولكن كلماتي لم تخفف عنه، فإنه مسح الدموع عن عينيه بيده المرتعشة وتنهد، ثم قال: «كنت وأنا طالب بالطب أجد إرهاق المذاكرة، وكنت أضيق بأقل الأصوات، وكنت أبقى إلى كتبي وكراساتي إلى نحو الساعة الثالثة من الصباح، وما من مرة وجدت فيها أمي نائمة قبل أن أنام أنا؛ فقد كانت تقعد في غرفة أخرى وعينها مسددة إلي، تنتظر مني أية بادرة تدل على حاجة كي تنهض وتؤديها، ولم يكن يجدي طلبي إليها أن تأوي إلى فراشها.
وأذكر ذات مرة في حوالي الساعة الثامنة من الصباح، نهضت من مقعدي وأنا محطم القوى كاره للمذاكرة، وكان هذا من أثر التعب والجهد، فقمت أذرع البيت ذهابا وإيابا للانهيار العصبي الذي غمرني، وكانت أمي إلى جانبي تروح وتجيء معي، وهي لا تنطق، ثم عدت إلى مقعدي، وعادت هي إلى مكانها ترقبني، ولكنها لم تجلس، بل بقيت واقفة كأنها الديدبان، ولم تترك مكانها حتى آويت إلى فراشي، ووثقت من أني قد نمت واستغرقت في النوم».
ثم نظر إلى سقف الغرفة وجعل يتأملها، أو يتأمل ذكرياته عن أمه والتفت إلي وقال: «لما نلت شهادة الطب وأصبحت دكتورا كان فرحي بنجاحي دون فرحها؛ فقد كانت تضحك ضحكات هستيرية «وتزأط» كأنها طفل، ومنذ الأسبوع الأول لنيلي شهادة الطب شرعت تبحث لي عن زوجة، وكنت طوال السنوات العشرين الأخيرة من عمرها أواليها بحقنة الأنسولين؛ لأنها كانت مريضة بالسكر الذي أصابها عقب وفاة والدي، ولكن بعد أن تزوجت رفضت حقنة الأنسولين».
قلت: «ولماذا؟».
قال: «رفضت رفضا باتا، وقالت لي: «كنت أعيش كي أراك ناجحا، وأنت الآن دكتور متزوج، فما منفعتي لك؟ دعني أموت هانئة بك، وربنا يطيل عمرك».
وجعلت أتوسل إليها كي تأخذ الحقنة، ولكنها أصرت على الرفض، وانهارت صحتها وماتت بعد شهور».
وتنهد كلانا، وقلت: «اسمع يا دكتور شوقي: كانت أمك امرأة عظيمة، ولكن اعتقادي أن الإنسان الذي لا يعتقد أن أمه أعظم امرأة في العالم لا يعد إنسانا حسنا؛ إن كل أم امرأة عظيمة عند أبنائها».
الفصل الرابع
لماذا تزوج؟
إنهما شاذان أو فذان؛ كلاهما يحب الحب، وقد وجد مصدر هذا الحب في شريكه.
كان أصدقاؤه وأقاربه يتعجبون من كلفه بزوجته، وصحيح أنها كانت رشيقة مهذبة الكلمة والإيماءة، وكان بيتها مرتبا يجد فيه الزائر رونقا للأثاث ورقة في الهواء، على الرغم من الحر خارج البيت، كما يجد نظافة عامة، ولكن ليست كتلك النظافة المعقمة التي تجعلنا نذكر الصيدليات.
كان في بيتها فن، وكان زوجها يعود إليه، إلى بيته، من مكتبه، وهو في لهفة؛ كأنه قد غاب عنه عاما، فإذا دخله لا يتركه إلا في صباح اليوم التالي، بل إنه كان يتأفف من الزائرين له؛ كأنهم كانوا يشغلونه عن حبه المسرف لزوجته «بهجة».
وكانت بهجة تعرف فيه هذا الحب، وتضحك منه في فرح، وكانت قد تعودت منه نزوات، لم يكن فريد، زوجها، يخجل من إبدائها حتى أمام الغرباء من الزائرين؛ فقد كان يهب منتفضا من كرسيه فيقصد إليها ويغمر وجهها بوابل من القبلات، بين ضحك الزائرين وتعجبهم.
وكنت كثيرا ما أداعبهما وأقول إن هذا الكلف مفسد لهما، وأنه يجب أن يخرجا من هذا النشاط المحدود إلى نشاط أوسع؛ أي يجب أن يخرج فريد ثلاثة أيام على الأقل كل أسبوع كي يلتقي بأصدقائه في النادي أو المقهى، ويتصل عن طريقهم بالمجتمع، كما يجب على بهجة أن تزور صديقاتها وتتعرف إلى الأخبار والآراء.
ولكن لا، كان فريد يجد في بهجة كل ما يتمنى في دنياه، وكانت هي كذلك لا يتجاوز نظرها وإحساسها فريد.
وكان الناس، من أصدقاء وجيران، يقولون إن فورة هذا الحب ستخمد بعد السنة الأولى، ولكن ها هما في السنة الخامسة من زواجهما وهما على كلفهما.
لا يمكن أن يكون في الدنيا أسعد منهما.
إنهما شاذان أو فذان؛ كلاهما يحب الحب ، وقد وجد مصدر هذا الحب في شريكه.
ولم تكن بهجة قد حملت، وكان شوقها إلى أن تحمل وتلد يشغل بالها بعض الوقت، ولكن لم يكن هما ملازما؛ لأن حبها لزوجها وما تجد منه من غرام، كان ينسيها هذا الشوق.
وأخيرا حملت ... وازداد تعلق فريد بها.
ولما حان ميعاد الولادة قصدت إلى المستشفى؛ لأن الطبيب لم يطمئن إلى ولادتها في البيت، وهناك بقيت أكثر من أسبوعين وهي تحت إشراف الأطباء، وعرف فريد منهم أن الولادة لن تكون طبيعية؛ لأن الجنين ليس في الرحم؛ أي إن الحمل «خارج الرحم»، ولم يفهم فريد كثيرا في هذا الموضوع، ولذلك كان مطمئنا.
وذات يوم، عقب عودته من مكتبه في الساعة الثانية بعد الظهر، قيل له في المستشفى إنه قد أجريت لزوجته عملية، وهي العملية القيصرية لشق البطن وإخراج الجنين، وأن الجنين مات، ولكن صحة الأم حسنة.
وكاد فريد يجن من هذه الأخبار، وقصد إلى زوجته فوجد أنها لا تزال مخدرة، وهي ملففة بعصابات من القماش حول بطنها.
وحصل فريد على إجازة خمسة عشر يوما كي يلزم سرير زوجته، وكان لا يبرح غرفتها لا في النهار ولا في الليل.
وكانت كلمات الأطباء المعالجين مشجعة مبشرة، ولكن واحدا منهم أبدى له تخوفه من أن الجرح قد ظهر فيه فساد، وأنه يخشى عاقبته.
ثم فتح بطنها مرة أخرى وقطعت منه الأجزاء الفاسدة، وتألمت بهجة كثيرا، ولكنها كانت تتجلد أمام فريد.
وذات مساء، وهو نائم إلى جنب سريرها، استيقظ على صراخها، فنهض وحاول أن يوقظها، ولكنها كانت تنظر إليه كأنها لا تعرفه، وهي في رعب عظيم، تهذي عن الوحش الذي يقف عند الباب ويريد أن يفترسها.
وبعد لحظات سكنت، وكان سكون الموت.
وقال له الأطباء إن صديد الجرح انتشر في الجسم، وأن هذا هو علة هذيانها ورعبها قبل وفاتها.
ودفنت بهجة، وكان فريد يسير خلف نعشها وهو ذاهل لا يصدق أنها ماتت، وكان إحساسه غريبا؛ فقد كان يفاجئ نفسه وهو يقول: غير معقول، غير معقول أنها ماتت!
وغمره إحساس الغيظ، وكأن هذا الموت الذي خطف بهجة منه قد دبره له خصم يريد إشقاءه، فلم يكن يبكي، وغص حلقه بالغيظ حتى صار ينفث منه الدم.
ولكن بعد أيام هدأ الغيظ، وشرع يؤمن بموت زوجته، ويبكيها على المخدة صباح كل يوم.
وكنا نحن، جيرانه وأصدقاؤه، نقول: إن هذه الكارثة التي نزلت به تعلو على كل ما يستطيع أن يتحمله إنسان؛ فإنه سيبقى سائر عمره وهو أرمل لن يتزوج، وكنا نذكر كلفه بزوجته ونقول: كيف يمكن إنسان أن يعيش بعد أن زالت منه هذه السعادة؟!
كنا نأسف ونحزن، ونحس أن حزنه قد فاض من صدره وغمرنا نحن جميعا، ولم يكن منا أحد يراه وهو قادم إلى منزله يتعثر في بطء كأنه في جنازة، إلا ويتنهد ويذكر نشاطه السابق حين كان يعدو إلى بيته كي يلتقي ببهجة ويقبلها.
ما أقسى هذه الدنيا! •••
ثم كان يوم ما زلت أذكره؛ لأنه من التاريخ؛ تاريخ العجايب؛ ذلك أنه بعد وفاة بهجة بخمسين يوما فقط كانت العروس الجديدة تؤانس فريد في منزله.
تزوج فريد بعد أقل من شهرين من وفاة زوجته التي كان كلفا بها إلى حد يضحك الناس.
وأحسسنا نحن، أصدقاؤه وجيرانه، أننا نحتاج إلى الإيضاحات والمشاورات، فكنا نجتمع هنا وهناك، عند واحد منا، ونتحدث ونعلل ونفلسف.
وقال واحد منا: إنه لم يكن يحبها، إنما كان يحب حبه لها.
وقال ثان: إننا حين نحب امرأة إنما نخترع لها صورة في أذهاننا نتعلق بها، وهذه الصورة بعيدة من المرأة التي نحبها، ونحن قادرون على أن نخترع مثل هذه الصورة لامرأة أخرى، وهذا هو ما فعله فريد الذي سيكلف بزوجته الثانية كما كان يكلف بزوجته الأولى.
وقال ثالث: لا، اسمعوا، كان فريد يحب زوجته ويكلف بها، وقد تعود منها عادات صغيرة تتكامل وتتجمع فتحدث له ما نسميه السعادة، فكان سعيدا طيلة زواجه، فلما ماتت شقي؛ لأنه حرم من هذه السعادة، فلم يطق البقاء بلا زواج.
وقال رابع: هذا كلام صادق؛ إن فريد لم يكن يحب بهجة بمقدار ما كان يحب الحال الزوجية التي كان يحياها معها، وكانت حالا هنيئة، فلما ماتت سارع إلى الزواج كي يستعيد هذه الحال.
وقلت أنا: أظنكم على حق هنا؛ فإن الناس يتوهمون أن الزوج إذا أتعسته زوجته وشقي بحياته الزوجية معها فإنه يتمنى موتها ويسارع إلى الزواج من غيرها، ولكن هذا خطأ؛ لأن الأغلب أنه لن يتزوج سائر عمره؛ إذ هو يذكر الحياة الزوجية السابقة وينفر من أن يعود إلى مثلها، أما إذا كانت زوجته قد أسعدته بالزواج فإنه يسارع عقب وفاتها إلى الزواج من غيرها؛ لأن تجربته الماضية للزواج كانت حسنة، فهو يقدم على التجربة الثانية منجذبا وكله أمل في السعادة والهناء.
الفصل الخامس
ذكريات قلب
وأحست أني رجل، وأن لي شخصية، وأني مسئول؛ ألست أحب؟ ألست محبوبا؟ أليس في قلبي سر؟!
هي ذكرى لا ينساها قلبي، كما لا تزال موضوع تنهداتي كلما قعدت على عشب أو تنسمت أرج الزهر، أو هبت علي نسمة في الصباح.
لقيتها لأول مرة وهي قاعدة على مقعد مستطيل في تلك الحديقة الجميلة التي تقع على الشاطئ الغربي من النيل، وكانت قد ابتعدت عن تجمعات الزائرين، وكانت معها كراسة تدرس فيها.
وسعت بي قدماي إليها، وأنا لا أقصد غير النزهة، أتأمل العشب، وأستمتع بإنضاج الأرض، وأتنفس هواء الصباح البارد، وتأملتها قبل أن أبلغها، وأجملت النظرة إليها وأنا أبطئ السير، وكانت سنها لا تزيد على الثامنة عشرة، وكان جمالها مصريا؛ شعر أسود، وعينان وديعتان، وصدر ناهد، وأنوثة عذبة.
وتجاوزت مكانها على الممشى الذي يكسو الرمل، ولكني أحسست في قلبي نداء إليها كأنه دوار أو حنين أو نشوة.
والتفت إليها فوجدتها تنظر إلي، فكانت لحظة من السعادة ما زلت إلى الآن أسترجعها في ذهني، وأعيد تفاصيلها، وأهنأ بذبذباتها العاطفية في نفسي.
وعدت من فوري إلى مقعدها، وقعدت إلى جانبها، وبيني وبينها فرجة. وما أجمل، وما أسعد، تلك الاختلاجة التي عمت جسمها وجعلتها ترتبك في حياء مذهل وحركات مشوشة من اليدين والرأس استدللت منها على الاختلاط في إحساساتها لقعودي إلى جانبها! واغتبطت.
وكان قلبي في لغط وضوضاء، وقد تولت يدي وقدمي رعشة، ولا أعتقد أني كنت أستطيع الحديث إليها لو كنت قد أردت.
وقصارى ما فعلت أني قعدت صامتا، وأحسست أن أرض الحديقة وسماءها وأشجارها قد انفجرت غناء، وكأن قلبي قد انفتح لعصر جديد.
وقعدنا كلانا صامتين؛ أنا أتأمل الفضاء، وهي تدرس كراستها.
ونظرت إلى حذاءيها، وإلى فستانها، وخطفت نظرة إلى صدرها، وتنهدت، ونظرت هي إلي، كأنها فوجئت بتنهدي، وتنهدت هي الأخرى، ودمنا على ذلك ساعة كانت سحرا ونشوة.
ونهضت هي، ونهضت أنا، ولما خرجت من الحديقة التفتت إلى الخلف فوجدتني على قيد خطوات منها فاختلجت، ووجدت سيارة أجرة فركبتها، وقبل أن تتحرك السيارة نظرت إلي، وأثبتت عينيها في.
وقصدت إلى منزلي وأنا في ذهول من السعادة؛ أؤلف الأحاديث معها، وأتخيل إجابتها، وأحاول أن أصور لنفسي كيف تكون يدها في يدي وأنا أصافحها يدا طرية دافئة!
الحق أن هذه المقابلة قد غيرتني؛ لأني وجدت بعدها قصدا في الحياة، وليس هذا فقط؛ فإني أحسست أيضا في قلبي سرا.
وفي اليوم التالي، وفي الميعاد نفسه، قصدت إلى الحديقة وهرولت إلى مقعدها، فوجدتها قاعدة كما كانت في الأمس، ولم تتمالك أن تبتسم، ولم أتمالك أنا أيضا أن أبتسم، وقلت: صباح الخير.
وأجابت في لعثمة محببة: صباح الخير.
وانفجرت الأشجار والأعشاب والأرض والسماء والهواء غناء، ونهضت وجمعت أربع زهور وعدت بها إليها وقدمتها إليها، وتناولتها، وتشممتها في ابتسام، وناولتني زهرتين منها، ووضعت الاثنتين الأخريين على صدرها.
تأملتها في حب وحنان وسعادة ورعشة؛ كانت مصرية، هل يمكن أن يكون في العالم أجمل من الفتاة المصرية حين تبلغ الثامنة عشرة، ويحيط بها حياء كأنه هالة من الرقة والذوق والشرف؟!
وقلت وأنا أتأملها: عيناك سوداوان.
وانفجرت ضاحكة، وخفق صدرها وهي تضحك، فوقعت زهرة والتقطتها، وأعدتها في مكانها، وسرى في جسمي تيار من كهرباء الحب.
وقلت: أنا اسمي يوسف.
وقالت: أنا اسمي ثريا.
ومددت يدي وتناولت يدها، وكانت أصابعها باردة، أما كفها فكانت دافئة، وقبلت الكف والظهر والأصابع ، وتحدثنا عن السحاب الأبيض الذي كان يسبح في السماء، وعن وكر الحدأة في الشجرة الباسقة التي تنهض على حافة الحديقة، ثم استحال الحديث إلى كلمات تافهة وإلى معان مضمرة تتخللها تنهدات.
ونهضت، وركبت سيارة أجرة بعد أن وعدتني أنها ستأتي في الغد، وغابت عني السيارة، وأحسست أني رجل، وأن لي شخصية، وأني مسئول.
وقصدت إلى منزلي، وقبل أن أصل إليه عرجت على شارع فؤاد حيث اشتريت قميصا جديدا مع ربطة جديدة زاهية، ودخلت البيت وأنا في نشوة؛ أتحدث كثيرا وأضحك كثيرا، وفي نفسي إحساس بأني ممتاز على جميع من في البيت.
ألست أحب؟ ألست محبوبا؟ أليس في قلبي سر؟
وعدت في الميعاد إلى الحديقة، ووجدتها، وقبلت يدها في حرارة، وقعدت إليها، ولحظت التفاتها إلى القميص والربطة الجديدين، ووضعت يدها على خدي وأمسكت بأذني ثم بعنقي، وأخذت يدها، ووضعتها على شفتي، وجعلت أقبلها وأنفاسي تخرج على أصابعها، وبقينا نعبث ونضحك نحو ساعة، وجاء ميعاد قيامها، فودعتها إلى السيارة.
وعدت في اليوم التالي فلم أجدها، وعدت في الأيام التالية فلم أجدها، وقد مضى إلى الآن نحو اثنتي عشرة سنة وأنا أستعيد رؤياها، وأتخيلها في اليقظة والنوم، فتمتلئ نفسي سعادة وحسرة.
وكثيرا ما أستسلم لأحلام اليقظة، فأجدني أتحدث إليها، وأتأمل وجهها، وأتشمم العطر في شعرها والعرق في صدرها، وكم من مرة سعدت بهذه الأحلام وأنا أزور هذه الحديقة، فأتخيلني معها ونحن نمشي ونتنحى عن المماشي العامة إلى ظل شجرة، حيث نقعد على العشب، ثم أقترح عليها الزواج، فتغمض عينيها في خفض الحياء، ثم نأخذ في التفاصيل: أين نسكن، وأي أثاث نشتري!
أجل يا ثريا، ما أحلى ذكراك في نفسي! وكم من مرة كنت آوي إلى سريري مهموما أو مغضبا فأتخيلك راقدة إلى جانبي، في أنوثتك وعذوبتك، فأنسى همومي وغضبي، وأهوي على وجهك بالقبل، وآخذك بين ذراعي سعيدا منتشيا.
وعندما أتأمل حياتي الماضية أحس كأنها كانت كلها كتابا من النثر قد خلا من طرب الإيقاع، إلا بضعة أبيات من الشعر، هي تلك الأيام القليلة التي كنت ألقى فيها ثريا في الحديقة.
وهأنذا قد مضى علي ثلاث سنوات وأنا متزوج، ومع ذلك ما أعذب هذا الإحساس الذي تمتلئ به نفسي ويختلج به جسمي!
إني أحس كأن زواجي هذا هو الثاني، وأن ثريا كانت زوجتي الأولى.
كيف يتكون هذا الإحساس مع أن كل ما عرفته منها ثلاث مقابلات في الحديقة، كانت كلها نظرات وتنهدات؟!
أليس حقا أن دنيا الخيال التي نبنيها تحيا معنا وترافقنا، وتؤنس حياتنا، كما لو كانت ودنيا الحقيقة سواء.
أيها القارئ،
عندما تذهب إلى هذه الحديقة التي بالشاطئ الغربي للنيل، شمال جسر قصر النيل، لا تنس أن تيمم الجزء الشمالي منها؛ شمال بغرب، وهناك تجد مقعدا منفردا نائيا، فاقعد عليه، واستعد هذه الإحساسات التي ذكرتها لك، وعش لحظة من السعادة التي استمتعت بها أنا وثريا، واستمع إلى الأشجار والهواء والسماء والأرض وهي تغني كما كانت تغني لنا.
إنها ذكرى لن ينساها قلبي!
الفصل السادس
خريف + ربيع
لقد امتاز بعبقرية الذهن، لا شك في ذلك، ولكنه لم يمتز بعبقرية الحياة. أجل، إن هناك فرقا بين عبقرية الذهن وعبقرية الحياة!
استيقظ الأستاذ ماجد حوالي الساعة الأولى من الصباح، وكان قد آوى إلى فراشه في الساعة الحادية عشرة بعد سهرة تحامل على نفسه فيها وهو متعب.
وأحس أن قلبه يدق دقات غير منتظمة، وأن في رأسه دوارا، وكانت زوجته غارقة في النوم على سرير آخر، ففكر في إيقاظها، ولكنه عاد وتساءل: وماذا يمكنها أن تصنع؟
وازداد الدق في ألم كما لو كان جرحا يضرب، ثم صار خفقانا والتهاثا، فترك نفسه على سريره وهو يقول: إذا كانت هذه هي النهاية فلتكن!
وبقي في قلق وعرق نحو ربع ساعة، عاد إليه بعد ذلك هدوء في النفس وصفاء في الذهن، فاعتدل بقدر ما يستطيع في فراشه وجعل يفكر.
وتقلبت زوجته على سريرها، وخشي أن تراه يقظا، فتناوم، ووضع ذراعه على رأسه، حتى اطمأن إلى أنها نائمة، وعاد إلى نفسه يبحث كأنه يحقق، ثم تنهد وهو يقول: - قد لا أنجو مرة أخرى من مثل هذه النوبة، وقد تفاجئني في الليلة التالية أو بعد عشر سنوات، هذا ما لا أعرف، ولكني أعرف أني حي الآن.
ثم انبسط أمامه فيلم حياته الماضية؛ إنه الآن في الخامسة والستين من عمره، وهي سن خطرة، قل من يتجاوزونها في مصر، وهم في أوربا يبلغونها وهم شبان بفضل العيشة الصحية التي يعيشونها: طعام بلا دسم، ورياضة يومية، ونزهة سنوية، وشباب يستأنف عاما بعد آخر بلا حياء كاذب.
وهو الآن أستاذ معروف في الجامعة وفي غيرها من المحافل الثقافية، وقد ألف كثيرا من الكتب العلمية والفلسفية، وعاش طيلة حياته الماضية وليس له هدف سوى احتواء المعارف وتمحيصها، ودراسة الإنسان والكون. وقد أحاط بالثقافة العالمية، حتى ليمكن أن يقول عن نفسه إنه أكثر الناس ثقافة في بلاده، وأنه ليس هناك ذهن بشري قد وجد من العناية أكثر مما وجد ذهنه؛ فإنه يتصور الكون ويعرف تاريخ الإنسان، ولقد درس من الموضوعات ما لا يخطر على أذهان المثقفين، أليس في مكتبه نحو عشرة كتب ضخمة عن النباتات؟ ثم ألم يشرع هو منذ ثلاث سنوات في دراسة الذرة؟
إنه لا شك عبقري الذهن!
ولكن ما قيمة حياته؟ هل كانت هي الحياة المثلى التي لم يكن ليستطيع أن يختار غيرها لو أنه كان قد خير في بداية عمره؟
وتضاربت الأفكار والخواطر حتى احتواه النوم، واستيقظ في الصباح وتحدث إلى زوجته، وفاجأها بأنه ينوي زيارة الهند، وتأملته وهي لا تصدق ما تسمع، ونهض إلى مكتبته، وقعد يتأمل ولا يقرأ.
وبعد أن تأمل صفحات حياته الماضية فكر وحاول أن يتعقل؛ لقد امتاز بعبقرية الذهن، لا شك في ذلك، ولكنه لم يمتز بعبقرية الحياة. أجل، إن هناك فرقا بين عبقرية الذهن وعبقرية الحياة.
لا شك أنه فيلسوف وعالم وأديب وكل شيء، لقد حفلت حياته بالإحساس والتفكير، ولكنها لم تحفل بالحوادث والاختبارات.
ثم عارض نفسه وهو يقول: ولكن لماذا أقول هذا؟ ألم أحب؟ أحببت امرأتين أخلصت كلتاهما لي.
ولكنه تذكر حبه للمرأة الأولى، وكان مأساة؛ فلقد بسطت أمامه المائدة بكل ما تحتوي من شهي الطعام، وشرع يأكل، ولكن لقمة واحدة لم تدخل فاه، كأن شللا قد أطبق شفتيه، وحاولت هي أن تفتح شفتيه، ولكنها عجزت، وبحث، ونقب، ودرس، وفكر، ثم عرف أن ثقافته قد أرهفت إنسانيته فجعلته يرى في الطعام لحما يصرخ بأنه من الحيوان فترفع عنه.
ألم يعش قرابة سنتين وهو لا يذوق اللحم؟
لقد كان ذهنه متخما بالفنون والآداب التي أفسدت معاني الحب عنده، وكما جعلته يعزف عن طعام اللحم جعلته أيضا يعزف عن لقاء اللحم؛ لقد كان يحب بذهنه، ولكنه كان يجب أن يحب بإحساسه أيضا، ولقد هنئ غيره بالشهوات الأرجوانية أما هو فلم يعرفها؛ لأن دمه شحب بالدراسة وفقد أرجوانيته.
ولكن الحب عاد فدخل قلبه واستقر وأثمر في المرة الثانية.
ثم قال: ولكن حياتي الماضية لم تغص إلى الأعماق، ولم ترتفع إلى القمم؛ لقد عشت في وادي الحياة، لم أعرف إحساس الخطر، ورعشة التحدي له، أو لذة الفرار منه، لم أعش في باريس حين حاصرها الألمان، ولم أخرج مع الناجين ومدافع الألمان تطاردهم، ولم أتذوق علقم الحياة من بؤس أو فقر أو مرض، وكان يجب أن أجرع هذا العلقم حتى أقيء منه. «لقد كانت حياتي حياة الأفكار، ولم تكن قط حياة الحوادث والاختبار»!
لقد خرج «ثورو» إلى الغابة، وفر من المدينة الأمريكية التي كان يسكنها، وأراد بذلك أن يتعمق الحياة ويقف «على حدة» يتأملها في وحدته وعلى بعد من صخب المجتمع، ولكنه هو لم يترك مكتبته؛ لأن حياته كانت حياة الدرس والثقافة فقط.
أين الغابة التي يستطيع أن يلجأ إليها كي يفكر «على حدة» دون أن ينزل على آراء المجتمع؟ أين الغابة التي تحدث فيها الحوادث وتقع الأخطار ويجني منها الاختبار؟ •••
وفي هذا اليوم لم يفتح كتابا، ولم يكتب حرفا؛ إذ كان قاعدا وكأنه في ذهول، وسمع نفسه يقول إنه سيزور الهند واليابان قبل أن يموت.
وتنبه بصرير التليفون، فتناول السماعة، وإذا بصديق يدعوه إلى تمضية المساء عنده.
ورحب، على غير عادته السابقة، بهذه الدعوة، ووعد بالذهاب إلى منزل صديقه الساعة الثامنة.
إنه لا يريد أن يقرأ أو يكتب، إنه يريد لقاء الناس؛ إذ لم يبق من العمر سوى فترة قصيرة أو طويلة قبل نوبة أخرى كهذه النوبة التي أيقظته في الليلة الماضية.
وكان عند صديقه في الميعاد، وتحدث إلى كثيرين في طلاقة وابتسام، وأحس انتعاشا لجو الطرب الذي كان يسود الزائرين؛ فكانوا يضحكون لأتفه نكتة، ويشربون ويأكلون في سذاجة وحيوانية، وأكل معهم وشرب قليلا، ثم انتحى ناحية وقعد، وجاءت إليه فتاة عرف منها أنها معلمة، ويبدو أنها لا تزيد على الخامسة والعشرين من العمر، وطال الحديث بينهما، وكانت هي تتحدث كما لو كانت مسحورة بشخصيته، كما كان هو مرتاحا إلى إعجابها به، وإلى وسامة ملامحها وهدوء نظراتها، وكانت من أجمل ما سمعه منها قولها: أنت إنسان.
ومع أنه كان قد سمع هذه الكلمة قبل ذلك، فإنه كان لوقعها في نفسه، من هذه الفتاة، أثر الطرب الغامر؛ فقد قالتها في وداعة ورقة بالغتين، كما لو كانت تقبل رأسه وتمسح جبينه.
لا بد أنها قد قرأت مؤلفاته.
وتحدثت الفتاة إليه عن شخصية المرأة، وعن حكمة العيش، وعن الكتب، وعن التربية، وعن مؤلفات «أندريه جيد» و«بول سارتر»، وكان يجيب في يسر حتى أحست هي ألفة لم تكن تنتظرها، فلم تخجل ولم تتحفظ.
وترك السهرة وعاد إلى منزله، وفي نفسه أغنية؛ فإن صورة هذه الفتاة لم تبرح ذهنه؛ إنها حين كانت تتحدث كانت ترفع رأسها إليه، فكان يرى عنقها الذي يستهدف ذقنها من أعلى وينساح عن صدرها من أدنى، وهو يذكر أنه وهو قاعد إليها قد تخيلها وقد أرسلت شعرها على وجهها، فانساح حول وجهها إلى كتفيها، ثم تأمل عينيها ونظر إليها، ثم من خلالهما، إلى هذا الذهن الذي يسأل ويستطلع في ذكاء وقصد. أنها تمتاز بعقل متسائل.
ثم طرد هذه الخواطر وهو يقول: كأني أحبها! رجل في الخامسة والستين يحب فتاة في الخامسة والعشرين؟! حب عقيم، وهو على كل حال من طرف واحد ؛ إذ لا يعقل أنها يمكن أن تحبني!
وفي صباح اليوم التالي عاد خيالها يتجسم، وعاد هو يتخيل ويتحدث إليها ويستمع إلى إجابتها، ثم يطرد هذه الخواطر بعزم وعنف.
ثم قال: الواقع أني لا أحبها، ولا يعقل أني أحبها، وكل ما في الأمر أنها شغفتني بإعجابها بي وبحديثها.
ولكن ساعي البريد جاء بعد يوم بخطاب منها، وعرف أن اسمها «فتنة»، ولم يجد في الخطاب غير سطور عن إعجابها به وشكرها له، ثم رجاء بلقاء آخر.
فعاد يتأمل، ثم يفكر، وماذا لو لقيته؟ لعله يحتاج إلى مثل هذا اللقاء الذي يكسبه إحساسا مجددا بالشباب، كما تنتفع هي بحديثه. نعم، هو لقاء تلميذة بأستاذها.
وتقابلا، ثم تكرر اللقاء، ولم يكن يخاطبها باسم فتنة؛ لأنه وجد في ذكائها وإنسانيتها ما جعله حين يخاطبها يقول: يا نفس.
كان يحس أنها نفس أكثر مما هي جسم، وأنها إحساس أكثر مما هي تفكير، وأحبت فتنة هذا الاسم، وقالت: جميل هذا الاسم؛ اسمي نفس.
وسطعت «نفس» على حياته وأشرق ذهنه، وكان في الصباح، وهو قاعد في مكتبه، يتناول القلم ثم يؤلف بيتين من الشعر، لا يتمهما حتى يضحك ويمزق الورقة.
وذات صباح، وهو في مكتبه، تذكر «نفس»، فأحس انتعاشا واعتلاء، وكتب هذه الكلمات: «إني ما زلت أقتفي أثر شبابي وأنزع نزعته»!
ثم تأمل معاني هذه الكلمات وضحك، ومزق الورقة. •••
وكثرت المواعيد والمقابلات، وكانا يخرجان لمقابلة الربيع في الحقول؛ حيث يعبق الجو بأزهاره، وحيث تنشد الطيور أشعارها على الأشجار، ثم تكون بينهما كلمات وهمسات وقبلات، ثم يفترقان ويعود الأستاذ ماجد إلى منزله ليتلقى وخزات ضميره: ما الذي يبغي من هذا الحب؟ إنه يعبث بالفتاة. وصحيح أنه مخلص في حبه صادق في إحساسه، ولكن مكانة كل منهما الاجتماعية، والفرق الشاسع بين عمريهما، يجعلان من كل هذه المقابلات عبثا؛ إذ لن تنتهي بزواج.
ثم يعتذر أمام ضميره فيقول: ولكنها تنتفع بحديثي؛ لأني أربيها.
ولكن ضميره يرد في غلظة: أنت تغالط، وأنت تعرف أنك تثلم شرفها بالإشاعات، وتعطل زواجها من شاب في عمرها يعطيها قدر ما تعطيه من قلبها، وهذا ما لا تقدر أنت عليه؛ خير تربية لها هو زواجها.
ثم تغمر ذهنه غيمة من الظلام والأسف؛ لأن عقله يناقض قلبه. أجل، يجب أن يعترف بالحق، وأن يقول لها إنهما لا يتكافآن؛ إذ هو في سياق الموت، وهي في انتظار الحياة، هو في خريف العمر، أو في شتائه، أما هي فلا تزال في ربيع عمرها.
وبعد أيام قصد الأستاذ ماجد إلى الآنسة «نفس» وأخبرها بضرورة انفصالهما، وقال: لا أعرف إذا كنت عاقلا أم جبانا، ولكن على أية حال يجب أن تتزوجي شابا في سنك، وأن تسكبي عليه كل ما عندك من حب، أما أنا فحسبي عبقرية الذهن، أما عبقرية الحياة فقد مضى أوانها عندي.
وفزعت «نفس» من هذا التغير، وأصرت على أنهما زوجان؛ زوجان في الروح، وأنها لا تطلب أكثر من ذلك.
ولكن الأستاذ ماجد أصر أيضا على أنها يجب أن تتزوج وتحيا حياة بعيدة عنه؛ لأنه لا يكفل لنفسه أو لها السلامة في هذا الحب الذي وصفته بأنه «روحي».
إن هذا الحب بلا شك، إلى الآن، كما وصفته، ولكن هل يمكنهما الصبر على ذلك طويلا؟ وما بقي من عمره هو سنوات معدودات، وقد لا تكون أكثر من شهور، أما هي فأمامها نصف قرن، وعليها أن تختار هذا الشريك الذي يرافقها في هذه الرحلة الطويلة.
وقال: لا بد من الانفصال، لا بد.
ثم صمت، وعاد إلى الكلام وقال: عودي إلى الحياة، وسأعود إلى مكتبي.
وتألمت «نفس» وبكت، وتوسلت، ومسح هو دموعها، وقبل شعرها ووجهها وهو يرتعش، ثم جرى الحديث بينهما كما لو كان عتابا واعتذارا بين عاشقين، واقتنعت هي، من حيث لم يقل لها، فإن فراقهما هو الوسيلة الوحيدة لأن يعود الأستاذ ماجد إلى دراساته التي انقطع عنها لاشتغال قلبه بحبها.
ثم صار الحديث وداعا ودموعا، أنها لن تنساه، أنه لن ينساها، ولن تنقطع المكاتبات بينهما حتى بعد أن تتزوج من شاب في عمرها، وقالت وهو يمسح دموعها: إن ما يربطني بك أقوى من أية رابطة أخرى.
وتزوجت «نفس» من أحد الأطباء الشبان، وأصرت على استبقاء هذا الاسم الذي يذكرها على الدوام بزواج روحي سابق لن يلغيه طلاق، أما الأستاذ ماجد فقد أحس أنه لا يطيق رؤية مكتبه وقراءة كتبه، فتجهز وسافر إلى الهند في «رحلة ثقافية»؛ كي يختبر الحياة بما بقي له من وسائل الاختبار.
وبعد سنين كان أصدقاء الأستاذ ماجد العارفون يقولون إنه كان عاقلا، أما هو فكان يقول عن نفسه إنه كان جبانا.
الفصل السابع
طلقت أخي
وجمعنا الأقارب للصلح، وأي صلح هذا؟ أليس لنا أرض ولنا دخل؟ فما معنى الصلح إلا أن نحصل على هذا الدخل؟!
طلقت أخي، وانفصلت منه، وقد مضى علي أكثر من عشر سنوات وأنا لا أعرفه، ولم أذكره إلا لأني قرأت نعيه في الجرائد.
وفي هذا الكلام قسوة، بل خشونة تأباها الرقة والذوق، ولكنه هو الحق، على الرغم من الأخلاق الإقطاعية التي لا تزال تلابسنا، وتوجه عواطفنا، وتطالبنا بالخضوع لنظام بطريركي في العائلة، وهو نظام قد أصبحت الظروف الجديدة تصرخ بإلغائه.
وأنا الآن أم؛ لي ثلاث بنات وولدان، وإني لأحاول جهدي ألا أقع في الأخطاء التي وقعت فيها أمي، وأحاول جهدي أن أمنع الولدين من الاستبداد بأخواتهما البنات كما استبد أخي بي وبأختي، وإني لأضرب لهم جميعا المثل لما فعله أخي معي أنا وأختي؛ حتى يتعظوا، وحتى لا يحس أحد من الولدين أن من حقه أن يستبد بأخواته البنات، أو يجيز لنفسه أن يسرقهن كما فعل أخي بي وبأختي.
قرأت نعي أخي في الجرائد فتنهدت، ولكني أحسست انفراجا؛ فإن بقاءه في الدنيا كان تحديا للحق والشرف والحب والإنسانية، ولكنه مع ذلك كان، إلى حد ما، مظلوما؛ لأن المجتمع الذي كنا نعيش فيه قبل ثلاثين وأربعين سنة كان يتجاوز عن الآخر الذي يسرق أخواته البنات، وكان يعده الوارث الأصيل للأبوين.
إن البنت حين تتزوج وتترك بيت أبويها، يجب أيضا أن تترك كل ما في هذا البيت، وأنه ليس لها من حق في ثروة أبويها سوى هذا الحق الصوري الذي يتعين في عقود الامتلاك.
ورثت عن أبوي نحو عشرة فدادين، وهذا غير حصتي في بيتنا الكبير في القاهرة، وكان أبي قد مات قبل زواجي بسنة، وماتت أمي بعد زواجي بثلاث سنوات، وكان زوجي رجلا حييا، وكان يعمل موظفا في إحدى الوزارات بمرتب يكفينا، كما كان يملك منزلين بالقاهرة يغلان لنا دخلا سنويا معتدلا؛ ولذلك لم أطالب والدتي أو أخوي بشيء من حقي طيلة حياتها؛ وذلك لأني كنت أحبها، وأحب أن تحس بأن ما ورثته أنا من أبي يجب أن يبقى لمتعتها، وأيضا لأن زوجي كان حييا يعتقد أن ليس من الشهامة أن نطالب أمي وأخوي بدخلي وهو دون المئة من الجنيهات في السنة.
وماتت أمي، وقضيت أنا وأختي بمنزل أبوي نحو خمسة عشر يوما نستقبل التعازي، وكانت أختي متزوجة مثلي، ولكن زوجها لم يكن على يسر في العيش، وكانت أمي في حياتها تساعدها بالقليل الذي تحصل عليه من أخوي.
وقبل أن نغادر المنزل، أنا وأختي، تحدثنا إلى أخوي بشأن ما نملك في الأرض والبيت، وكان في البيت من الأثاث ما لا يقل ثمنه عن ألف جنيه، ولكننا لم نتحدث عنه بتاتا وتركناه لأخوينا.
وإني لأذكر الامتعاض الذي بدا على وجه أخي الأكبر حين صارحناه، أنا وأختي، بأننا نحتاج إلى دخلنا من الأرض، وقد سلم أخي الأصغر بهذا الحق، ولكن أخي الأكبر لم يسلم به، وجعل يسوف، ويتعلل بأنه لا يعرف المستأجرين، وأن هذا الموضوع يمكن أن يؤجل.
وفهمت من التأجيل أنه لن يتجاوز الشهرين أو نحو ذلك، ولكن مضت تسعة شهور دون أن نجد أية نتيجة، وجاءتني أختي تشكو، وتقول إن ما كانت تحصل عليه من أمنا قد انقطع، وأنها في حاجة؛ لأن دخل زوجها صغير، وأن أولادها قد كثروا.
وقصدنا أنا وهي إلى أخي الكبير، وحادثناه في رفق وحب، ولكنه عارضنا في عنف، كأننا أغراب نريد الاستيلاء على ثروته بلا حق.
وجمعنا الأقارب للصلح، وأي «صلح» هنا؟
أليس لنا أرض ولنا دخل؟ فما معنى الصلح إلا أن نحصل على هذا الدخل؟
ولكن كلمة «الصلح» كانت تعني شيئا آخر عند أخوي الاثنين، وعند الأقارب، وكان الكلام كله يجري على هذا النسق: الصلح خير، الوفاق أحسن من الخلاف، بوسي رأسه، بوس رأسها!
ثم ينفض السامر، ونعود أنا وأختي إلى بيتنا بلا نتيجة.
ولم نكن ننتزع خمسة أو عشرة جنيهات من أخي إلا بعد شجار، وكان يحاسبنا - إذا حاسبنا - على إيجار لا يزيد في المتوسط على أربعة وخمسة جنيهات للفدان، في حين كان هو يؤجره بنحو عشرين أو ثلاثين جنيها، وحاولنا بيع الأرض، فجعل يعرقل البيع، حتى لم يعد أحد من المجاورين يخاطبنا في البيع.
وكنا حين نشكو يقال لنا إنه فاتح بيت، وإننا يجب أن نتسامح معه، وكأن «فتح البيت» يعني أن يأكل هو أكثر مما نأكل نحن، وأن يقتني سيارة في حين أن أخته لا تجد القدرة على شراء الطعام الضروري لأطفالها.
وأخيرا حدثت الكارثة: فإن زوج أختي مات، ولم يترك لها من المعاش سوى نحو سبعة جنيهات في الشهر، وكان أولادها خمسة: ولدان وثلاث بنات، أصبحوا جميعهم على الحضيض، أو ما يقارب ذلك.
وقصدت إلى أخي، وبسطت له حال أختنا، وتبرعت أنا بكل حصتي في ميراث أبوي لها، ورجوته بأن يعطيها حقها؛ حقها لا أكثر.
ولكنه تبرم، وزعم أن الأرض قد انحطت، وأن ريعها يقل عاما بعد آخر، ولم أتمالك أن أقول هنا: ولماذا لا تبيع السيارة وتعطي أختك حقها؟
واستشاط هو من كلامي، فهب يسبني ويهدد بأنه لن يدفع شيئا، لا لي ولا لأختي.
حدث هذا منذ عشرة سنوات، وقد طلقته منذ تلك اللحظة ودخلت أنا وأختي معه في قضايا للقسمة، وللحصول على الإيجارات، وقد أنفقنا في هذه القضايا مئات الجنيهات وست سنوات من النزاع.
ونجحنا في الحصول على ميراثنا في البيت والأرض، ونجحنا في أكثر من ذلك، وهو أننا طلقناه؛ لأنه لم يكن أخانا.
أجل لقد طلقت أخي؛ لأني وجدت أن من حقي أن أحيا حياتي وأنا بعيدة عن هذه الشخصية المعاكسة المشاكسة ، فضلا عن حقي في ميراث أبوي.
وحين قرأت نعيه في الجرائد ذكرت المعاكسات التي لقيتها أنا وأختي منه كي ينهب حقنا بدعوى أنه «فاتح بيت»، وتنهدت، ولكني عجزت عن أن أقول: الله يرحمه.
الفصل الثامن
غرفة الخادمة
ومع أن «أسماء» كان يخالجها اليأس، فإنها كانت لا تزال تستمسك وتأمل ضد الأمل.
تزوجته عن حب يزيد على ما كان يكنه هو لها منه؛ فقد كان محاميا موهوبا، نال شهادة الحقوق ولم يبلغ الثانية والعشرين، وكان وسيما في قوامه، كما كان أنيقا في ذوقه؛ يتخذ الملابس التي تماثله، ويتحدث في ابتسام، ويسرع إلى تقديم المعونة التي تقتضيها الشهامة للآنسات.
عرفته «أسماء» وهي طالبة معه أيضا في كلية الحقوق، وجرفها الحب فلم تكن تطيق مفارقته؛ إذ كانت تذهب إلى منزله، أو يذهب هو إلى منزلها للمذاكرة، ومع أنه كان يسبقها في الدراسة بثلاث سنوات فإنهما كانا يتعللان بأن هناك موضوعات دراسية لا يزالان يشتركان فيها.
ولما نال الأستاذ أنيس شهادته وترك الكلية، كفت أسماء عن الاستمرار في الدراسة، وتم زواجهما، وسافرا الإسكندرية حيث كان مكان العمل الحر؛ أي المحاماة، الذي اختاره الأستاذ أنيس مؤثرا حريته على الوظائف الحكومية.
ولم تندم أسماء على تركها للدراسة؛ فإنها وجدت في أنيس كل ما تشتهيه الفتاة في الزواج من السعادة، ووجد زوجها الشهرة التي لم تتأخر كثيرا؛ فإنه أمضى السنة الأولى فيما يشبه الركود والكساد، ولكن الرخاء كان في السنة التالية؛ فإن كثيرا من الشركات عرفته وأقبلت عليه، وكان اختصاصه القضايا المدنية والتجارية.
ومضت سبع سنوات وهما يتقلبان في هناء الزوجية، وكان كسب الأستاذ أنيس وفيرا، يتيح لهما التشتية في الأقصر، والاصطياف في لبنان، ولكن كان هناك مع ذلك ما ينغصهما، وهو أنهما حرما الأطفال، ومع كل ما بذلاه من مجهود بقيا طوال هذه السنوات دون أن تحمل أسماء.
ولكن الثراء، وما كان يتيح لهما من الاستمتاع، كان ينسيهما هذا الحرمان، وأنهما استقرا في النهاية على عادات اجتماعية تشغل وقتيهما بالزيارات والتنزهات وشراء الصفقات الكاسبة من عقارات مدنية أو ريفية.
ثم حدث وهما يسيران ذات يوم على الكورنيش أن لحظت أسماء في زوجها اضطرابا في حديثه؛ فقد كان يثب من موضوع إلى آخر في تفكك وبلا ارتباط، ولم تأبه كثيرا؛ إذ هي عللته بأنه متعب من عمله في مكتبه.
ولكن هذا الاضطراب استمر في اليوم التالي، وزاد كثيرا بعد أسبوع، حتى إنه؛ أي الأستاذ أنيس، كان وهو إلى المائدة ينسى أنه يأكل، ويسترسل في الحديث المتفكك عن السياسة، التي يثب منها إلى بعض القضايا التي يدرسها، ثم يثب من هذا إلى الاستحمام في البحر، ثم يذكر أحد الأصدقاء.
وذهلت أسماء، واستدعت ثلاثة من أصدقاء زوجها، وجميعهم من الأطباء، وما هو أن حضروا إلى منزله، ورأوه على هذه الحال حتى تلاحظوا في صمت يدل وكأن كربا عظيما قد حط عليهم.
وهرع أحدهم إلى الشارع، وسارع إلى سيارته، ومضى بها يعدو إلى إحدى الصيدليات؛ حيث اشترى عددا كبيرا من الأنابيب عاد بها، وشرع الجميع يعالجونه ويحقنونه.
وفهمت أسماء من نظراتهم أن هذا مرض خطير يخشونه، فطلبت منهم أن يصارحوها، ولم يتأخروا عن مصارحتها، وفهمت أسماء أن زوجها مريض بأحد الأمراض الوبيلة التي تنتهي بالشلل العام ثم الموت، إذا لم تعالج في شهورها، بل في أسابيعها الأولى، وأنه؛ أي زوجها، قد وصل إلى الدور الأخير من المرض، وأن الأمل في شفائه ضعيف ولكنهم لن ييأسوا ...
وفهمت أسماء من الأحاديث الصريحة مع الأطباء أن العزوبة كثيرا ما يحفل طريقها بالمزالق للشبان، وأن هناك مرضا خطيرا يبدأ بعلامات تافهة، ولكنه ينتهي إذا أهمل بالدمار؛ لأنه يمزق الأعصاب ويبلي خلايا المخ، فيكون الجنون والشلل معا.
وخرجوا بعد أن أرقدوا الأستاذ أنيس على سريره، ونصحوا لزوجته بما يجب أن تفعل.
ووجدت أسماء نفسها مع زوجها وحدهما، فأكبت عليه وهي تبكي وتقبله، وتخرج منها كلمة «يا حبيبي» مكررة في تنهدات تمزق قلبها.
وواظب الأطباء على معالجته نحو شهر، وكانت أسماء تعنى به عناية الحب؛ فكانت ترقد إلى جانبه، وتحمل كل يوم طعامه إليه في السرير ، وتمسحه بالكئول، وتغذيه بأطيب ما يحب من طعام، ولا ترضى للخادمة كي تغنيها عن بعض المتاعب في تنظيفه.
ولكن كل هذا ذهب بلا جدوى؛ فإن المرض سرى في خلاياه البعيدة، وذات يوم هب من فراشه يحاول أن يمشي فوقع، وجاء أحد معالجيه فقال إنه الشلل العام للمجانين.
ولم يعد الأستاذ أنيس يعقل شيئا؛ فإن عينيه كانتا تسددان إلى السقف، ثم تجري الكلمات على لسانه سائلة بلا ضابط.
ومع أن أسماء كان يخالجها اليأس، فإنها كانت لا تزال تستمسك وتأمل ضد الأمل.
وجاءت أمها ورأت المريض فتأسفت وبكت، وبقيت مع ابنتها.
ومضت شهور، وأصبح الأستاذ أنيس في غرفته كأنه بعض الأثاث؛ ينظف جسمه، ويرتب سريره كل يوم.
وكان الضيوف يأتون إلى البيت للمسامرة والمؤانسة، وكانوا جميعهم على وفاق في الصمت عن السؤال عن صحة الأستاذ أنيس.
وأصبح الدكتور أنيس شبحا في البيت، تحتويه غرفته، كلهم يدري علته، ولكن كلهم أيضا يصمت ولا يذكره بكلمة.
وكانت أسماء في الشهر الأول من علته لا تزال تحمل إليه طعامه، وتمسح عنقه، وتخلل شعره بأصابعها، وتتحدث إليه: «بكره تشفى، بكره تقوم، حبيبي ...».
ولكنه كان ذاهلا يتمتم بكلمات مغمغمة وعيناه إلى السقف.
وجاء الشهر الثاني، فكفت أسماء عن الدخول إلى غرفته، ووكلت العناية به إلى خادمتها، ولم تكن الخادمة، على طيبة قلبها، قادرة أن تتجلد لهذه الخدمة المضنية؛ لأن الأستاذ أنيس لم يعد قذرا فقط، بل لقد أصبحت قذارته تشبه النجاسة.
ومضت سبعة شهور وهو على هذه الحال.
ووجدت أسماء نفسها ذات صباح، وهي تتأمل حالته، تقول في صوت مسموع: حيوان، وأحست كأنها تريد أن تبصق، وسمعت أمها وهي تقول: لو أنه يموت!
أجل، لقد فكرت أسماء كثيرا، لو أنه يموت لأصبحت هي حرة تتزوج من تشاء؛ فإنها لا تزال دون الثلاثين، وقد زاد جمالها روعة وأنوثتها سحرا.
ولم يعد هناك بصيص من أمل في شفائه.
وذات صباح نادت أسماء خادمتها وطلبت منها أن تنقل الأستاذ أنيس إلى غرفتها؛ غرفة الخادمة التي تجاور المطبخ؛ حتى لا تتعب كثيرا في العناية به، وعلى كل حال يجب إخفاؤه بعيدا عن عيون الزائرين.
وعادت الخادمة فحملته من السرير إلى حضيض الغرفة، فوقع كما لو كان كتلة من الطين، ثم نقلت السرير، ثم حملته كما لو كان غرارة تحوي سقط المتاع، فألقته على سريره في غرفتها.
ولم تعد أسماء ترى وجهه، وبقي نحو شهرين وهو لا يحس ولا يعقل، ثم مات الأستاذ أنيس ودفن في الخفاء، وتنهدت أسماء وأمها والخادمة في ارتياح، ودبت الحياة في البيت من جديد، وكثر الزائرون من عائلات الشبان المرشحين للزواج.
الفصل التاسع
الحيوان الذي كان إنسانا
مات من كثرة الشراب والطعام، مات بعد خمسين سنة من العمر لم ينتج فيها سلعة ولم يؤد خدمة.
كنت أتحدث إلى صديقي، وكان وجوديا، يقول بأن الإنسان مسئول وحده عن مصيره، وأنه هو الذي يصنع نفسه ويختار أخلاقه، وما يصيب من نجاح أو خيبة في الحياة إنما هو المرجع الأول والوحيد فيه، وهو إذا كان يعلل خيبته بعلل أخرى فإنما ذلك لأنه قد خاب، ولا يحب، أو لا يطيق أن يتحمل تبعة خيبته، فهو يحيلها على غيره جبنا منه، وعجزا عن مواجهة الواقع.
وكنت أخفف من حدته الفلسفية هذه وأقول إن المجتمع يصنعنا؛ فهو يورثنا عقائد دينية أو خرافية تلصق بنا طوال أعمارنا، وهو يعين لنا أفكارنا وأخلاقنا بالكلمات التي نستعملها، وننسى أنها هي أيضا تستعملنا، وهو أيضا؛ أي المجتمع، يعطينا المعلمين الذين يوجهوننا، ثم نحن نجد من الأصدقاء والصحف والكتب ما يوجهنا ويعين لنا أهدافنا على غير دراية منا.
نحن مسيرون ولسنا مخيرين.
ولكن صديقي الوجودي نهض من كرسيه واقفا معترضا، ثم قال: «اسمع، مات لي قريب في السنة الماضية، وكان من سني، وقد نشأنا في بيئة واحدة، وكان أبوانا على ثراء ومقام سواء، فلم يكن هناك اختلاف بين تربيتي وتربيته، وأنا أؤكد لك أننا؛ أنا وهو، كنا إلى سن العاشرة أو الثانية عشرة لا نختلف في درجة التعليم أو الأخلاق أو الذوق، وكان توافقنا لذلك تاما وصداقتنا متينة.
ولكن منذ هذه السن شرعنا نفترق ونختلف، وظلت اختلافاتنا تنمو وتتكاثر حتى فصلت بيننا، وقد بلغنا كلانا سن الخمسين في السنة الماضية، فمات هو بعد أن مرضت كبده، وقيل له إن علة المرض هي الأكل الكثير.
أفهمت هذا؟ الأكل الكثير، مات من الأكل الكثير، مات حيوانا بعد أن كان إنسانا، أو على الأقل كان إنسانا طوال مدة طفولته وصباه، فلا تقل إن المجتمع قد وجهه أو كان هو المسئول عن الحيوانية التي تردى فيها؛ فإنه حين كان عجينة تعجن وتصاغ، كان حسنا، إلى سن الثانية عشرة، ولكنه حين شرع يفكر ويستقل ويتبصر اتجه نحو الاستهتار والشر، بل الإجرام، واتجهت أنا وجهة أخرى، وهأنذا أمامك، عشت في وسط الطفولة الذي عاش فيه، ولكني نظمت برنامج حياتي نظاما آخر، والنتيجة أنه هو الآن في القبر، وأنا حي في صحتي وآمالي وثقافتي ومقامي.
تركته في بداية الثالثة عشرة من عمرينا؛ لأني وجدت أنه قد عرف بعض الصبيان، وكان يخرج معهم في صبوات عجيبة استنكرتها أنا وأقبل هو عليها؛ فكانوا يسرقون الشجر، ويؤلفون عصابات صغيرة لضرب خصومهم.
والعجب أن نجاحه في المدرسة كان أكبر من نجاحي؛ فإنه حصل على الشهادة الابتدائية في حين أني رسبت؛ ولذلك لا يمكن أن تقول إني أذكى منه، ولكن عقب ذلك ابتدأت حياتي تسير في مراحل من الرقي، وابتدأت حياته تسير القهقرى.
ولست أعني بذلك أني كنت خلوا من الرذائل، أو أنه لم تكن لي صبوات، ولكن صدقني حين أقول لك إني كنت في العشرين أفكر كيف أكون في الخمسين؛ فكنت أدرس، وأتوقى الخمور، وأحاول أن أكون اجتماعيا، وأن أدخر من مالي للمستقبل.
كنت كذلك، أما هو فكان في العشرين يشرب الخمور ويرافق السكيرين واللصوص.
وكان دخل كل منا يساوي دخل الآخر؛ بالميراث وليس بالكسب، فكان يسافر إلى أوربا للاستهتار، فإذا عاد إلى مصر قضى أيامه فيما بين المدينة والعزبة، فإذا كان بالعزبة سرق الفلاحين أو سحقهم أو اشترى عفة نسائهم، كانوا مساكين مغلوبين معه؛ لأن لقمة عيشهم كانت في يده، فإذا قصد إلى المدينة أنفق ما جمعه من العزبة، فكانت لياليه حمراء مع اللصوص الذين كان يسلطهم على جيرانه أو خصومه كي يحرقوا غلاتهم أو يسرقوا مواشيهم.
أذكر أني لقيته ذات مساء قبل عشر سنوات، فدعاني إلى مرافقته، ومع اشمئزازي منه قبلت الدعوة؛ كي أدرسه وأعرف إلى أين انتهى، فقادني إلى حانة، وهناك اجتمع به «أصدقاؤه» وكانوا من الريفيين الموسرين، وجعلت أنصت بعناية لحديثهم، وكان كله - تقريبا - نوادر عن صبواتهم؛ فذكر أحدهم كيف اهتدى إلى شراء مقدار حسن من الحشيش، وذكر آخر شيئا عن امرأة كانت له بها معرفة حميمة، وذكر ثالث تفاصيل نزهاته الليلية الأخيرة في الإسكندرية.
وكانوا طيلة حديثهم يشربون الخمر كما لو كانت ماء، ويأكلون في نهم كأنهم خراف تلتهم العلف، وكنت أشرب معهم وأضحك وآكل ولكن مع التقصير؛ لأني لم أكن قادرا على اللحاق بهم، وكان تقصيري هذا، مع عجزي عن الإدلاء بنكتة طريفة تساعدهم على الضحك، ومع صمتي من وقت لآخر بما لا يتلاءم مع هذا المجلس ومرطباته - مدعاة لرثائهم لي.
ونهضنا بعد منتصف الليل، وسلمت وودعت، وقصدت إلى الفندق وارتميت على سريري، وجعلت أفكر وأتأمل؛ قريبي هذا قد استكرش وأصبح بطنه كالقربة المنفوخة، وتمثلت صورته وهو يأكل، حين امتلأ شدقاه بالطعام وانتفخ وجهه، وكان يتجشأ ويتحرك على الكرسي كأنه جثة مائعة فقدت تقاسيمها، ولم أتمالك الاشمئزاز، وعدت إلى ذاكرتي حين كنا صبيين نلعب.
ولم يمض قليل حين عرفت أن جسمه عجز عن استهلاك الطعام الذي كان يأكله، فأضرب وصار يبول المواد النشوية التي كان يأكلها سكرا خالصا، ثم عجزت كبده عن العمل، فأضربت هي الأخرى، وقد نصح له الأطباء بالإقلال من الشراب والطعام، ولكنه لم يطق ذلك، ومات في العام الماضي.
مات من كثرة الشراب والطعام، مات بعد خمسين سنة من العمر لم ينتج فيها سلعة ولم يؤد خدمة، مات هو، وأنا حي، لقد تساوينا في فرص الطفولة والصبا، وورثنا ميراثا يكاد يكون متساويا، ولكننا افترقنا؛ لأنه هو اختار طريق الرذيلة واخترت أنا طريق الفضيلة.
لهذا أنا وجودي، أنا مع «بول سارتر»؛ كل إنسان مسئول عن مصيره، كل إنسان يصنع نفسه ويصوغ شخصيته، هو حر، حر، حر».
وقلت، بعد أن تنهدت، لصديقي: لا يا صديقي، إنما هو المجتمع الذي يسأل عن مصيره، أو عن جزء كبير منه، وهذه الحرية التي تعتقد بوجودها إنما هي وهم، وإني واثق بأني لو عرفت التفاصيل لاستطعت أن أبين لك أن قريبك هذا كان ضحية المجتمع الذي عاش فيه.
وحسبك أن تعرف أن هذا المجتمع قد أتاح له الخمر الكثيرة، والطعام الكثير، وفرص السرقة من الفلاحين، ولم يعلمه، ولم يجبره على أن يكسب عيشه بعرق جبينه. أجل، لم يعلمه الشرف!
الفصل العاشر
ماتت 3 مرات
لماذا دفناه يا جلجل؟ رجعت أنا للبيت، هنا، وقلت: يا ربي، أنا مت ثلاث مرات، خذني وارحمني. لكن الله لم يرحمها.
كانت أم مصطفى في الخامسة والسبعين، ضامرة، عجفاء، ولم يبق لها في الدنيا غير الذكريات، وكان مسكنها غرفة مظلمة في بدروم، ولم يكن يؤنسها غير القط «جلجل» الذي كان يعيد إليها هذه الذكريات.
ولم يعد لها من سبيل إلى البقاء سوى تلك الكسرات من الخبز التي يتصدق بها عليها السكان المجاورون، وكانوا أحيانا يهملون، فتبيت على الطوى هي وجلجل، ولم يكن لها أسنان؛ ولذلك كانت تبل الكسرات بالماء، وتهرسها بأصابعها، ثم تبلعها بعد مضغ مزيف، وكانت تمضغ اللقمة بعد اللقمة، وتعطيها لجلجل؛ لأنها وجدت أنه لا يستمرئ الخبز المبلل فقط بالماء.
وكان جلجل يثير هواجسها وأشجانها، وكانت تخاطبه، وتتحدث إليه، وتناقشه، كما لو كان قريبا أو صديقا؛ فقد حرمت الأصدقاء والأقرباء، وكانت الغرفة تطبق عليها بظلامها وصمتها.
وكانت تستريح إلى الحديث معه؛ لأن شهوة البوح وبث النجوى كانا يخففان عنها؛ فكانت أحيانا تضحك وأحيانا تبكي، وفي كلتا الحالتين راحة، وكانت تقول: - إنت يا جلجل نسيت راجي؛ راجي ابن مصطفى، عيب عليك، والله عيب!
ومصطفى هذا كان ابنها، وكان يسمى مصطفى القهوجي، وكان له مقهى صغير يبيع فيه فنجان القهوة بربع قرش ، وكان ربحه الصافي من هذا المقهى لا يزيد على عشرة قروش في اليوم.
وكان هذا المبلغ يملأ المنزل بالخبز والفول المدمس والفجل والجرجير، وهذا إلى أيام كانت كالأعياد؛ حين كان يشتري سقط الخروف أو أكارع العجل، وعندئذ تفوح روائح الطبيخ الدسم في الغرفة، ويأتي مصطفى فيأكل مع زوجته فاطمة الفتة الساخنة مع بعض اللحم المريء.
وكانت أم مصطفى تزعم أنها لا تستطيع أن تمضغ اللحم، وكانت بالطبع تكذب، ولكنها كانت تفرح عندما كانت تعرف أن ابنها مصطفى قد أكل وشبع، وأن راجي، ابنه الصغير الذي لم يكمل السنتين، قد أكل أيضا وشبع قبل أن ينام.
كانت أياما هنيئة، تذكرها أم مصطفى بتفاصيلها الصغيرة، وكانت تذكر كيف أن القط جلجل خطف من راجي مزعة من اللحم.
وقد مضى كل ذلك، فمات مصطفى ابنها، وماتت زوجته فاطمة، بل حتى الطفل راجي قد مات، وهي الآن تعيش مع جلجل؛ كلاهما قد لزم هذه الغرفة، وكأنه يعرف أنه لن يبرحها إلا إلى القبر، من القبر وإلى القبر.
وكان القط بعد أن يأكل طعامه الذي مضغته له، وبعد أن يشرب، يرفع ظهره كأنه سنام، وينتفخ، ويتمسح بها، ويموء في لذة الشبع.
وكانت هي تضمه وتتحسس فروته وتقول: - إنت نسيت يا جلجل؟ كان راجي دائما يقول قبل النوم: هاتولي جج، جج ينام معي، أنام مع جج، كان يسميك جج.
ويموء القط حولها كأنه فهم ما قالته، وينام في حجرها، فتقول هي: - أنا مت ثلاث مرات يا جلجل، ثلاث مرات؛ المرة الأولى لما مات ابني مصطفى ...
وهنا تنفجر بالبكاء، ويتخضخض جسمها كله حتى يقع القط من حجرها، ويتراجع، وينظر إليها كأنه يستفهم: ماذا حدث؟
وترفع العجوز رأسها إلى سقف الغرفة وهي تقول: حرام، يا ربي حرام، أنا كان عندي غير مصطفى؟ حبلت به بعد سن الأربعين، وربيته، يا رب أخذته مني، أخذته مني ليه؟
ويعود القط إلى حجرها، وتنظر إليه وهي تقول في هدوء: - إنت فاكر مصطفى ابني يا جلجل؟ مصطفى أبو راجي، إنت فاكره؟ مصطفى حملك وأنت صغير، وجاء بك هنا من الشارع، وفرح بك راجي، ومصطفى كان يشتري لك كل يوم لبن بمليمين حتى كبرت.
ثم تقص على جلجل كيف أن مصطفى ابنها كان رجلا شهما لا يعرف الغش أو السرقة، وكان يعيش بعرق جبينه، وخرج ذات يوم كي يشتري البن والسكر للمقهى، ولكن سيارة داسته وهو عائد، ثم تقول: - إنت فاكر يا جلجل؟ لا، إنت فاكر، تقدر تنسى؟ لما أدخلوه هنا وهو محمول والدم على رجله؟ أنا وقعت على الأرض، وسمعت مصطفى وهو يقول: رشوا الماء على وجه أمي، سمعته يا جلجل، أنا يومها، أقول لك بالحق، أنا مت أول موته، وبعدها أخذوه للمستشفى وقطعوا رجله.
ويتمطى القط جلجل ويتثاءب.
ثم تقص عليه كيف جيء به؛ بابنها مصطفى، بعد ذلك بساق واحدة، وكيف أنها حمدت الله على أنه لا يزال حيا، ولو بعاهة، الحمد لله!
ثم تعود إلى النظر في وجه جلجل وتقول: - لكن ربنا كان يكرهني! والله يا جلجل أنا ما عملت شيء يسخط الله، لكن لله أحكام؛ لما رجع لنا مصطفى؛ أنا وفاطمة زوجته، فرحنا، فرحنا كتير، ولكن رجله ورمت، وانتفخت، وطلعت منها روائح، وجاء الدكتور وقال: لا بد من حمله الآن إلى المستشفى، سامع يا جلجل يروح المستشفى، وكان الدكتور واقفا يتأمل الغرفة وينظر إلى السقف والأرض، وبعدها قال لي: اسمعي يا ولية، اخرجي من هنا واسكني غرفة تدخلها الشمس، اخرجوا كلكم، هنا رطوبة وموت.
وضحكت أم مصطفى ضحكة مرة كلها علقم، وانقلبت الضحكة إلى بكاء وانتحاب، ثم هدأت ونظرت إلى جلجل وهي تقول: - اسمع يا جلجل، أخرج من هنا أنا وراجي وأمه ونسكن في بيت تدخله الشمس، كلام الدكتور.
ثم تقص عليه التفاصيل: كيف أن أجرة هذه الغرفة 15 قرشا فقط في الشهر، وكان ابنها يؤديها وهو قادر، فلما مات بعد أن قطعوا ساقه العليا في المستشفى صار الجيران يدفعونها إحسانا وتصدقا، ثم ترفع جلجل على ساقيه الخلفيتين وتقول: - إنت فاكر يا جلجل لما قالوا لنا إن مصطفى ابني مات؟ كان موته بموتي، قل الله يرحمني، أنا مت يوم ما قالوا مصطفى مات.
وهي تقص عليه في كلمات مخنوقة، وحلقها يغص بالبكاء، كيف أن الدنيا لم تعد بعد موته كما كانت قبلا؛ كانت تأكل اللقمة بالفجل فتجد لها طعما، أما بعد ذلك فلم يعد لشيء في الدنيا طعم، ثم تنظر إلى جلجل وتقول: - أنا أقول لك الحق، فاطمة زوجة مصطفى ماتت، تعرف ماتت ليه؟ من السل، ثم تقص عليه، وهي تترنح من عذاب الذكرى، وبدنها يميل ذات اليمين وذات الشمال، كيف أن فاطمة صارت تخدم في القهوة بعد موت زوجها، ولكنها بردت، ورسخ البرد في صدرها، فكانت طوال الليل تسعل، حتى كان راجي يستيقظ من سعالها ويقول: ماما ماما، ويبكي. - وأنا كنت أحمله طول الليل وأمشي به حتى ينعس وينام.
ويموء جلجل؛ لعله جائع، ولكن الذكريات تتزاحم على أم مصطفى، وتكاد تنفجر من صدرها، وهي تقص عليه كيف ماتت فاطمة؛ فإنها تركت المقهى وباعوا ما فيه من كراسي وفناجين واشتروا الأدوية لها. - هو الدواء فيه فائدة يا جلجل؟
ثم تذكر أن الطبيب جاء وقال: اخرجوا من هذه الغرفة، وإن الرطوبة ستقتلهم كلهم. ولكنهم فقراء، وانقطعت فاطمة عن الطعام، وخمدت كما لو كانت شمعة وانطفأت، ولم تعد تأكل، وقبل أن تموت بيوم وقف إلى جانبها راجي فقبلت يده، وعضتها، حتى صرخ الطفل، ولما سألتها أم مصطفى عن السبب، قالت: أحب أنه يموت معي، أخاف عليه بعدي، آخذه معي.
ولم تطق أم مصطفى هذه الكلمات، فبكت وهي تقول: - كان لها حق تخاف، كان لها حق تخاف.
ثم سكتت، وعاد جلجل إلى حجرها يموء كأنه يترضاها بعد بكاءها، وأسندت ظهرها إلى الحائط تستعيد أنفاسها، وبقيت صامتة بعض الوقت؛ لأن رأسها كان يدور من أثر البكاء، وتتابعت الصور في خيالها: زوجة ابنها تقيء الدم، ثم تطلب ابنها راجي فتضمه إلى صدرها، وهنا تذكرت أنها عندما وثقت بأن فاطمة في لحظاتها الأخيرة تسلم الروح أرادت أن تنزع راجي منها، ولكن أمه حضنته وشدت عليه بيدها، فلم تستطع نزعه، ونظرت إلى جلجل وقالت في هدوء: - أنا مت الموتة الثانية يا جلجل لما دفنا فاطمة ورجعت ولقيت راجي بلا أم، راجي يتيم، عمره أقل من ثلاث سنين بلا أم، وبلا أب، إنت فاهم يا جلجل؟ بلا أم وبلا أب! ولما رجعت قال لي راجي فين ماما؟ ماما فين يا جدة؟
وماء القط، ودار حولها، لا بد أنه كان جائعا، وزاد مواؤه وعلا، وهنا تنبهت العجوز، فنهضت وأحضرت كسرات من الخبز وبعض الماء وبللتها، ثم جعلت تمضغها وتطعم القط، وما زالت به تمضغ له وتناوله حتى شبع، أما هي فلم تأكل، وقعد القط أمامها ومسحت فروته وهي تقول: - إنت فيك روايح راجي يا جلجل، إنت كنت كل ليلة تنام معه.
ثم جعلت تقص عليه كيف أن راجي كان نور البيت، وكان مصطفى يحمله معه إلى المقهى، ويربطه بالكرسي، ويشتري له الحلوى، ومات مصطفى فكانت أمه تحمله إلى المقهى أيضا، وتشتري له الكعك والبسكويت، ولما كان يعطش كانت تضع قطعة من السكر في الماء وتسقيه، وبعد أن ماتت أمه لم يجد أحدا يحمله إلى الشارع حتى يشم الهواء؛ لأنها هي عجوز عشواء ومقعدة، فكان طوال النهار معها بالغرفة، وكانت تلوك له اللقمة وتمضغها ثم تضعها في فمه كما تفعل مع جلجل.
ثم في يوم ما جعل راجي يصرخ، ويسهل، وكان يضع يده على بطنه، وحمله أحد الجيران إلى الطبيب، فقال إنها دوسنطاريا، وأعطاه الدواء بالمجان. - وتعرف يا جلجل، لما الدكتور فحص عن راجي قال: الطفل جميل، وكان جميل والله يا جلجل، كان جميل؛ كان أبيض في بياض مصطفى ابني، وكان سواد عينيه من سواد عيني أمه، وكان يضحك ويتكلم، وإنت عارف؟ الدكتور حضر عندنا هنا في اليوم الثاني وقال: فين الولد؟
حضر وحده من غير ما نطلبه، ولم يطلب منا قرشا! تعرف ليه؟ هو أحب الولد، أحب راجي، ولما حضر قال: اخرجي يا ولية من الغرفة دي واسكني غرفة فيها شمس، لئلا يموت الولد، الولد يموت.
أخرج أروح فين يا جلجل؟ أروح فين؟ أنا معي قرش؟
وعاد جسمها يتشنج بالبكاء.
وكأن جلجل قد أحس بهذا الحزن الهائج في صدرها، فصاح هو الآخر: ماو، ماو؛ وكأنه يبكي معها.
وارتاحت أم مصطفى إلى بكاء جلجل، ونظرت إليه وقالت: - أنا عارفه، إنت كنت حبيبه، كنت تنام معه كل ليلة.
ثم قصت تفصيلات موته، موت راجي؛ فقد هزل من الإسهال، وهمد، حتى لم يكن يقدر على القعود في فراشه، وكان طول الوقت يقول: ماما، ماما، ثم كان أمر الله ومات. - لما دفناه يا جلجل رجعت أنا للبيت، هنا، وقلت: يا ربي، أنا مت ثلاث مرات، خذني وارحمني!
لكن الله لم يرحمها، فبقيت حية تذكر مصطفى ابنها، ثم فاطمة زوجته، ثم راجي؛ الطفل الحلو الذي كان يمكن أن يكبر ويشتد ويدفنها هو.
ثم مدت يدها إلى كومة من الملابس، فأخرجت قميص ابنها مصطفى فتشممته، وقبلته، ومسحت به دموعها، ووضعته في حجرها، ثم مدت يدها وأخرجت منديل الرأس الذي كانت تلبسه فاطمة، فجعلت تقبله، وتلحس قماشه، وتمضغه، كما لو كانت لقمة تؤكل، ثم نبشت الملابس وأخرجت قميصا صغيرا لا يكاد يملأ يدها، هو قميص راجي، فوضعته على صدرها وضمت يدها عليه وهي تقول: - مصطفى، فاطمة، راجي، يا ربي، أنا مت ثلاث مرات، خذني وارحمني!
كانت أم مصطفى والقط جلجل «عائلة»، كلاهما ينظر إلى الآخر في عطف وحنان وذكريات، وكان بينهما، من وقت لآخر، أحاديث وبكاء ومواء، ولقمة مبللة وجرعة من الماء.
وكان الجيران يسمعون الأحاديث بينهما فيتحسر بعضهم ويتنهد، ويقول بعض آخر إن العجوز تخرف، وكان الصبيان يقفون عند الكوة الصغيرة التي تتصل منها أضواء النهار إلى غرفتها ويستمعون إليها وهي تهذي أو تتحدث إلى جلجل، فيضحكون ويسخرون.
ومضت الأيام والموت يدب في جسم أم مصطفى، فيثقل ساقيها، ثم يغشي عينيها بالعمى، ثم يفكك خلايا مخها، حتى صارت تخلط أحلام النوم بأفكار اليقظة ولا تميز بينهما.
ولم يعد الجيران يسمعون إلا الهمسات من القبر الذي كانت تعيش فيه أم مصطفى، ثم انقطع الهمس وماتت، وبقي القط جلجل، وكان يموء في الليل أكثر، كأنه كان يبكي، ثم مات جلجل، وانقرضت عائلة كانت تعيش في بدروم في مدينة القاهرة.
الفصل الحادي عشر
تجربة علمية
يرى النور ولا يحس النار، ويجد المعنى ولا يجد الجسم، وينظر إلى اللؤلؤ في الأعماق البعيدة، ولكنه لا يمس الماء القريب منه!
كان نجيب طالبا في معهد الفنون الجميلة، وكان يدرس الجسم البشري دراسة الفنان الذي يحاول أن ينقل إلى المتفرج ملامح النفس إلى جنب ملامح الجسم، بل هو لم يكن يبالي بملامح الجسم كثيرا؛ فقد كنت أتأمل بعض رسومه فأجد المعنى المستتر أكثر مما أجد الصورة الواضحة، وأحس بالدلالة أكثر مما أحس بالتقاطيع، وأذكر أني نظرت إلى إحدى صوره فسرت في ظهري قشعريرة وقلت له: كأن هذا الرجل يحس ارتعاشا في نفسه.
فقال: هذا هو ما قصدت؛ إني أرسم النفس لا الجسم.
وكنت أراه يرافق إحدى الطالبات، فقلت له: يا نجيب، احذر فتنة الجمال وأنت في هذه السن؛ لأنك في الأغلب تشتهي أكثر مما تحب، وشبابك يحملك على الإعجاب بكل فتاة، ولكن بعد سنين سوف تجد أن الحب يبعث في نفسك ضروبا أخرى من الإعجاب لن تجدها فيمن تعجب بهن في الوقت الحاضر.
فقال: إن إعجابي بزميلتي، هناء، فني؛ فقد أحلت حبي لها إلى فن، بل إني أحاول أن أجعل حبي لها حبا خالدا لا ينطفئ، بقوة الامتناع؛ أنظر على بعد وأتحدث على بعد، وقد وجدت أن اشتغالي برسمها يساعدني على هذا الموقف منها، ثم لا تنس أنها هي أيضا تشتغل برسمي.
وفهمت من نجيب أنه يحب هناء حبا جنونيا، ولكنه يعتقد أن الحب يفسد وينتهي ويموت إذا أطفئ؛ ولذلك يمكن بالامتناع والبعد أن يعيش هذا الحب، ثم وجد كلاهما أنه عندما يرسم أحدهما الآخر يتجه بكليته إلى استكناه الشخصية التي تستتر خلف الجسم، وينظر من خلال العين إلى ما وراءها، ويحاول أن يفسر المعنى الأزلي في انفراج الشفتين، وأن ينقل إلى المتفرج الدلالة في تطلع الرأس أو انسجام العنق.
وسمعته مرة يقول لهناء وهي ترسمه: «عبرة الرسم وميزته على التصوير الفتوغرافي أن تستخرجي من شخصيتي وأن تبيني ميزات الرجولة التي أمتاز بها؛ فإن الرجال في الظاهر سواء في الرجولة، ولكننا عندما نخترق حجابهم ونتعمق ملامحهم نجد التباين العظيم بينهم: هذا شجاع، وهذا جبان، وهذا حذر متبصر، وهذا طائش أرعن، وهلم جرا. وأنا حين أرسمك لا أبالي أن أنقل نقلا صحيحا عينيك أو أنفك أو صدرك؛ لأن القمرة الفتوغرافية تفعل ذلك، وإنما أنا ألتفت إلى معنى التبصر في عينيك، وإلى معنى الأمومة في ثدييك، وهذا ما يجب أن تفعليه معي أنا؛ ارسمي قلبي وعقلي، ارسمي نفسي».
واستقر نجيب وهناء على هذا الموقف؛ كلاهما ينظر النظرة الفنية إلى الآخر، وفي الوقت نفسه ينأى ويعلو على ما اعتاد الناس من الحب؛ وذلك كي يبقى حبهما حيا مشتعلا لا ينطفئ أبدا.
وبقيا على هذا سنتين، ولم يتم أحدهما رسم الآخر، وكانا يجتمعان كل يوم نحو ساعتين، يترجم كل منهما شخصية الآخر على اللوحة بالريشة والألوان، وهذا مع ما التزمه كل منهما تجاه الآخر من النأي والعلو والاحتجاز.
وقلت: يا نجيب، هذا خطأ، هذا لا يدوم، إنك أزريت بالطبيعة، ورفست الحب بقدمك!
فقال نجيب: ولكنه حب دائم، وبعد سنة أكون أنا وهناء قد تخرجنا، وعندئذ نتغير ونتزوج.
فقلت: ولكن هل من الممكن أن تتغيرا؟
فقال: وهل في هذا شك؟
وكنت لحبي لنجيب أحب أن أصدق ما يقوله، فلما انتهت السنة وهنأته بالنجاح هو وهناء، قلت له: الآن كل شيء قد سار على ما تحبانه، وقد أتممتما الرسمين، فهلم إلى الزواج.
وأمن كلاهما على كلامي، وشرعا بعد أيام يتهيئان للزواج، ولكن بعد نحو شهر جاءني نجيب وهو يقول: أنا منكوب، أنا عاجز عن الزواج، بل إن هناء أيضا تقول إن زواجنا لن يجدي.
ولطمت وجهي عندما سمعت هذ الكلمات، فإن ما خشيته قد وقع؛ ذلك أنهما قد أفسدا حبهما، وأبدلا مجراه الطبيعي مجرى آخر، هو المجرى الفني؛ فقد أمضيا نحو ثلاث سنوات يقعد كل منهما أمام الآخر كل يوم، ولكن ليس كما يقعد الشاب أمام الفتاة، وإنما كما يقعد الفنان أمام الصورة أو الرسم؛ ينتقدها ويتعمق معانيها، يرى النور ولا يحس النار، ويجد المعنى ولا يجد الجسم، وينظر إلى اللؤلؤ في الأعماق البعيدة، ولكنه لا يمس الماء القريب منه! أجل، لقد كفر كلاهما بالحب وزيفاه بالفن، وتعودا ذلك! لا، لم يعد نجيب يحب هناء، وإنما صار يحب الرسم الذي كان يرسمه لها فقط، وهذا كان شأنها أيضا معه.
وقلت له: وماذا بقي من الحب؟
فقال: نحن صديقان.
فقلت: لقد قمتما بتجربة علمية، ولكن الثمن الذي أديتماه فاحش؛ فقدتما السعادة وكسبتما التجربة.
الفصل الثاني عشر
والدي العزيز
وكان الدور الذي عزفته لنا من تأليف شوبان البولوني، ولم يدخل مخي، ولكن شادية قالت لي إني لم أتعود الأدوار الأوربية، وعندما أتعودها سأتذوقها.
الإسكندرية في أول نوفمبر
والدي العزيز
أرجو أن تكون ووالدتي العزيزة وإخوتي في خير وعافية.
لم أجد أية صعوبة في الالتحاق بكلية الطب، وقد تعرفت إلى بعض الطلبة والطالبات، وبعضهم يتكرم علي ويرافقني آخر النهار، فنجوب الشوارع ونتمتع برؤية البحر.
وفي فرقتنا نحو خمسين طالبا، منهم سبع من الطالبات، وجميعهن من الإسكندرية، وهن يجدن المجاملة الرقيقة من الطلبة، وقد تعرفت إلى واحدة منهن تدعى شادية، وهي ليست جميلة ولكنها ظريفة؛ لأنها عندما تضحك تبرز لها سن تحاول أحيانا أن تخفيها بيدها كأنها تخجل منها، مع أني أعتقد أن هذه السن هي التي تجعلها ظريفة خفيفة الروح.
أرجوك يا بابا أن ترسل إلي عشرة جنيهات زيادة على ما كنت طلبت لشراء الكتب والأدوات.
سامي
الإسكندرية في 25 نوفمبر
والدي العزيز
أشكرك كثيرا على إرسال المبلغ، وأرجو أن تكون ماما قد شفيت من الرشح، وهي تصاب بالرشح في أول الشتاء من كل عام، تسليماتي الكثيرة إليها.
استغربت كثيرا عندما قرأت خطابك ووجدتك تحذرني من الزواج، وزاد استغرابي أنك ظننت أني أحب شادية، مع أني قلت لك في خطابي السابق إنها ليست جميلة وإنما هي ظريفة فقط!
وأنا بالطبع لا أفكر في الزواج بتاتا، وكيف أتزوج وأنا طالب؟ وحتى إذا رغبت في الزواج فإن هذا لن يكون إلا بعد موافقتك أنت وماما وبعد البحث عن مركز العائلة التي أتزوج منها.
أرجو أن تطمئن من هذه الناحية.
سامي
الإسكندرية في 22 ديسمبر
والدي العزيز
اتفقنا؛ خمسة من الطلبة وثلاث من الطالبات، وخرجنا أمس في نزهة إلى المكس، وهناك قضينا أربع ساعات ونحن نلعب ونتنزه، وكان الطلبة في غاية الخشونة مع الطالبات، وكانت شادية معنا، وعندما رأت أن المزاح يخرج عن حده تجنبت الطلبة وأبدت امتعاضها، والحق أن هذه الفتاة تمتاز بحياء لم أعرفه في جميع من عرفت من الطالبات هنا.
وعندما عدنا إلى الإسكندرية كانت الساعة الثامنة مساء، وكنا في أشد الجوع، وتناولنا أنا وهي بعض السندويتش في محطة الرمل.
وبينما أنا أودعها إذا بوالدها يقابلنا، وقد قدمتني إليه شادية؛ وهو رجل مسن يقارب السبعين، وقد رأيت أن فمه يحوي السن البارزة التي تمتاز بها ابنته، ولم أتمالك أن ضحكت عندما رأيت سنه تبرز وهو يضحك كما تفعل ابنته بالضبط.
وقد دعاني للزيارة، ولكني اعتذرت.
سلامي إلى والدتي وإخوتي
سامي
الإسكندرية في 5 يناير
والدي العزيز
قرأت خطابك، وثق أني مجتهد، وأن دروسي ليست صعبة، وأنا كنت أحيانا أذاكر مع بعض الطلبة، ولكنهم كانوا يهرجون كثيرا؛ ولذلك آثرت المذاكرة وحدي.
ويوم الأحد الماضي دعتني شادية إلى أن أذاكر معها؛ لأنها لم تفهم شيئا في كتاب الكيمياء، وقد ذهبت إلى بيتها وتغديت معها، وكان معنا والدها.
ووالدتها تصغر زوجها بنحو عشرين سنة، وهي سيدة رشيقة متمدنة، والحق أن البيت كله متمدن، وجميع أثاثه أوربي الزي، وكان الغداء خفيفا.
وبعد الغداء عزفت شادية على البيان، ولم أكن أعرف أنها تعزف، وكان الدور الذي عزفته لنا من تأليف شوبان البولوني، ولم يدخل مخي، ولكن شادية قالت لي إني لم أتعود الأدوار الأوربية، وعندما أتعودها سأتذوقها.
وبعد الغداء خرجت أنا وهي وسرنا معا على الكورنيش، وكان حديثنا عن المحاضرات والسياسة.
وعدنا إلى بيتها وذاكرنا المحاضرات معا، وشرحت لها الصعوبة التي كانت تشكو منها في الكيمياء.
سلامي إليكم جميعا.
سامي
الإسكندرية في 25 فبراير
والدي العزيز
استغربت عودتك إلى تحذيري من الزواج، مع أني قلت إني لا أفكر في هذا الموضوع بتاتا، وعلاقتي بشادية هي علاقة الزمالة فقط.
كانت الإسكندرية هذه الثلاثين أو الأربعين يوما الماضية فريسة للبرد والمطر والعواصف، وقد أنفقت كل ما كان لدي من النقود في شراء بعض الملابس؛ حذاءين وجوارب وكرافتات ومناديل؛ لأني رأيت أن أعنى بهندامي، فأرجوك أن تسعفني بعشرة جنيهات، وأتعهد بأني لن أطلب زيادة في الشهر القادم.
سامي
الإسكندرية في 17 مارس
والدي العزيز
أنا أنتظر مجيئك للإسكندرية بنافذ الصبر؛ وذلك كي تزور عائلة شادية؛ فإني أحب أن يكون بيتنا متمدنا مثل بيتها، مفروشا بالأثاث العصري. ووالله يا أبي، إني لم أعرف امرأة في مثل الأدب الذي تتسم به والدة شادية، وهي تعاملني كما لو كنت ابنها، وتقول لي: إنت أخو شادية.
وقد علمتني شادية العزف على البيان، ومع أني لا أقرأ النوتة كما تقرؤها هي فإني حفظت دور شوبان عن ظهر قلب وأتقنته، حتى إن شادية نفسها تقول إني أعزف هذا الدور بأحسن مما تعزفه هي.
ونحن نجد في المذاكرة هذه الأيام، ونبقى إلى منتصف الليل ونحن نذاكر بينما تكون أمها ووالدها قد ناما.
وقد قالت لي شادية إنها حين تتخرج ستفتح عيادة حرة في الإسكندرية، وإنها لن تتوظف.
والغريب في شادية أنها ساذجة لا تتخذ من الملابس سوى البسيط الذي لا يلفت النظر، حتى الحذاء لا يرتفع على كعب عال، وهي تقص شعرها ولا تضع شيئا من المواد المجملة على وجهها، وشعرها يشبه شعر أمي كثيرا، وأعني أنه ليس ناعما كل النعومة، وقد اعترفت هي بأن شعري أنعم من شعرها.
سلامي إليكم جميعا.
سامي
الإسكندرية في 31 مارس
والدي العزيز
قرأت خطابك، وقرأت تحذيرك لي للمرة المئة بألا أتزوج إلا بعد أن أتخرج.
وأنا أعاني أوجاعا وآلاما هذه الأيام لا أكاد أطيقها؛ فإن الأرق يستولي علي، وأحيانا أبكي بلا سبب، وقد ساءت معدتي، وأحيانا أنسى أن أتغدى، وبدلا من المذاكرة، أو بعد المذاكرة، أخرج إلى الكورنيش وأسير عليه ساعات وأنا لا أدري ما أفعل، وقد قصدت إلى أحد الأطباء فقال لي إن في معدتي حموضة، وكتب لي عن الدواء، وأنا أرجو أن أشفى قريبا.
سامي
الإسكندرية في 12 أبريل
والدي العزيز
أرجو أن تسامحني، لم أطق الصبر.
تزوجت شادية، وأنا أقيم في بيت والديها، ونذهب كل يوم معا إلى الكلية، وستحتاط هي حتى لا تحمل، وسنبقى بلا أولاد إلى أن نتخرج.
أبي، سامحني، سامحني، سامحني.
سامي
الفصل الثالث عشر
لكن الله يرحمه
ولكن - بالطبع - هذه الذكريات القديمة كانت تأتي في آخر المناقرة، وعندما تحس أن الموضوع الحاضر قد استنفذ كل ما يتحمل من ألوان البيان اللغوي.
كانت للسيدة أنيسة فنون لغوية في المناقرة، وكانت تناقر زوجها في كل وقت؛ في الصباح عندما يتناول القهوة، وعقب الغداء حينما يحب أن يرتاح في سريره، وفي المساء أيضا قبل النوم؛ حتى يحلم برقتها ولطفها، ولكنها كانت تختار وقت القيلولة عندما يكون موضوع المناقرة خطيرا.
وكان زوجها السيد راجي رجلا في الخمسين، موظفا في وزارة الأشغال، حيث كان يؤدي عملا كتابيا تافها، وقد التحق بهذا العمل حين كان عمره ثلاثا وعشرين سنة، وبعد سبع وعشرين سنة لم يزد مرتبه غير أربعة جنيهات، ولم يزد فهمه لعمله، أو لم يتفرع هذا الفهم إلى شئون أخرى تزيد اهتمامه؛ إذ كان عملا متكررا لا يخرج عن ثلاثة دفاتر كبيرة، يملؤها كل يوم، في أعمدة معينة بكل ورقة منها، عما يصل إليه من مراسلات؛ ولذلك، مع أنه كان ساخطا على ضآلة مرتبه، فإنه لم يكن ليجد المبرر لزيادته، بل إنه كان يتساءل أحيانا: لماذا زادوه أربعة جنيهات مع أن عمله لم يزد؟
وكان أسوأ ما يسخطه، من حيث لا يدري، أنه كان في تعس ذهني؛ إذ لم تكن له هواية تسري عنه مضض العيش؛ فلم يكن مغرما بقراءة الصحف أو المجلات، ولم يكن مهتما بشئون السياسة، وكان انطوائيا لا يحسن الصداقة ولا يتآلف الأصدقاء، فكان من بيته إلى مكتبه، ومن مكتبه إلى بيته، أو بالأحرى من زوجته إلى مكتبه، ومن مكتبه إلى زوجته!
وكان الجيران والزملاء في المكتب يظنون أنه رجل مستقيم، ولكنه هو كان يعرف نفسه أكثر؛ وهو أنه كان يكابد الحياة مكابدة بلا مسرات، وبلا استطلاعات، وبلا مغامرات.
وكانت زوجته مثله، بل أكثر في مكابدة الحياة؛ لأن السأم كان يخيم على نفسها كما لو كانت غيمة، وكانت تتأمل أحوال الناس فترى الأزواج يرتقون في الوظائف، أو يزدادون ثراء إلا زوجها، هذا الزوج الراكد الذي لا يعرف غير الأكل والنوم.
وكانت السيدة أنيسة تحس احتقارا لزوجها، ولكنها لم تكن تعرف علاجا يجعله ينتقل من الركود إلى الحركة والارتقاء؛ ولذلك كان هذا الاحتقار يتجسم أحيانا في سباب جنوني، حتى لقد كانت تصفه بأنه بقة يمص دمها، وأنه نحلة تلسع جلدها، وكان المسكين ينظر إليها وهو صامت؛ اعتقادا بأن صمته يخفف من توترها.
وكان الموضوع الذي يتكرر في المناقرة أن ابن عمها كان يريد أن يتزوجها، ولكنه هو جاء لنحسها، وآثرته أمها عليه فتزوجها، مع أن ابن عمها الآن يبلغ مرتبه ضعف مرتب زوجها.
وكذلك لم تكن تنسى أن أمه؛ أم زوجها، التي ماتت قبل خمس سنوات، كانت تعاكسها، وكان كل الناس يقولون له انفصل أنت وزوجتك عنها، ولكنه لم ينفصل.
لقد عاشت مع أمه أكثر من عشرين سنة وهي في عذاب، ولم يرحمها هو، ولم ينفصل.
ولكن - بالطبع - هذه الذكريات القديمة كانت تأتي في آخر المناقرة، عندما تحس أن الموضوع الحاضر قد استنفد كل ما يتحمل من ألوان البيان اللغوي!
وكان الموضوع الحاضر أن أخته قد زارتهم، وأنها؛ أي السيدة أنيسة، كانت قد طلبت من زوجها ألا يزورها، وأنه لو كان قد استمع لكلامها لما زارتهم، وها هي قد جاءت أمس فجعلت تنتقد كل شيء، فقالت: إن زجاج النوافذ يحتاج إلى تنظيف وجلاء! بل دخلت المطبخ وسألت عما فيه، ولم تنس أن تقول: إن البصل قد فسد من الرطوبة، وأنه يجب أن يوضع في الشمس! ما شأنها هي؟ ولماذا تأتي إلى بيتنا؟ وهل ذهبت هي إلى بيتها ودخلت مطبخها؟!
هل ماتت أمه وجاءت أخته كي تكون حماتها بدلا منها؟!
وكان السيد راجي معتادا على هذه المناقرات، وكان يخفف من حدة زوجته بالنكتة أو الكلمة الرقيقة، ولكنه في هذا اليوم جاء متعبا من مكتبه، فتناول غداءه وهو صامت، وآوى إلى سريره يريد الراحة.
وما هو أن انتهت السيدة أنيسة من تناول غدائها حتى هرعت إليه، وقعدت على كرسي إزاء السرير، وشرعت تعيد عليه بضعة ألحان قديمة بمناسبة بضع حوادث حديثة؛ لأن الشيء بالشيء يذكر.
فقد حدث صباح اليوم أنها عرفت أن خادمتهم السابقة، التي تركتهم منذ سبعة شهور، تخدم هذه الأيام في بيت شقيقه، وأنها؛ أي السيدة أنيسة، كانت قبل ثلاث سنوات قد طلبت استخدام «أمينة» التي كانت قد خرجت من بيت ابن عمه، ولكنه؛ أي زوجها، استنكف وقال لها: لا يجوز لنا هذا؛ لأن زوجة ابن عمي ربما تعتب علينا.
والآن ماذا يقول؟ ها هي خادمتهم القديمة تخدم الآن في بيت شقيقه، لماذا لم يستنكفوا هم؟!
إن معيشتها معه عناء وعذاب، ولو أنه كان يحبها لكان يسمع كلامها، ولكنه لا يحبها.
وكان زوجها مستلقيا على السرير لا يتكلم، وزاد هذا من غضبها، فأعادت كلامها وارتفع صوتها، وكانت معتادة أن تجد الكلمة اللطيفة التي تخفف من حدتها، ولكن زوجها هذه المرة لم يرد، بل بقي صامتا.
وصاحت به، بعد أن تعبت: لماذا لا يرد؟ لماذا لا يقول الحق؟ ولماذا تعيش معه في هذا الذل؟
ولكنه لم يرد.
ونهضت السيدة أنيسة وهي حانقة مجنونة، وهزته وهي تقول: رد! رد علي.
ولكنها أحست فيه جمودا غريبا، حتى صار جسمه كله يتأرجح يمنة ويسرة وهي تهزه، ففزعت وتراجعت للوراء، ونادت الخادمة، وجعلت الاثنتان تهزان السيد راجي، ولكن بلا جدوى؛ لقد مات. •••
وبعد خمس سنوات كانت بالبيت زائرة، وجرى الحديث عن السيد راجي، فقالت أرملته السيدة أنيسة. «كان دائما يعاكسني ويناقرني، حتى ساعة موته، قعدت ألاطفه وأسليه بالحديث ، فلم يرد علي، ولكن الله يرحمه»!
الفصل الرابع عشر
العمارة ليست ملكه
عمارة لم تكن لتزيده أمانا في الدنيا، أو صحة في الجسم، أو حكمة في العقل، أو رفاهية في العيش.
كنت قاعدا على قهوة جميلة في الجيزة، وكان الحر لا يطاق، وراقني منظر الكوب الممتلئ بالماء المثلج والذي تكاثفت رطوبة الجو على سطحه الخارجي بما يشبه الضباب، وأحسست ارتياحا إلى هذا المنظر، فجعلت أتمزز الماء من غير عطش، وأنا ألتذ برودته، وأحس كأن حر الجو قد خف.
وشربت القهوة في أناة وتبلد واسترخاء، وجعلت أتأمل نضرة الأعشاب وجمال الصبيان الذين يلعبون حول الموائد، وبينا أنا كذلك إذا بثلاثة قد دخلوا وقعدوا إلى مائدة جواري، وكان أحدهم شيخا سمينا معمما يكاد الدم يثب من وجهه، وكان معه اثنان من الأفندية، وقد اتضح لي من حديثهم أنه مقاول ثري يملك عدة عمارات في القاهرة، وأن هذين الاثنين من مستخدميه، وكان صوته يعلو في غضب، ويده تدق المائدة وهو يجادل هذين العاملين اللذين يبدو أنهما قد أهملا بعض شئونه بحيث قد أدى هذا الإهمال إلى احتمال ضياع إحدى العمارات، وقال: - لو أنكم كنتم قد احترستم في كتابة العقد بيني وبين الشيخ مصطفى لما كنا وقعنا في هذه القضية التي ربما نخسرها اليوم، أعوذ بالله يا ربي! خسارة 15 ألف جنيه، من يطيق هذا؟ وأنتم السبب؛ لو كنتم احترستم في كتابة العقد.
وكان الأفنديان العاملان عنده يخففان عنه، وقال أحدهما وهو يتضاحك: - والله يا شيخ محمد الدنيا بخير، إنت عندك خمس عمارات غيرها، إيراد كل واحدة منها فوق المئة من الجنيهات كل شهر، أكبر من مرتبات ثلاثة وزراء، افرح يا شيخ واتهنا.
ولكن الشيخ محمد بدلا من أن يفرح حمي وغضب، ورأيت يده وهي ترتعش وتضرب المائدة من جديد بعنف، وهو يقول: - أنا أئتمنه وهو يخونني؟! الشيخ مصطفى كان عاملا عندي قبل عشرين سنة، وكان يشكر الله على أني كنت أعطيه ثلاثة جنيهات في الشهر، ثم جعلته شريكا لي بقيمة العشر، ثم الخمس، ثم النصف في المكسب، حتى اغتنى وأصبح مقاولا مثلي! أنا انتشلته من الفقر إلى الغنى، أنا جعلته من الأعيان، أنا يخونني ويكتب العقد كي يخطف العمارة مني؟ هل هذا شرف؟ هل هذا عدل؟!
وهنا قال له أحد الأفنديين: - إنت عندك خمس عمارات، تبكي على السادسة ليه؟ حتى لو خسرتها اليوم إنت غني عنها!
وهنا زاد غضب الشيخ محمد، فرفس بقدميه، وضرب المائدة، وقال: - أخسر القضية ليه، أخسرها ليه؟ أنا صاحبها، والله لو خسرتها هذا اليوم ليكون بيني وبين الشيخ مصطفى دم، دم، دم.
وعاد الأفندي الآخر يهدئ من روع الشيخ محمد ويخفف عنه، ولكن الشيخ محمد كان ينتفض على كرسيه، ويده ترتعش، وقدماه تحفران الأرض، ويكاد الدم المحتقن يمزق وجهه ويطفر منه.
وفهمت أن القضية معروضة هذا اليوم أمام المحكمة في القاهرة، وأنهم ينتظرون تليفونا عن الحكم.
ولم يمض قليل حتى جاء الجرسون وهو يقول: الشيخ محمد بك، تليفون.
ونهض أحد الأفنديين، وغاب لحظة عاد بعدها وهو ساهم منكس الرأس، وهو يقول: - خسرنا القضية، وحكم لمصلحة الشيخ مصطفى.
وهنا رأيت منظرا ملأني كراهة ورحمة معا؛ فإن وجه الشيخ محمد احتقن، وغشيته زرقة، وجعل ينتفخ، ثم رفس ووقع على الأرض كأنه حيوان مذبوح، وانتفضت أنا وأنا أصرخ: ماء بارد، ماء بارد!
وجعلنا نصب الماء على وجهه، وفككنا أزراره، وأغرقناه بالماء البارد، وتركنا أحد الأفنديين إلى المدينة يبحث عن طبيب، وصرنا نهز الشيخ محمد، ونقعده، ثم نلقيه على ظهره، ثم نفعل العكس، ولكن بلا أية فائدة، فإن المسكين كان قد مات بالنقطة أو بالسكتة، لا ندري.
وجاء الطبيب، فصدق على موته، وحمل المسكين جثة جامدة، وعدت أنا إلى مائدتي، وجعلت أنظر إلى المائدة التي كان عليها هؤلاء الثلاثة، وأتأمل هذا الشيخ محمد، السمين، الدموي، الذي يملك خمس عمارات، قد باع حياته كلها من أجل عمارة لم تكن لتزيده أمانا في الدنيا، أو صحة في الجسم، أو حكمة في العقل، أو رفاهية في العيش.
وكان جسمي لا يزال ينتفض، وحاولت أن أشرب قليلا من الماء، ولكن يدي ارتعشت، فتركت الكوب وأنا أقول: - حرام عليك يا شيخ محمد، أيتمت أطفالك بطمعك وسوء عقلك، رحمة الله عليك! هذه الدنيا، هذه الدنيا!
الفصل الخامس عشر
إلى المعاش
أربعون سنة من عمره وهو قاعد إلى مكتبه يؤدي الأعمال التكرارية الكتابية كل يوم، وكانت ساقاه قد عرفت الروماتزم، وكان قلبه قد تضخم بالشحم، وكان فمه خلوا من سن طبيعية.
كان حسن أفندي موظفا بمكتب البريد في كفر الزيات، وكان قد قارب سن المعاش؛ فهو يتوق إلى اليوم الذي يجد نفسه فيه حرا لا يرتبط بمواعيد الصباح وبعد الظهر بالمكتب؛ وذلك حين يحال على المعاش.
وكان يتردد على المكتب صعلوك من أولئك الصعاليك الشعراء الذين يجولون في شوارع المدن، ويتسكعون على أبواب المكاتب والمتاجر، ولم يكن يملك قرشا واحدا، ولكنه كان يعرف جميع الذين يملكون القروش في كفر الزيات؛ يزورهم ويأكل على موائدهم و«يقترض» بعض نقودهم، ولم يكن أحد من هؤلاء المتيسرين يكره لقاءه؛ لأنه كان على الدوام يحمل من الأخبار، ويروي من النكات، عن أعيان البلدة ما يجعله محببا إلى القلوب.
وكان هذا الصعلوك، الذي كان يسميه جمهور عارفيه «غراب»، يتردد أيضا على حسن أفندي، وكان يفرض عليه الضريبة التي يفرض مثلها على من يعرفهم في كفر الزيات، وكان عقب انتهاء العمل في مكتب البريد، حين يخرج حسين أفندي إلى القهوة، يوافيه هناك ويقعد إليه يتحدث معه عن السياسة والقيل والقال.
وكان غراب شاعرا وفيلسوفا معا؛ فقد انتهى إلى أنه يستطيع أن يستغل مواهبه في الحديث، ومعارفه عن العيش، كي يعيش هو، ونجح في ذلك؛ فإن وجباته كانت مكفولة، كما كانت ملابسه محفوظة له عند جميع الذين يشترونها، فما هو أن يمر عليها عام أو عامان حتى يكون هو قد «استعارها» منهم، ولكن العارية عنده لا تعود إلى صاحبها!
ولم تكن غزواته مقصورة على كفر الزيات؛ فإنه كان أحيانا يسأم المقام فيها ويخرج منها إلى زيارة «أصدقائه» في دمنهور، وكفر الدوار، وطنطا، وشربين، وغيرها، وكان أحيانا يسير إلى هذه المدن على قدميه بين الحقول، وأحيانا يركب القطار.
وكان يصف نفسه بأنه «شاعر»؛ لأنه كان من ناحية يروي أبياتا رائعة لحافظ وشوقي، ومن ناحية أخرى كان يؤلف أبياتا من الشعر موزونة، أو كالموزونة، بحيث يحوي البيت أحماضا تلسع وتكوي إحدى الشخصيات التي تكون قد بخلت عليه.
ولم يكن يفوته عدد من الجرائد أو المجلات التي تستحق القراءة؛ فإنه كان يستعيرها ويعنى بردها، على خلاف عاداته في الاستعارة.
وأصبح غراب شخصية مغبوطة عند البعض، ومحتقرة عند البعض، أو كان أصدقاؤه يحتقرونه، ولكنهم كانوا يكنون له حسدا؛ لأنه يعيش ويستمتع بالدنيا بلا كد وبلا مواعيد وبلا مسئوليات وبلا هموم. •••
وأتم حسين أفندي الستين، وأحيل على المعاش، وودع زملاءه في المكتب وخرج، وتلقاه غراب وهنأه، ودعا له بطول العمر، وقصد الاثنان إلى القهوة حيث قعدا أكثر من ساعتين، وكان حسين أفندي فرحا بهذه الحياة الجديدة، وكان يمني نفسه أيام العمل بالمكتب بأنه سيحيا عقب الإحالة على المعاش كما يحيا غراب، بل إنه سوف يستمتع بشيخوخته أكثر من غراب؛ لأنه لن يحتاج إلى أن يذل ويستجدي الطعام والشراب كما يفعل غراب.
ولكنه كان يقارن بينه وبين غراب، مع فارق كان يجهله؛ ذلك أن غراب، الذي كان قد تجاوز الستين، كان لا يزال شابا في صحة الجسم وتنبه العقل؛ فإن حياة الصعلكة والتجوال التي عاشها كانت بمثابة الرياضة البدنية والذهنية التي تديم الشباب، أما هو فقد قضى أربعين سنة من عمره وهو قاعد إلى مكتبه يؤدي الأعمال التكرارية الكتابية كل يوم، وكانت ساقاه قد عرفت الروماتزم، وكان قلبه قد تضخم بالشحم، وكان فمه خلوا من سن طبيعية!
وكان حسين أفندي أيضا يعجز العجز كله عن أن يؤدي أي عمل يشغل به حياته بعد المعاش؛ فلم يكن أمامه غير الترداد على القهوة طيلة النهار وبعض الليل، يتأمل المارة، أو يلعب ألعاب الحظ السخيفة.
ومع أنه كان فرحا ببلوغه سن التقاعد، فإنه لم يمض عليه ثلاثة شهور حتى كان قد سئم هذا الركود، فكان يستيقظ في الصباح، ويقعد على سريره، وينظر ساهما إلى جدار الغرفة ويقول: هل هذه حياة؟ إلى أين أخرج؟ إلى القهوة؟ وماذا أفعل؟ كما فعلت أمس وكما سوف أفعل في الغد؟ في كل يوم؟ أتأمل المارة ولعب الطاولة؟ وهل أبقى على هذه الحال إلى أن أموت؟ عشر سنوات؟ عشرين سنة؟ هذا هو البؤس!
وجعل يتأمل حال غراب؛ إن غراب نشيط، نحيف، طروب، يتنقل من قهوة إلى قهوة، ويؤانس الناس ويضاحكهم، وهم يقدمون له الطعام والشراب راضين، بل هو ينتقل من بلدة إلى أخرى ضيفا على كل من يلاقيه، والجميع يحبونه ويستخفون ظله، أما هو فإنه مقيد بالروماتزم لا يستطيع أن يمشي مئة متر حتى يكون قد لهث وعرق.
إنه بلا شك أصغر سنا من غراب، إذا كان العمر يقاس بالسنين، ولكن غراب يستمتع بالشباب كما لو كان في سن العشرين.
ثم يعود إلى نفسه وهو في حسرة الأسف ويقول: لماذا لم أتعلم فنا أو تجارة أمارسها وأشغل بها وقتي؟ لماذا لم أتعود الرياضة حتى أستعد لهذه الشيخوخة؟ أنا لست في المعاش، أنا في المرض!
وخرج ذات صباح مبكر وقصد إلى القهوة التي لم يكن الخادم قد هيأ كراسيها بعد، فانتحى إلى كرسي متطرف، وقعد يجتر سأمه في ذهول، وإذا بغراب يحييه تحية الصباح في ضحك كأنه عصفور يغرد، وأخبره بأنه مسافر إلى دمنهور لقضاء يومين أو ثلاثة أو أسبوع، لا يعرف.
وبعد أن شرب غراب معه القهوة نهض وسلم مودعا.
وتأمله حسين أفندي وهو يسير في خفة وسرعة، كأنما يرقص، وكأنه لا يحس أثرا لشيخوخته، فامتلأ قلبه غيظا من نفسه وحسرة عليها، ثم صمت وحاول أن يفكر.
وبعد قليل، قال كأنه يخاطب شخصا آخر: - كنت موظفا محترما، وكان هو صعلوكا شحاذا، أما الآن فإني طريد الدنيا وهو خطيبها؛ إنه ينتظر الحياة وأنا أنتظر الموت!
الفصل السادس عشر
صوت الشيخ
كنت أقرأ آلام نفس مصرية، هي واحدة من شعب حاول أن يرتفع من العبودية إلى البشرية، ولكن المستبدين والمستعمرين أبوا عليه ذلك!
عندما رأيت صورته المعلقة إلى الحائط مثلت أمامي حياته الماضية، ولكني عندما تأملت وفاته وقفت مترددا أيهما كان أجمل وأكثر عبرة: حياته أم مماته؟
فقد دعاني صديقي إلى زيارته في منزله القديم في عابدين، فلما دخلت المنظرة؛ أي غرفة الضيوف المجاورة للباب، وجدت هذه الصورة، وكانت لرجل في السبعين أو حوالي ذلك ... ووقفت أتأمله طويلا؛ فقد نقلت صورته وهي خالية من هذه اللمسات العصرية التي تحيل كلامنا أمام العدسة الفتوغرافية إلى بطل، فكان رأسه منحنيا، والغضون تملأ وجهه، وفي عينيه هم يرزح به وكأنه لا يطيقه، وسألت صديقي عنه، فقال: هو أبي، مات في 1908، في السبعين أو الثانية والسبعين.
وزادني هذا الكلام إكبابا على الصورة، وقلت في نفسي: مات في السبعين في 1908؛ أي إنه ولد في 1840 قبل نهاية ولاية إبراهيم ومحمد علي بثماني سنوات، رأى أول خط للسكك الحديدية، ورأى افتتاح قناة السويس، ورأى ثورة عرابي، ورأى فظيعة دنشواي، يا له من تاريخ! لو أن هذا الرجل كان قد كتب لنا تاريخ حياته، وذكر لنا ما انطبع في نفسه منها، لكانت لنا من هذه الحياة ذكريات ممتعة أليمة، كنا نعيش بها في السنين الماضية، ونقرأ بها تاريخ آبائنا وجدودنا.
وعدت أتأمل الصورة، وجاءت القهوة، ولكني بقيت مكاني أتأمل هذا التاريخ القديم، وأقرأ في العينين والفم والجبهة، وفي هذا الانحناء بالرأس الذي يشبه الاستكانة والتسليم - كنت أقرأ آلام نفس مصرية، هي واحدة من شعب حاول أن يرتفع من العبودية إلى البشرية، ولكن المستبدين والمستعمرين أبوا عليه ذلك!
وصارحت صديقي بإحساساتي، فقال: إذا كنت تتأمل صورته وتفكر في كل هذا الذي مر بحياته فاسمع إذن وتأمل في مماته.
قلت: مماته؟ وماذا يكون في الموت؟ لقد استلقى على سريره ثم فاضت، هذه مسألة ساعة أو يوم.
قال: لا، إنه كان يحب الشيخ سلامة حجازي.
قلت: وأنا أيضا كنت أحبه.
قال صديقي: إن لموته قصة تحب أن تسمعها؛ ففي ذات يوم من 1908، وكنت أنا في العاشرة من عمري، وكانت أمي لا تزال حية، استيقظ في الصباح وقال إنه رأى الشيخ سلامة حجازي في نومه، وإنه وبخه وعتب عليه أن يوافي الموت قبل أن يودعه، ثم بكى.
قلت: خرف الشيخوخة؛ المسنون يبكون بسهولة لأقل الأسباب.
فقال صديقي: أبي لم يخرف بتاتا، بل مات وهو في كامل عقله وسلامة تفكيره؛ فإنه مسح دموعه وقال مثلما قلت أنت إن بكاءه خرف، ولكنه في صباح اليوم التالي استيقظ وهو يقول: لم أعد أطيق هذا، ولما سألناه عاد إلى البكاء وهو يقول: الشيخ سلامة حجازي جاءني مرة أخرى في الحلم وقال لي: كيف تموت قبل أن تراني؟ أهذا وفاء؟!
ومع أني، أنا وأمي، كنا قد تلقينا الحلم الأول بالإهمال والاستهتار فإن هذا الحلم الثاني قد أثار فينا الاضطراب، فقالت أمي لي: اسمع يا إسماعيل، هذا المساء تذهب مع أبيك لحضور الشيخ سلامة.
وفي المساء ذهبنا، ونحن لا نعرف أية «رواية» سنسمع، ودخلنا، وقعدنا في صف أمامي، وقعد أبي وكله آذان يستمع لأغاني الشيخ.
وانطلق الشيخ سلامة يغني وكأنه عصفور قد خرج وانطلق من القفص الذي كان محبوسا فيه وصار يغرد، وصرت أحس كأن الجدران والسقف والأرض كلها تغني، وكانت قلوبنا تخفق ونحن في طرب يهزنا جميعا، وقال لي أبي: في حلقي بكاء، ولكني لن أبكي. وتماسك أبي حتى خرجنا، وركبنا الحنطور وهو يقول: الحمد لله، الآن أموت مرتاحا!
وانطلق الحنطور بنا إلى البيت، وكنا في منتصف الليل، والقاهرة هادئة نائمة مظلمة، والجو بارد طري، فانطلق أبي بالبكاء، وكانت دموعه غزيرة حتى لأحسست كأنه يريد أن يخرج كل ما في نفسه من حزن ويسكبه على صدره.
فقلت له: أبي سنذهب غدا ونرى رواية أخرى للشيخ سلامة.
ولكن أبي قال: لا، حسبي هذا، لقد شبعت، الله يطيل عمرك يا شيخ سلامة! وتنهد واستراح وكف عن البكاء.
ودخلنا البيت، وتقبلت أمي أبي ضاحكة كما لو كانت تتقبل طفلا قد عاد بعد أن اشترى لعبة، وضحك أبي ودخل ناشطا إلى سريره ونام.
واستيقظت في الصباح فوجدتهما؛ أبي وأمي، يشربان القهوة، وأبي يقص عليها ما رأى وما سمع في المساء السابق، وكان في نشوة واضحة وفي طرب لا يكاد يطيقه.
ودخلت إلى غرفتي لألبس ملابسي استعدادا للخروج، ولكني قبل أن أخرج قصدت إلى أبي حيث كنت قد تركته، ولكني وجدت أنه قد آوى إلى فراشه.
وقالت أمي إنه قال إنه يريد أن يرتاح.
وخرجت مطمئنا، ولكن لم أكد أسير خطوات حتى أحسست كأن سيفا يقطع رأسي ويقول: أبوك.
ووقفت وأنا أرتعش، ثم هرولت عائدا إلى البيت، وما إن دخلته حتى سمعت صراخ أمي: يا حبيبي.
ووقفت أمام جثمان أبي وأنا جامد أخرس، ثم نطقت، وقلت: الحمد لله! لقد سمع أمس صوت الشيخ سلامة.
الفصل السابع عشر
رؤيا
ما أغرب هذه الحياة! الناس يقولون إن الزوجة تفرح عندما تموت حماتها، ولكن «رؤيا» تصف حماتها في النعي بأنها أمها!
لما قرأت النعي في جرائد الصباح كذبت عيني؛ فقد وقفت عند هذه السطور:
أنعي إلى أصدقائنا أمي العزيزة «نعمى» التي سعدت بحياتها ثلاثين سنة، وسأسعد بذكراها إلى يوم وفاتي. «رؤيا»
وكنت أعرفهما، وأعرف السيدة المتوفاة نعمى، لم تكن والدة رؤيا وإنما كانت حماتها، وأعرف أيضا أن عمر رؤيا لا يقل عن خمسين سنة، ولو كانت السيدة نعمى والدتها لقالت إنها هنأت بحياتها خمسين سنة بدلا من ثلاثين.
وجعلت أتأمل النعي وأعود إلى قراءته، وقلت: ما أغرب هذه الحياة! الناس يقولون إن الزوجة تفرح عندما تموت حماتها، ولكن رؤيا تصف حماتها في النعي بأنها أمها!
ولا بد أن القارئ قد استغرب هذين الاسمين: نعمى ورؤيا؛ فإننا قلما نجد الاسم الأول في مصر، أما الثاني فلا نعرفه، ولا نذكر أنه يطلق على فتاة مصرية.
والواقع أنهما كانتا غريبتين؛ فإن السيدة نعمى كانت فلسطينية، وكانت قد جاءت مع زوجها وولديها إلى مصر قبل خمسين أو ستين سنة، ولما كبر ابناها وبلغا سن العشرين، أو حوالي ذلك، فكرت أمهما في زواجهما، وكان أبوهما قد مات، وقصد الشابان إلى فلسطين كي يتزوجا من أقارب عائلتهما، ولكنهما لم يجدا في أقاربهما الفتاتين المنشودتين.
وبينما هما يهمان بالرحيل للعودة إلى مصر وجدا جمالا وخياما بالقرب من القرية التي كانت وطن أبويهما، فقصدا إليها للتفرج، وعرفا أن إحدى القبائل التي تضرب في جنوب فلسطين قد حضرت للنجعة، وأنها هي التي تملك هذه الجمال والخيام، فجعلا يتخللان الخيام ويتصفحان الوجوه، وكانت وجوها سافرة صريحة للرجال والنساء.
ورأى كلاهما فتنة وجمالا في هؤلاء النساء البدويات، فجعلا يتحدثان إليهن، ويعجبان برقتهن، ويجدان حلاوة في لهجتهن العربية؛ فقد كان فيها من اللحن والغنة والمد ما يشبه الدلال والغنج.
ولم يبرحا فلسطين إلا بعد أن تزوج كل منهما فتاة من هذه القبيلة، وعادوا جميعا إلى مصر.
وفرحت أمهما بزواجهما، ووجدت في تعليم هاتين الفتاتين أساليب المتمدنين ما ملأ فراغها بالضحك والسرور؛ فقد كانت أخطاؤهما بدوية: أخطاء الفطرة التي لا تعرف شيئا من التمدن ومركباته في السلوك والتصرف.
وكان الجميع يعيشون معا؛ الأم وابناها وزوجتاهما، ومع أن الحظ لم يسعد ابنيها بإنجاب الأطفال فإنهم كانوا يسعدون بالعشرة والألفة، وكان البيت يخيم عليه السلام، وتعم أفراده الصداقة الحميمة، وكانت الأم مركز الحب والحنان للجميع.
ثم دخل الموت هذا البيت؛ فمات الزوجان واحدا بعد آخر في حمى التيفوئيد التي لم تمهل كلا منهما أكثر من عشرين يوما.
وعم البيت ذهول وصمت ووجوم، كأن الأم وزوجتي ابنيها، أو بالأحرى أرملتيهما، قد نسين الكلام؛ فكان التفاهم بالإشارة، وكانت وجبات الطعام تنسى، وكان الليل يقلقه بكاؤهن، كل منهن في غرفتها.
ومضى شهران، وقعدت نعمى في الصباح أمام زوجتي ابنتيها، ثم بكت، ونهضت فغسلت وجهها وعادت إلى مكانها كأنها قد صممت على شأن، وأخذت أنفاسها وقالت لهما: - كل شيء بإرادة الله يا ابنتي، الله أراد، لقد مضى على وفاة ابني شهران، وأنتما في الشباب، فلتذهب كل منكما إلى أمها، ولتنشد زوجا، ولتبدأ حياة جديدة، وهذا حكم الله الذي لا يرد، وهذا عرف الناس الذي يسيرون عليه، اذهبا تزوجا، وليبارك الله عليكما، وليعطكما ما حرمكما مع ابني.
ولطمت الفتاتان وجهيهما، واستمر البكاء، وصار ثلاثتهن في مناحة.
ومضت أيام، والسيدة نعمى تحض الفتاتين على ترك بيتها، واستجابت إحدى الفتاتين إلى طلبها، وتركت البيت، وعادت إلى أهلها في جنوب فلسطين، ولكن رؤيا أبت ترك حماتها، ورضيت أن تنزل عن الزواج كي تعيش معها، وقالت رؤيا: - هنا بيتي، هنا ذكرياتي؛ ابنك كان ينام معي في هذه الغرفة، سأبقى حتى أموت، أنام على المخدة التي كان يضع رأسه عليها، وألتحف بلحافه، وأشرب من كوبه، لا أستبدل بذكراه آخر، وسأعيش معك حتى يقضي الله بما يشاء.
وبكت الاثنتان وتعانقتا، وعاشت رؤيا مع حماتها عشرين سنة، بعد عشر سنوات مع زوجها، وهذا هو المعنى الذي قصدت إليه حين كتبت في النعي إنها سعدت بحياة أمها نعمى ثلاثين سنة.
وقاربت نعمى الثمانين من العمر، وأحست دبيب الموت، فجعلت تفكر في مستقبل رؤيا، وتتوسل إليها كي تتزوج، ولكن رؤيا كانت قد بلغت الخمسين، وأين تجد الرجل الذي يتزوج امرأة في الخمسين؟
وكانت رؤيا تأبى التفكير في الزواج، وتقول: لا تخشي شيئا يا أمي بعد وفاتك؛ فإني لن أعيش بعدك أسبوعا أو أسبوعين، نحن حياة واحدة، ويجب أن نبقى كذلك إلى أن نموت.
ولكن نعمى كانت، كلما أحست أنها تقترب من قبرها، تعود إلى التفكير في هذه الفتاة؛ لا بد أن تتزوج، وكانت تبكي وتتوسل إليها.
وكانت نعمى تعرف رجلا من معارف زوجها، وكانت سنه تتجاوز الستين، فبعثت إليه وحضر من فوره، وعرضت عليه نعمى الزواج من رؤيا، وقبل.
ونهضت نعمى إلى غرفة رؤيا، وألبستها، وعطرتها، ورجلت شعرها، وجاءت بها إلى هذا الذي رشحته لزواجها، وعادت رؤيا شابة بها فتنة وسحر، وقعدت يتأملها خطيبها وقد أشرق وجهه بالسرور.
وتم الزواج، بعد أن قبل الشرط الوحيد الذي شرطته رؤيا، وهو ألا تبرح منزل أمها نعمى، وقبل زوجها هذا الشرط، وعاش ثلاثتهم شهورا إلى أن ماتت نعمى وهي هانئة بهناء رؤيا.
الفصل الثامن عشر
اختلفوا على الجهاز
... ووجدتهم جميعا ساهمين صامتين، كأنهم في مأتم وليسوا في عرس، وعندما قلت السلام عليكم لم أسمع رد التحية إلا من ثلاثة أو أربعة!
كنت موظفا في مركز بمديرية الغربية، وكنت على أحسن وأسعد ما أحب، ولكن المعاكسات الصغيرة التي يعتادها الموظفين جعلت مقامي في هذا المركز جهنم؛ فإن زميلا لي كان قد جعل دأبه أن يناقرني مناقرة الضرتين، وكان يمشي بالنميمة بيني وبين زملائي من سائر الموظفين، وانتهيت إلى أنني يجب أن أسعى وأنتقل إلى مركز آخر، وكانت وظيفتي صغيرة، فلم يكن انتقالي صعبا؛ لأن أمثالي يعدون بالمئات في المراكز، ويسهل الاتفاق مع أحد الموظفين على أن نتبادل مكانينا، ووجدت هذا البدل بسرعة موفقة، وكان المركز الذي نقلت إليه في مديرية البحيرة نائيا نحو الصحراء الغربية.
ومع أني وجدت صعوبات غير قليلة في المسكن والمأكل، فإني وجدت بعد نحو شهر سيدة أرملة تؤجر الدور الثاني من منزلها بأجر صغير، وعاينت المكان، ودرست الوسط، ووجدت أنه يوافقني، ونقلت كل ما أملك من أمتعة إلى مسكني الجديد.
وكانت هذه السيدة الأرملة تشتري لي كل حاجاتي، وأحيانا تطبخ لي ما تشتهيه نفسي، ووجدت في الموظفين الذين تعرفت بهم أنسة جديدة، تقارب الصداقة، لم أكن أعرف مثلها في مركزي السابق في مديرية الغربية.
وكان يزورنا من وقت لآخر في مكتبنا في المركز مزارع يملك نحو عشرة فدادين، وكان ينفق علينا بسخاء ويسهر معنا، وكان يشرب الخمر بلا حساب، وكان مجونه ومزاحه يغلبان على حديثه.
وذات يوم، وكان يوم الخميس، كنت قاعدا في غرفتي أرتاح بعد الظهر، وإذا بالسيدة الأرملة التي أسكن في منزلها قد صعدت إلى غرفتي ودقت الباب، ونهضت وفتحت لها، فبادرتني بقولها: الشيخ حسين أبو محمود في انتظارك تحت. ونهضت، ولبست ملابسي بسرعة؛ لأن الشيخ حسين أبو محمود هذا هو المزارع الذي ينفق علينا بسخاء.
ونزلت أهرول وأنا أترقب مساء مليئا بالأكل والشرب، وقابلني الشيخ حسين أبو محمود وصافحني في حفاوة مشرفة، وقال لي إني مدعو إلى منزل شقيقه هذا المساء بقريتهم؛ لأن بنته؛ أي بنت شقيقه هذا، ستتزوج هذا المساء، وأجبته بالإيجاب؛ إذ لم يكن من الذوق أن أرفض مثل هذه الدعوة، وسألته إذا كان قد دعا زملائي في المكتب، فقال: إنهم سبقونا إلى القرية، ولكنه جاء خصيصا لي لأني لا أعرف الطريق.
وركبنا عربة يجرها حصان مفرد هزيل، جعل يجرنا في بطء حتى وصلنا إلى القرية نحو الساعة الثامنة من المساء، وكنا في الشتاء، وكان الظلام حالكا والبرد قارسا، ودخلنا البيت ولم يكن هناك من علامات العرس سوى مصباحين كبيرين على الباب، واجتزنا الدهاليز العديدة حتى وصلنا إلى غرفة كبيرة، ودخلنا كلانا فوجدنا نحو عشرين رجلا من الفلاحين والعرب، ووجدتهم جميعا ساهمين صامتين، كأنهم في مأتم وليسوا في عرس، وعندما قلت السلام عليكم لم أسمع رد التحية إلا من ثلاثة أو أربعة.
وقعدت على كرسي قريب من الباب، ثم رأيت الشيخ حسين أبو محمود يخرج ثم يعود، فينادي أحد القاعدين في صوت منخفض ويخرج، ثم يعود فينادي آخر، وأحسست بهرج لم أفهم معناه، وتطلعت أبحث عن أحد زملائي الذين قيل لي إنهم سبقونا فلم أجد أحدا، وقدمني الشيخ حسين أبو محمود إلى شقيقه الذي سيعقد زواج ابنته هذا المساء.
وحدث هرج ثم ساد صمت، ودخل أحد المدعوين وهو ينتفض من الغيظ وهو يقول: خبيث، سافل، لئيم، يستحق الضرب بالرصاص.
وخرج أحد القاعدين وقد أزبد فمه من الغيظ، وهو يصيح: ناس أولاد كلب، عدموا الشرف.
ولم أفهم شيئا من كل هذا، ولكني أحسسن أن الجو لا ينبئ بالفرح والأكل والشرب كما كنت أنتظر، ودخل علي الشيخ حسين أبو محمود، وأخذني من يدي، وخرج بي إلى قاعة بعيدة وقعد إلى جانبي وقال: اختلفوا على الجهاز.
فقلت: أي جهاز؟
فقال: العريس كان يطلب سريرين وسجادة عجمية، ولكن شقيقي أصر على سرير واحد وسجادة أفرنجية، وإلى الآن لم يحضر العريس، وقد بعثنا إليه فأقسم بأنه لن يحضر، وكلنا في خجل، وسيعرف أهل القرية كلهم في الصباح أن بنتنا تركها عريسها.
فقلت: هذه والله كارثة!
فقال الشيخ حسين: ليس الأمر كارثة، بل هو العار، نحن فلاحين، لكن فلاحين عرب، والعار سيبقى أبد الأبد لنا ولأولادنا.
فقلت: الأمر لله يا شيخ حسين.
فقال: ألا تصنع معروفا، وتنقذ شرفنا وتتزوج هذه البنت هذه الساعة، ونحل هذه المشكلة بزواجك، ولو بضعة أيام؟
فكدت أضحك من هذا الاقتراح، ولكنه جعل يرجو ويتوسل ويقول إنه شرف العائلة.
وبينما نحن في ذلك وإذا بفتاة، أو سيدة سمينة مبتسمة، تبلغ الثلاثين، قد جاءت تحمل كوبا من الشربات وتقدمه لي، وقال لها الشيخ حسين: قبلي يد سيدك يا بنت.
وقبلت يدي اغتصابا بقوة وإجبار.
وسحبني الشيخ حسين، كأنه يسحب خروفا، إلى قاعة المدعوين، وأجلسني على كرسي، وقبل أن آخذ نفسي رأيت الفتاة السمينة المبتسمة تقعد إلى جانبي، والعقد يتمم في سهولة ويسر، كأننا كنا على ميعاد.
وانبسط الحاضرون، وتكلموا، وأكلوا، وشربوا، وبت ليلتنا أنا والعروس معا.
وفي الصباح ركبنا العربات إلى بيتي في البندر، وبعد أيام جعلت أبحث عن العريس السافل الذي ترك عروسه من أجل الجهاز، فلم أجد اسما ولا خبرا.
وعرف زملائي ما حدث فجعلوا يضحكون ويسخرون مني، أما أنا فقررت بعد أن اتضح لي هذا النصب العلني أن أطلق زوجتي انتقاما من الشيخ حسين وشقيقه.
ولكن هأنذا بعد سبع سنوات لم أطلقها؛ إذ هي أم أولادي الثلاثة، وكلانا يحب الآخر ويحترمه، ويجد فيه أقصى ما كان يهوى من سعادة الزواج.
ولكن شيئا واحدا فقط ينغص علي، وهو أن الشيخ حسين عندما يشرب ويسكر يقص على مساهريه ومسامريه القصة على حقيقتها، ويفخر بأنه نصب علي وزوجني بنت أخيه بخداعي بأني رجل شهم يجب أن أنقذ شرف العائلة، وأنه لم يكن هناك عريس، ولم يكن هناك خلاف على الجهاز.
الفصل التاسع عشر
موت عظيم
إن له حقا في أن يحيا على هذه الأرض كما نحيا نحن، بل لعل حقه أكبر من حقنا؛ إذ من يدري؟ فلعله قد ورثها عن آباء عاشوا نحو خمسين ألف سنة هنا، في هذه البقعة.
حدثت هذه الحادثة في 1919؛ فقد كنت أقيم في الريف وأشتغل بالزراعة، وكانت عنايتنا كبيرة جدا بالقطن الذي ارتفع ثمنه إلى خمسة وأربعين جنيها للقنطار، وحدث أن شكا إلي أحد المزراعين ذئبا ضاريا، يتعسس في الليل بيوت الفلاحين، ويفتك بما يجد من دجاج أو خراف أو ماعز، وطلب إلي أن أقتله.
وخرجت قبيل الساعة الرابعة من الصباح، أنا وصديقي بهنساوي، نرصد هذا الوحش ونكمن له، ومعي بندقية صادقة لا تخطئ الهدف، وكان صديقي هذا بهنساوي، فلاحا يبلغ الستين، وكان حكيما من أولئك الأميين الذين اكتسبوا من خبرة الدنيا ما يوهمك أنهم قد درسوا الكتب، وكانت له فراسة في الزراعة والأرض تعجب من صدقها، كأنه يبصر بما سوف تنتج.
وكمنت أنا وهو خلف كومة من التراب نترقب، ولم يمض قليل حتى بدا لنا الذئب الذي كلفت قتله، ورأيته يسير في خطوات سريعة لكن في غير هرولة، وكان عائدا من صيد الليل إلى الجبانة القديمة التي يسكن في بعض قبورها.
ورفعت البندقية، وسددتها إليه، وفتحت الزند، ولكني رأيتني أقف عن إطلاق النار، فإن شيئا في هذا الذئب وقف يدي وجمد أصابعي؛ فقد كانت في وحشيته روعة وجمال، وأحسست أني إزاء عظيم من عظماء الطبيعة، بل إن الطبيعة نفسها كانت، بقطنها وقمحها، داجنة بالمقارنة إليه. وتلبثت أنظر إليه في إعجاب، وهو يسير برأسه المرفوع وشهامته المتحدية، كأنه احتجاج على هذا التمدن الذي عم حقولنا وأحالها إلى مزارع تجارية للقطن والقمح.
وقال صديقي بهنساوي: اقتله، اقتله.
ولكني أشرت إليه بالصمت، وجعلت أغذو عيني بجماله وروعته، واختفى الذئب، وتنهدت في ارتياح، وقلت لبهنساوي: إن مثل هذا الوحش لا يقتل. «إن له حقا في أن يحيا على هذه الأرض كما نحيا نحن، بل لعل حقه أكبر من حقنا؛ إذ من يدري؟ فلعله قد ورثها عن آباء عاشوا نحو خمسين ألف سنة هنا، في هذه البقعة».
وجعلت أتحدث إلى صديقي حديثا دينيا عن الطبيعة والذئب، ولكنه نفض يديه في أسف كأنه يقول: أضعت الفرصة.
وبقيت بعد ذلك أخرج، مع صديقي أو على انفراد، أكمن لرؤية هذا الذئب، أتحسس إحساس الطبيعة منه، وأجد في برودة الفجر وظلامه الأبيض، وفي النجوم الشاحبة التي توشك على الزوال، معاني قديمة حميمة كدنا ننساها بحياة التمدن التي نحياها.
وانعقدت بيني وبين الذئب صداقة، وصارت لنا مواعيد للمقابلات في الفجر، بل إني كنت حين آوي في الليل إلى الفراش أذكر النهوض في الفجر، وأهنأ بهذه الذكرى، وأنام مطمئنا إلى لقاء صديقي وهو يعدو شامخا مهيبا كأنه يتحدى التمدن.
لقد أصبح هذا الذئب نداء الطبيعة ويقظة الضمير في قلبي، حتى لقد كنت أتحدث إلى نفسي بعيدا عن الفلاحين، وأتساءل: بأي حق نخترع هذا الاختراع اللئيم، البندقية، ونضع فيها سرا مواد انفجارية، ثم نختبئ ونطلق هذه المواد على هذا الحيوان العظيم، فيموت وهو لا يرانا، يموت دون أن يجد الفرصة لأن يغرز سنا من أسنانه البيضاء في أجسامنا؛ إن هذا لؤم!
إننا نعقد المصارعات والملاكمات، ونتسابق إلى قطع المانش سباحة، بل أحيانا نصارع الثيران، وكل هذه المباريات تعود بنا إلى تلك الحال الوحشية التي كنا نحياها قبل عشرة آلاف سنة، وكنا مثل هذا الذئب، نخرج في الفجر وقد وضع كل منا حياته على كفه، فنصيد الوحش أو يصيدنا الوحش؛ البقاء للأصلح، وكنا نلقى مثل هذا الذئب، فإما حياتنا وإما حياته؛ تنازع البقاء.
وكنا نموت على شرف، وفي ضوء النجوم الخافقة، في الفجر، وكنا نقع في أحضان الطبيعة. لا، بل بين أسنان الذئب أو الأسد، كنا نموت موتا شريفا عظيما، تصدق وتبارك عليه الطبيعة، وكأنها تقول: أحسنتم.
أما الآن فنحن نموت موتا مغشوشا، مزيفا، غير أصلي، نموت على الفراش، ثم نوضع على التراب، فتأكلنا الديدان على مهل مهين بدلا من أن تنهشنا الذئاب في عجلة شريفة. •••
وبقيت شهورا وأنا هانئ بهذه الصداقة السرية بيني وبين الذئب، ولكني خرجت كعادتي في أحد الأيام فلم أجده، وعمني القلق، وأطبق علي الخوف من أن يكون قد قتل، وعدت كسيفا.
ولم تمض ساعات حتى سمعت ضجة، وخرجت أبحث فوجدت غوغاء من الفلاحين يتصايحون في طرب، ويجرون خلفهم صديقي ميتا على التراب.
ووقفت في حزن أتأمل رأسه العظيم، وأسنانه البيضاء، وعينيه الحانقتين، وظهره الأسمر، وبطنه الأبيض، وذنبه الأسود، وجعلت أتأمل كل عضو من أعضائه في حب وأسف.
وقال أحدهم: مات مسموما؛ اشترينا له سما ووضعناه في فرخة ميتة فأكلها ومات.
أي لؤم هذا؟ أي لؤم؟!
الفصل العشرون
افتحوا لها الباب
بنت فقيرة وجميلة، ومن من فتيات القرية لا يتزوجنه وهو يملك فدانا غير مرتب الخفر؟!
تعارفا في الحقل عند القناة الصغيرة، وكانت مع عائشة عجلتها التي ترعى الأعشاب على شطي القناة، أما محمود فكان يحمل فأسه التي يعزق بها القطن قريبا من القناة بعيدا عن القرية.
وكانا يتواعدان للقاء عند المصرف، وعند القناة، وهناك بين شجيرات النخل القليلة، وبين البرسيم الذي شرع يجف ويملأ الهواء بتباشير الدريس، كانا يقعدان ويتحدثان في حياء، وكانت عائشة تقص عليه حوادث البيت الصغيرة، وماذا قالت جدتها عن العجلة، وماذا يريد أبوها أن يفعل بالعنزة العجوزة التي لم تعد تلد.
وكان محمود يقعد إليها في صمت عصبي، لا يدري كيف يحتوي نفسه؛ فقد كان يستمع إليها ويده ترتعش، وقدمه تختلج، وتنهداته تتوالى، وهو يعتدل من وقت لآخر كأنه لا يجد الراحة في مقامه أمامها.
وكانت الساعات تمضي كأنها لحظات، وذات يوم جاء طلب لمحمود من العمدة؛ وزارة الحربية تطلبه للتجنيد.
وأحس محمود أن أفكاره مبلبلةن لا يدري ما يفعل؛ هل يفر هو وعائشة؟ إلى أين؟
وذهب إلى العمدة وعرف المواعيد، متى يسافر للكشف؟
وقبل السفر بيوم قعد إلى عائشة عند القناة، وقبل يدها وذراعها، وعنقها، ووجهها، وتشمم رأسها، وبكى، وبكت هي أيضا بعد أن قبلت يده، وتواعدا على الزواج عقب رجوعه من الخدمة العسكرية، ومع أن الحزن كان يغشي قلبها فإن أمل الزواج بعد سنة أو سنتين كان يملؤها بشجاعة وتفاؤل.
وسافر محمود إلى القاهرة، وبقيت عائشة وحدها في القرية، واستفاض الشباب في جسم عائشة؛ فبرز صدرها وتوردت وجنتاها وضحكت عيناها، وتحدثت نساء القرية عن جمالها.
وكان شيخ الخفراء في القرية رجلا طيبا يملك نحو فدان، وكان لذلك يعد من الأعيان الموسرين، وكان قد تجاوز الستين وماتت زوجته قبل ثلاث سنوات وخلفت له بنتين لم تتجاوز كبراهما العاشرة من العمر.
وكانت له أخت تحبه وتحضر كل يوم إلى منزله لخدمته وخدمة البنتين، وكانت تعرف عائشة وتتحدث عن جمالها وفتنتها.
وذات صباح، عندنا بكرت إلى بيت أخيها، وجدته قاعدا إلى الموقد يهيئ القهوة، فقعدت إليه وشرعت تتحدث عن متاعبه وهو بلا زوجة وبلا ولد يرثه ويخلد اسمه، ولماذا لا يتزوج عائشة؟ بنت فقيرة وجميلة، ومن من فتيات القرية لا يتزوجنه وهو يملك فدانا غير مرتب الخفر؟!
ونفض الشيخ على هذا الاقتراح بيديه استنكارا وهو يقول: أنا رجل مسن، ومريض، لي إيه في الزواج؟
فقالت أخته: ولكنك تحتاج للزواج لهذا السبب نفسه، امرأة تعتني بك وتريحك.
وما زالت به تعاوده كل يوم بقصة الزواج من عائشة حتى قبل، وذهبت هي إلى والدي عائشة، واقترحت عليهما هذا الاقتراح الذي تلقاه الأبوان بالاستنكار أولا، ولكن بعد أيام، وبعد المحاورة بينهما وبين عائشة، التي أصرت على الرفض، قبلا، ولم يكونا يعرفان شيئا عن حب عائشة لمحمود، وتواعدهما على الزواج بعد عودته من الجندية.
وأصرت وتمسكت عائشة بالرفض، وبكت وهددت بالفرار، ولكن أمها كانت تسوسها بخبرة الزوجة المجربة، وقالت لها: - الشيخ علي رجل عجوز، تتزوجينه وبعد سنة يموت، ويكون لك ميراثه، وبعد ذلك تتزوجين أحسن الشبان في القرية؛ لأن لك الجمال والمال.
وجمعت أمها النساء القريبات والصديقات، فألححن عليها حتى قبلت، وهي تؤمل التخلص بعد سنة أو سنتين؛ لأن الشيخ علي مريض ولن يعيش طويلا.
وتم الزواج، وكانت هي في العشرين وهو فوق الستين، واكتشفت بعد الزواج أنه يحتاج كل يوم إلى لزقة توضع على ظهره قبل النوم، فكانت تدفئها على النار، ثم ينبطح الشيخ علي وتضع عائشة اللزقة على ظهره، ثم تربطها.
وقد أحست بعد أن صارت اللزقة واجبا أن الشيخ علي ليس زوجا، وإنما هو طفل يحتاج إلى العناية كل مساء، وأن إهمال اللزقة قد يكون سببا لموته.
وزاد هذا الإحساس أنه كان طيبا، يذهب إلى السوق الأسبوعية فيشتري لعائشة ولبنتيه الحلوى والأقمشة الزاهية، وكانت هاتان البنتان قد تعلقتا بعائشة كما لو كانت أختهما.
ومضى على الزواج أكثر من سنة وعائشة سعيدة بهذا الطفل الكبير الذي يحتاج إلى اللزقة كل ليلة، وبهاتين البنتين اللتين تعلقتا بها، وكادت أن تنسى محمود.
وذات يوم عم القرية هرج؛ فإن محمود قد عاد بعد أن أمضى الخدمة العسكرية، وسمعت عائشة هذا الخبر، فاعتكفت في غرفتها المظلمة وهي تحس كأن زلزالا يزعزع ثيابها ويبلبل أفكارها، وجعلت تستعيد ذكرياتها عند القناة، وتذكر وعدها لمحمود بأنها ستنتظره حتى يعود فيتزوجا.
وظن الشيخ علي أنها مريضة، فأرسل إحدى بنتيه لأمها كي تحضر وتؤنسها، وجاءت أمها فباحت لها عائشة بكل شيء؛ بحبها لمحمود ورغبتها في الطلاق كي تتزوجه.
وارتاعت الأم من هذا الكلام، وأخبرتها بأن أهل القرية لو علموا به لكانت فضيحة لها ولوالديها، وتركتها، وحاولت أن تكتم السر على طريقة النساء، فباحت به فقط لصديقاتها، وباحت الصديقات لكل من كن لا تعرفنه، وبلغ الخبر أخت الشيخ علي التي أسرعت إلى عائشة وجعلت تهدئ منها وترجوها البقاء مع أخيها.
وتسرب الخبر إلى الشيخ علي، ووقع عليه كالصاعقة، ولكن الرجل كان حكيما ورقيقا معا، وكان أيضا يحب عائشة كما لو كانت بنته، فدعا أخته، وبعض الأقارب، ودعا المأذون، وأمام هؤلاء جميعا أعلن الطلاق، وقال: افتحوا لها الباب، ربنا يعمل لها الخير، ربنا يبارك عليها.
وكانت عائشة تسمع هذه الكلمات التي دارت في رأسها كأنها كانت تكويها بالنار، فنهضت وقعدت، ثم تأملت هذا الرجل العجوز، الذي يحتاج إلى اللزقة كل ليلة، وربما يموت إذا فارقته، فخرجت إليه وهي تبكي وقد اغرورقت عيناها بالدموع وصاحت: - هو أنا طلبت الطلاق؟ هو أنا قلت إني أخرج؟ أنا معك هنا لحد ما أموت أنا أو تموت أنت!
ورد الشيخ علي يمين الطلاق ودموعه تنهمر.
الفصل الحادي والعشرون
هل أنا قتلته؟
وكان ينام بسهولة على يدي، فما هو أن ينطرح ويسترخي، وأمدد يدي على وجهه وصدره إلى ساقيه، حتى يكون قد غاب.
عاد صديقي يلومني للمرة المئة لأني لا أمارس التنويم، أي التنويم النفسي ، أو كما يسمونه، المغنطيسي؛ ذلك أنه كان قد مضى علي أكثر من ثلاث سنوات وأنا مقاطع لهذا الفن، وكنت قبل ذلك أمارسه في السهرات للمؤانسة فقط، ولم أحترفه قط، وكثيرا ما كنت أقول إنه أسوأ فن، وإن الحكومة يجب أن تمنع ممارسته؛ لأنه ينطوي على كثير من الممكنات السيئة التي يستطيع الرجل السافل أن يستغلها وينزل بمن ينومه أو ينومها أكبر الضرر.
ذلك أن الشخص النائم يؤدي لنا ما نطلب منه كأنه آلة فقط، ليس له إرادة؛ فإذا قلنا له أنت لص تحب السرقة وتمارسها في خفة، وستفعل ذلك غدا، فإنه حتى بعد أن يفيق من النوم يرتكب السرقة.
كنت أقول هذا وأستنكر التنويم مع أني - كما قلت - كنت أمارسه عن نية حسنة مع بعض أصدقائي للمداعبة والمؤانسة، ولكني منذ ثلاث سنوات انقطعت عنه انقطاعا تاما؛ وذلك بسبب حادث ما زلت أتألم كلما ذكرته، ولا أعتقد أني سأعود إلى ممارسة هذا الفن، بل يقيني أن الحكومة تحسن كل الإحسان إذا هي منعته وعينت العقوبة القاسية لمن يمارسه.
ذلك أني كنت قد قرأت في بعض الكتب التي تبحث أحوال من يسمون «الفقراء» في الهند، أن «الفقير» يستطيع أن يحبس أنفاسه ويقف نبضه نحو ساعة أو أكثر، بحيث لا يستطيع الطبيب الفاحص عنه أن يهتدي إلى أية دلالة على الحياة، ولكن هذا «الفقير» يعود فيسترجع أنفاسه، كما يعود قلبه إلى النبض؛ أي يعود إلى الحياة، بعد أن يكون قد مات بضع ساعات.
وفتنني هذا الكتاب، واشتريت غيره من الكتب التي تعالج هذه الموضوعات، وجعلت أحاول الإيضاح لهذه الظاهرة العجيبة فلم أجد لها تفسيرا إلا في هذا التنويم النفسي الذي كنت أمارسه أنا مع أصدقائي؛ ذلك أن «الفقير» الهندي يتخيل نفسه ميتا لبضع ساعات يستيقظ بعدها؛ أي إنه يوحي إلى نفسه الموت فيموت، ولكنه يموت، لميعاد، أو - كما نقول - إنه ينوم نفسه ثم يستيقظ في الميعاد الذي عينه.
وقلت في نفسي إني أستطيع أن أجرب هذه التجربة في أحد أصدقائي، وهو السيد مصطفى ، وكان ينام بسهولة على يدي؛ فما هو أن ينطرح ويسترخي، وأمدد يدي على وجهه وصدره إلى ساقيه، حتى يكون قد غاب، وعندئذ أوحي إليه ما أريد، فيؤديه كما لو كان شخصا آخر.
ولكني كنت أتردد في القيام بهذه التجربة؛ وذلك لاعتقادي بأن الشخص النائم لا يخضع كل الخضوع؛ إذ أحيانا يقاوم فلا ينام، وأحيانا عندما أوقظه يرفض أن يستيقظ، وقلت: ماذا يكون لو أني نومته ودعوته إلى وقف نبضه وحبس أنفاسه، كما يفعل «الفقير» في الهند، ثم رفض هو أن يعود إلى الحياة؟ ألا يمكن أن يكون الموت لذيذا إلى حد أن يجد فيه الراحة الكبرى فيؤثره على يقظة الحياة؟
وترددت شهورا لهذا السبب في تنويمه، ولكن الفكرة كانت تغريني وتتسلط علي.
وذات مساء زارني السيد مصطفى، وقعدنا نتحدث ونشرب بعض المرطبات، وأوغل هو في المزاح حتى غاظني، فقلت أنا على سبيل المزاح: والله يا مجرم لأقتلنك غدا، ثم نهضت، وحدقت في عينيه، وقلت له: أنت في نعاس تتثاءب، قد اقتربت من النوم، رأسك يستند إلى الوراء، أنت على وشك النوم، أنت تنام.
ثم جعلت أمسح وجهه وجسمه بيدي الاثنتين، وقلت: أنت نائم، تسمعني فقط، اسمع، غدا وأنت في فراشك، في الساعة الثالثة بعد الظهر، سيأخذ نبضك في الانخفاض من 70 إلى 50 إلى 30، إلى أن يبلغ الصفر، ويقف قلبك، وتنقطع أنفاسك كأنك ميت، ستكون ميتا تماما؛ لا نفس ولا نبض، وسآتي إليك في الساعة الرابعة فأوقظك.
وجعلت أكرر هذا الإيحاء، ثم أيقظته وهو لا يدري بما حدث، وتركني، وآويت إلى فراشي وأنا مطمئن ضاحك؛ سوف أراه غدا ميتا وسوف أوقظه.
واستيقظت في الصباح وقد نسيت كل شيء، بل بقيت طيلة النهار وأنا مشغول بمهام أخرى أنستني السيد مصطفى، وفي الساعة الرابعة أو بعدها بقليل، جاءني خادم السيد مصطفى وأخبرني وهو يبكي بأن سيده مات، وتلقيت الخبر أنا بالضحك الذي أذهل الخادم، وقد ضحكت لأني كنت أعرف السر، وكنت على يقين بأن كلمتين مني تعيدانه إلى الحياة.
ولبست ملابسي وقصدت إلى منزل السيد مصطفى ومعي الخادم، ودخلت غرفته فوجدت أخته تبكي، ومعها الطبيب الذي أحضروه، وكان قد أخرج ورقة يكتب عليها شهادة الوفاة.
وقصدت من فوري إلى السيد مصطفى وهو منبطح على سريره شاحب جامد، فجعلت أمسح وجهه وجسمه، وأناديه، وأقول له: هذا ميعاد استيقاظك، انهض، استيقظ.
وجعل الطبيب ينظر إلي في سخرية ويقول: إنه مريض بالقلب منذ سنتين وأنا أعالجه، وكانت تجيئه مثل هذه النوبات، وكان منتظرا أن يموت في إحداها.
وصعقت عندما سمعت كلام الطبيب، وقلت وأنا لا أدري دلالة ما أقول: أنت، أنت لم تخبرني بهذا.
وقال الطبيب: أخبرك؟ ولماذا أخبرك؟!
وجعلت أهرول في مسح صديقي، وأكرر له القول: أنت حي، استيقظ، هذا هو الميعاد، استيقظ أرجوك، أرجوك.
وتحرك جفناه، ولعبت شفتاه، وفرحت، ووضعت أذني على شفتيه، وسمعته يقول بصوت خافت: أنا في راحة كبرى، الموت لذيذ، قلبي لا يؤلمني الآن، أنا ميت، أنا ميت.
ثم أطبق شفتيه وصمت، وعدت أنا في هرولة جنونية أصيح وأصرخ: اصح، اصح لأجلي، نحن صديقان.
ولكن كل هذا كان عبثا؛ لأن حقيقة ما حدث أن قلبه المريض، الذي كنت أجهله عندما نومته، كان يؤلمه، وكانت تنتابه نوبات همود تشبه أو تقارب ما أحدثته له أنا بالتنويم، فلما وصل القلب إلى الوقوف بالتنويم رفض، أو عجز، عن قوته.
ومضى على هذا الحادث ثلاث سنوات، ولا يكاد يمضي علي يوم حتى أتساءل: هل أنا قتلته؟
الفصل الثاني والعشرون
قصة السبعة الكبار
وأنا أميل بثقافتي العلمية إلى الشك، هذا الشك العلمي الذي أوصانا به «ديكارت» الفرنسي ...
لقد عشت هذه السنين التسع الأخيرة، وحفلت حياتي بكل ساعة، بل بكل دقيقة، منها، بحيث أستطيع أن أقول إني شاهدت واختبرت فيها أكثر مما شاهدت أو اختبرت قبل ذلك في خمسين سنة، ولا أعني كثرة ما شهدت، أو وفرة ما رأيت من حوادث، وإن يكن قد زاد على المألوف زيادة كبيرة؛ فإن صفة الكيف فيه كانت أدعى إلى العجب من صفة الكم.
لا، لم تكن الحوادث والاختبارات في السنوات السبع الماضية كثيرة فقط، وإنما كانت مختلفة عما كنا نألفه من قبل؛ ولذلك أنا أحاول، في الكلمات الموجزة، أن أستقطر العبرة من هذه الحوادث والمشاهدات، ولنبدأ في البداية.
فحوالي سنة 1949 أو 1950 شاعت شائعات خرافية تقول إن أطباقا تطير وتحط على الأرض ثم ترتفع، وأنها تمخر عباب الجو بسرعة آلاف الأميال في الساعة، بحيث لا يستطيع الناظر إليها إلا أن يخطف منها النظرة البرقية التي لا تعين التفاصيل ولا توضح الأشخاص.
وتكررت هذه الشائعات، وكنت - وقتئذ - أحرر في إحدى المجلات فوردت إلي أسئلة بشأن هذه الأطباق، وما هي، ومن أين تأتي.
وأنا أميل بثقافتي العلمية إلى الشك، هذا الشك العلمي الذي أوصانا به «ديكارت» الفرنسي؛ ولذلك حذفت الموضوع من رأسي، وأجبت هؤلاء السائلين بأن الأطباق الطائرة أسطورة، وأنها وهم وتخييل نبتا في العقول المرهقة، وأن هؤلاء الذين «رأوها» يحتاجون إلى أن يمضوا بضعة أيام أو أسابيع على الشواطئ.
وكان معنى هذه الإجابة أن الذين يرون الأطباق الطائرة مجانين ويحتاجون إلى علاج حتى يشفوا.
ولكن رويدا رويدا شرعت أشك في شكي؛ ذلك أن وزارات الحرب في روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا خصت هذه الأطباق بعناية كبيرة، فعينت الموظفين العلميين لرصدها ودراستها، ثم في نهاية سنة 1952 ظهر كتاب في أمريكا لأحد الذين شاهدوا واحدا من هذه الأطباق قال فيه إنه اقترب من طبق طائر كان قد حط على الأرض، ولكنه لم يلامسها، وأنه قد نزل منه «إنسان» أشار إليه أن يبتعد، فلما أطاعه طار الطبق!
هل يمكن أن أنكر؟ هل يمكن أن أكون أنا العاقل الوحيد وكل هؤلاء مجانين؟!
واشتريت الكتاب وقرأته، وصرت أحلم به حتى في يقظتي؛ فإني أذكر أني ذات صباح، وأنا على الترام الذي كان قد وصل إلى ميدان التحرير، نظرت إلى المبنى المجمع فرأيت سحابة بيضاء تمر فوقه، وإذا بجزء منها ينفصل ويطير في الجو على بعد سحيق يتجاوز سرعة السحب.
وانخلع قلبي، وأردت أن أصرخ: طبق طائر، طبق طائر. ولكني التزمت الصمت، ولا أعرف لماذا! وظني أن الوقار غلبني ، وظني الآخر أن السرعة التي ظهر بها ثم اختفى في الفضاء قد جعلت حديثي عنه لغوا لن يصدقه أحد؛ ولذلك التزمت الصمت.
ولكني عندما عدت إلى البيت جعلت أفكر: إن النظرية الفلكية الحديثة تقول إن هذا الكون، بنجومه وكواكبه، قد انفجر في لحظة واحدة قبل خمسة آلاف مليون سنة، وإذن يجب أن نستنتج أن عمر الأرض لا يختلف عن عمر الكواكب الأخرى بآلافها وملايينها، ونحن على هذه الأرض قد وصلنا إلى التفكير في غزو القمر، وإلى تأليف الكتب عن السياحة الفضائية، وليس بعيدا، بل إن من المرجح أن التطور الذي عرفناه على أرضنا، وانتهى بظهور الإنسان، قد عرفته كواكب أخرى بدرجات تتفاوت قليلا نحو التقدم أو التأخر، وإذن يجب أن نستنتج أن هناك ناسا أو بشرا في الكواكب يفكرون مثلما نفكر، ولعل بعضهم قد سبقنا إلى تهيئة الوسائل لنقلهم إلى الأرض.
وقلت: بدلا من أطباق طائرة تخرج من الأرض لاستعمار المريخ أطباق طائرة تخرج منه لاستعمار الأرض؟
وإذن، لا بد من الاستنتاج أيضا بأن المريخيين، أو غيرهم من سكان الكواكب الأخرى، قد أرسلوا الأطباق الطائرة للاستكشاف والاستطلاع، وأنهم يكتبون التقارير عن كواكبنا، وليس بعيدا أن نجد ذات صباح نحو مليون مريخي قد هبطوا الأرض وطلبوا منا الطاعة أو الإعدام.
كان تفكيري يجري على مستوى التفكير وحده؛ أي بلا عاطفة، كأني أقوم بتقديرات حسابية، وصرت بعد ذلك أتتبع الأخبار عن هذه الأطباق الطائرة، ولكن يجب أن أعترف أني لم أكن أتحدث إلى أحد عنها خشية أن يتهمني بالجنون، كما سبق لي أن اتهمت الذين تجرأوا على القول بأنهم شاهدوها.
وكثرت الشائعات، وتناقضت الأقاويل، وشرع قلبي يهمس بها إلى عقلي في خوف وترقب، ولكن مع الصمت الذي التزمته خشية اللوم أو السخرية.
وحدث ذات صباح أن نشرت الجرائد أخبارا بعناوين لوائية، تخفق على عرض الصفحات الأولى، تتلخص في أن روسيا أنزلت نحو ألف طائرة في وسط الصحراء الغربية في أفريقيا، وأنها تستعين بوسائل الشق الذري والالتحام الذري لإدارتها وإيجاد الماء بها، بل قيل إنها تصنع جميع الأغذية البشرية بالتأليف الذري في الصحراء.
وأعلنت روسيا تكذيبا عاجلا لهذه الشائعات، ولكن هذا التكذيب بدلا من أن يطمئن الجماهير زادهم حيرة، وطارت مئات من الطائرات الأمريكية والفرنسية والبريطانية للبحث في وسط الصحراء عن هذه الطائرات فلم تجد لها أثرا.
وعم الناس بلبلة؛ فمنهم من قال إن الشائعات كانت كاذبة، ومنهم من قال بل إن المريخيين قد أنزلوا بعضا منهم لاستعمار الأرض.
ولكن إذا كان المريخيون قد أنزلوا بعضا منهم إلى الأرض فأين ذهبوا؟
كان هذا السؤال يتردد على ألسنتنا، ولكن كان الجواب عليه يشيع الرعب في قلوبنا، وكان هذا الجواب: أن المريخيين قد تعلموا لغتنا، وأنهم يتخللون مجتمعاتنا ويدرسونها، وأن الأطباق الطائرة التي كان قد مضى على الشائعات الخاصة بها نحو خمس أو ست سنوات لم تكن في حقيقتها سوى طائرات تحمل إلينا المريخيين الذين كانوا ينزلون ويختلطون بنا ويتعلمون لغتنا، ويعيشون بيننا دون أن نفطن لحقيقتهم.
وأصبح هذا الرأي الأخير عقيدة، بل عقيدة مخيفة؛ فكنا عندما نجد شخصا له وجه مستطيل بعض الشيء نقول في صمت وخوف: لعل هذا الرجل مريخي؛ إنه لا يشبه البشر كل الشبه.
ولكن المنطق الحسي أقوى وأرسخ من المنطق العقلي؛ ولذلك سرعان ما كنا ننسى هذا الموضوع عندما نئوب إلى بيوتنا ونجد طعامنا المألوف، وأولادنا، وسريرنا، وكل شيء كما تركناه في الصباح.
وكثيرا ما كنت أقعد بالترام فأسمع بعض القاعدين أو الواقفين يتحدثون عن الأطباق الطائرة، وعن هبوط الطائرات في الصحراء الغربية، فكان أكثر المستمعين يهزون أكتافهم وهم يقولون: كلام فارغ!
ولكن كان يحدث أن يكون بين المستمعين واحد فيروي أنه قبل أيام كان يسير في الغروب - وكنا وقتئذ في رمضان - وكان الشارع خاليا أو كالخالي في قسم العباسية، فإذا به يتقدم منه شخص طويل بوجه مستطيل، بل مستطيل جدا، وله شعر ذهبي، وحاول أن يكلمه، فغمغم ولم يبن، وتذكر الراوي أن هذا المتكلم مريخي قد استخفى كي يتجسس، فغمرته موجة من الرعب كاد يغمى عليه منها، ولكنه تماسك ، وعدا بأقصى سرعة في الشارع الخالي حتى دخل بيته وهو منهوك مرعوب.
وقال أحد السامعين: أعوذ بالله!
وقال آخر في سخرية: كنت شارب كونياك أو زبيب؟
وأقسم الرجل أنه لم يشرب شيئا.
وعمنا من هذه القصة جمود يشبه الذهول. •••
وسارت بنا الأيام ونحن في قلق من هذه الأخبار، ولكنه كان قلقا معتدلا، لم نأرق منه، وأذكر أن أحد الأمريكيين كتب مقالا أذاعته المحطات الرديوئية، خلاصته أنه على فرض أن المريخيين قد نزلوا واستقر بعض أفرادهم بيننا، يتجسسون، فإن هجوما مريخيا على الأرض لن يؤدي إلى انتصارهم؛ وذلك لأننا نعرف من أسرار الذرة مثلما يعرفون، وأننا نفكر في غزو المريخ قريبا، وسيشغلهم هذا الغزو الأرضي عن غزونا؛ لأننا سنضعهم في مكان الدفاع.
واعتقادي أن هذا الكاتب كان يبغي نشر الطمأنينة، ولكن الواقع أنه زاد القلق؛ لأنه كان هناك عدد كبير من البشر يعتقدون أن الحديث عن المريخيين إنما هو حديث الخرافات والأساطير التي لا تصدق، أما بعد هذا المقال فقد صار هؤلاء من المصدقين المترقبين لأسوأ الأحداث.
وفشت الأمراض النفسية بين الناس، وصارت الهستريا تصيب الرجال والسيدات، والمتقدمين في السن، كما لو كانت أنفلوانزا، وكثيرا ما رأيت أحد القاعدين في مقاهي الأوبرا وشارع فؤاد يهب صارخا وعينه مثبتة في السماء، وكنا نسارع إلى نضحه بالماء حتى يفيق، فإذا أفاق لم يذكر ماذا فعل.
ورأيت أحد الشباب قد وقف في «جروبي» ثم نزع ملابسه كلها، وخرج يعدو وهو عريان يصرخ: التوبة، التوبة، أشهد أني تائب، اصفحوا عنا أيها المريخيون، وكان المسكين قد اختبل عقله من الوسوسة التي لازمته.
والواقع أننا كلنا قد اختبلنا، ولكن بدرجات تتفاوت؛ لأن أخبار الأطباق الطائرة تكاثرت؛ ولأن الحكومات نفسها، وهي تحاول نشر الطمأنينة، كانت تنشر القلق؛ لأن استعداداها الذي كانت تفخر به كان برهانا على أننا على وشك حرب كوكبية قد تكون فيها نهاية العالم. •••
وذات صباح خرجت الجرائد بنبأ مرعب، ولم يكن هذا النبأ سوى إعلان قد كتب بحروف كبيرة في الصفحات الأولى من كل جريدة ، وأنا أنقل نصه لقيمته التاريخية: «نعلن نحن المريخيين السبعة أننا قد هبطنا الأرض بعد دراسة دامت أكثر من عشر سنوات، وأننا قد عرفنا كل كبيرة وصغيرة فيها، وأننا ننوي استغلال هذا الكوكب لخير الأرضيين والمريخيين معا، وهذا بعد أن أيقنا أن الأرضيين قد عجزوا عن استغلال كوكبهم إلا بمقدار واحد في الألف لجهلهم للعلوم، بل إن هذا الاستغلال لم يتجاوز جزءا يسيرا من قشرة الأرض، وليثق الأرضيون أننا سنعمم، بما نعرف من علوم، الخير والرخاء والصحة بينهم، وأنهم سيحمدون لنا تولينا الحكم الذي ستظهر نتائجه بعد شهور.
وكل محاولة لقتل أحد المريخيين أو إيذائه ستؤدي إلى نسف القطر الذي ينتمي إليه، وإحالته إلى صحراء بالقوات الذرية التي نملكها، فليحذر الأرضيون، فإننا لا نريد أن نمحوهم، ولكننا نبغي الاشتراك معهم في استغلال كوكبهم».
قرأنا هذا الإعلان ونحن في رهبة، وإني لأذكر إحساسي في ذلك الصباح، ولا أخجل من أن أقول إنه كان إحساس الراحة بعد القلق، أو الطمأنينة بعد الخوف، حتى ولو كانت طمأنينة الموت.
لا ... لم تعد هناك شائعات أو شكوك؛ فقد رسينا على يقين.
وظهرت الجرائد في طبعات خاصة بعد الظهر، وقرأنا فيها أن المريخيين السبعة يقيمون في طبق طائر على مسافة خمسة كيلو مترات من باريس، وأن الحكومة الفرنسية قد أوفدت إليهم وفدا مؤلفا من أعضاء الوزارة وكبار القضاة الذين قدموا لهم فروض الولاء.
وفي صباح اليوم التالي أعلنت جميع الوزارات في حكومات الأرض استقالاتها وقدمتها بالتلغراف للسبعة المريخيين.
وكان مما يلفت النظر أن السير «ونستون تشرشل» أوضح في خطاب استقالته حاجة بريطانيا إلى المستعمرات، وناشد المريخيين ألا يحرموها مستعمراتها، وكان «مالنكوف» حريصا على أن يقول للسبعة إن النظام الاشتراكي هو بالطبع نظام المريخيين؛ لأنه النظام العادل، وتبرع «أديناور» بجيش ألماني يكون في خدمة المريخيين وينفذ إرادتهم، أما «أيزنهاور» فقد رحب بالمريخيين وقال إن الأمريكيين مستعدون لأن يشتركوا معهم في الأبحاث الذرية للإنتاج الحربي والسلمي معا. •••
وشرع المريخييون يصدرون القوانين؛ فجعلوا للبشر جميعهم قوانين موحدة للزواج والطلاق، وجعلوا التعلم عاما، ثم طلبوا تأليف اللجان لإصلاح الأرض وإخصاب مياه المحيطات.
وألفت أكثر من ثلاث مئة لجنة تولت إلغاء الجيوش والقوات الحربية جميعها، وتحويل ما كان ينفق عليها من ملايين الجنيهات على استزراع الصحاري وإنشاء المصانع واستخدام الذرة في الإنتاج المدني وبناء المنازل وزيادة المحاصيل الزراعية، وكانت هذه اللجان هي الحكومات الحقيقية في أقطار العالم. •••
ولم يحس الناس باختلاف كبير بين حكوماتهم القديمة وبين الحكومات الجديدة، إلا من حيث تعميم الرفاهية وزيادة مستوى المعايش؛ فإن المريخيين عندما أمروا بإلغاء القوات الحربية أفرجوا عن مقادير عظيمة من الثروة استخدمت في زيادة الرخاء، حتى لقد قدر دخل الفرد؛ أي فرد في أي مكان في هذا العالم، بنحو ألف جنيه في السنة، وأخذت المنفعة في اقتصاديات البشر مكان الأبهة، وأصبحت المرأة تلبس ملابس الرجال وتؤدي أعمال الرجال سواء.
وابتدع المريخيون شيئين لم يكن لنا بهما عهد:
أولا:
تعميم اللغة الإنجليزية لجميع البشر وإهمال سائر اللغات.
وثانيا:
إيجاد نوع من الزواج يقوم على الامتحان والكفاءة الذهنية؛ بحيث لم يكن يجاز للمتزوجين أن يعقبوا إلا إذا كان متوسط ذكائهم يزيد على درجة 100، وهي درجة المتوسطين، أما غيرهم فكان لهم الحق في الزواج ولكن مع حرمانهم حق التناسل.
وأصبحت الدنيا كلها قطرا واحدا وشعبا واحدا، ولم تعد هناك أية أمة تتعصب للونها الأبيض ضد الزنوج، كما لم تعد هناك فواصل بين قطر وقطر، وخضع جميع البشر لأوامر السبعة الكبار، عن خوف منهم في البداية، ولكن عن حب لهم بعد ذلك، حين أيقنوا أن الحروب قد انتهت، وأنه لم يعد هناك استعمار أو استغلال أمة كبيرة لأمة صغيرة.
ولم تلغ الحكومات السابقة إلغاء تاما، ولكنها استحالت إلى مجالس إقليمية أو بلدية مفخمة، تكاد تقتصر مهمتها على بناء المنازل واستزراع الأرض البور وتعميم التعليم وإنشاء المسارح والمتاحف ... إلخ.
أما أعمال الحكومة العالمية في أيدي السبعة الكبار، فكانت تتسم بسمة عالمية، مثل زيادة الأسماك في المحيطات والأنهار، وتيسير الحصول على المواد الخام لجميع الشعوب بلا تمييز، وإيجاد مجار جديدة للأنهار، ونحو ذلك. •••
وأصبح السبعة الكبار أسطورة تلتف حولها الشائعات، ولم يكن واحد منهم يختلط بالناس، وكانت إقامتهم دائمة في بقعة تقرب من باريس يحرسها جنود من البشر، وكان القصر الذي يقيمون فيه رحبا متعدد الغرف، للموظفين البشريين الذين يتسلمون أوامرهم ويبلغونها للمختصين للتنفيذ، وكنا نسمي هذا القصر «الحرم المريخي».
وحدث أن أقيم معرض للجمال دعيت إليه أجمل فتيات العالم، وكان من أغرب ما عرف، مع محاولة الكتمان للخبر، أن السبعة الكبار اختاروا سبعا من هؤلاء الفتيات، وقيل أنهن حملن منهن وظهرت سلالة خلاسية مهجنة من المريخيين والأرضيين، ولكن لم ير أحد هؤلاء الأطفال.
وكانت الشائعات تترى؛ فقد قيل إن بعض المريخيين كان يسافر إلى المريخ ويعود بتعليمات جديدة لسياسة الأرض، ولكن الذي كنا نخشاه جميعا، وهو استيلاء المريخيين على أرضنا، لم يحدث، بل لم نر مهاجرين بتاتا من المريخ.
وتقدم بعض منا إلى السبعة الكبار يطلبون السفر إلى المريخ، ولكن هذا العرض لم يقبل، وفهمنا أن المريخيين يريدون إصلاح أرضنا وإلغاء الفروق المذهبية التي فرقتنا، وتعميم المساواة الاقتصادية، وإلغاء الجيوش، حتى لا تكون حرب في المستقبل، ويجب أن أعترف بأنهم نجحوا في كل ذلك؛ فلم يعد على وجه الأرض بارجة أو مدفع أو طائرة حربية أو قنبلة أو صاروخ ذري أو غير ذري، وعممت قواعد صحية في تحديد التناسل أطاعها الجميع؛ لأنهم وجدوا منفعتها لهم.
وعم استخدام الذرة، فصرنا نضيء بها المدن، وندير بها المصانع، ونشق بها الجبال، ونزرع بها الصحاري، وننزل بها الأمطار، وقد استطاعت الهند أن تغير مناخها بأن شقت جبال «هملايا» التي كانت تنتصب حاجزا بينها وبين الرياح القطبية، وانخفضت بذلك حرارة الهند، وفتحت جملة فتحات على الشاطئ بين مصر وطرابلس، فدخلت مياه البحر المتوسط إلى المنخفضات في الصحاري وغيرت المناخ، حتى صار معتدلا بعد أن كان محرقا، وأنشئت السدود على النيل حتى لم تكن قطرة واحدة من مياهه تضيع سدى في البحر المتوسط.
وعاش الناس فيما كانوا يسمونه سعادة.
ثم حدثت الكارثة؛ فقد انفجرت الأسطورة : فإن الفتيات الجميلات اللائي اختارهن السبعة الكبار، وتزوجوهن، لم يطقن البقاء منعزلات في الحرم المريخي، وكنا نسمع شائعات عن أن الخلاف قد تفاقم بين واحد من السبعة الكبار وبين زوجته، ولكننا لم نكن على يقين.
وذات صباح خرجت علينا الجرائد بنبأ لا يقل خطورته عن ذلك النبأ الذي كانت قد أخرجت به علينا قبل تسع سنوات بشأن نزول المريخيين على الأرض واستيلائهم على مقاليد الحكم، أما النبأ الجديد فهو أن السيدة «ماريان» قد فرت من الحرم المريخي، وأذاعت أن هؤلاء المريخيين كاذبون في دعواهم بأنهم من المريخ؛ إذ هم بشر مثلنا، وأنهم ادعوا دعوى المريخية عقب تفشي الشائعات بشأن الأطباق الطائرة، فاستغلوا هذه الشائعات، وزعموا أنهم مريخيون، وألفوا مجلسا لحكم العالم، ونجحوا في هذا الزعم، وصدقهم الناس، وخضعوا لهم.
ثم ذكرت الأسباب التي دعتها إلى الفرار، وهي سبب واحد، هو أن زوجها المريخي الكاذب قد هجرها والتفت التفاتا غير معتدل إلى زوجة آخر من السبعة الكبار، وحاولت «ماريان» أن ترد إليه صوابه فلم تفلح، وأخيرا لم تتحمل الغيرة ففرت.
وعقب فرارها فر السبعة الكبار أيضا، ولم يعثر لهم على أثر؛ لأنهم خشوا هجوم الباريسيين عليهم.
ولكن مع زوال السبعة الكبار لم تزل تلك الإصلاحات التي حققوها للعالم في السنوات التسع، فلم تحدث ثورة أو ردة، ولم يدع أحد إلى العودة إلى ما كنا عليه، وأصبح العالم أمة واحدة بفضل هذه الأكذوبة الكبرى التي كذبها علينا «السبعة الكبار».
الفصل الثالث والعشرون
هجرتنا إلى القمر
... وكان المفروض أن ننقل إلى القمر رجالا ونساء وصبيانا مع أكبر عدد ممكن من الحيوانات والنباتات النافعة.
نحن في سنة 1983، لقد نسيت ما كنا عليه في سنة 1950، لقد ماتت هيئة الأمم بالهزال؛ لأن معظم الأعضاء تركوها، فلم يكن باقيا فيها غير ثلاث دول هي الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا.
وكانت الحروب تقع من وقت لآخر بين الهند والصين، أو إيران وبريطانيا، أو إيطاليا ويوغوسلافيا، فلا تحدث أي تأثير بين قراء الصحف لأنهم ألفوها.
ولكن على الرغم من كوارث الحروب ومذابح الاضطهادات، كان هناك إحساس عام بأن كوكب الأرض لم يعد يكفي سكانه، وأن هذا الضيق هو الباعث الحقيقي للحروب التي تنشأ من وقت لآخر بين الأمم.
وشرعت مشروعات زراعية جديدة في أنحاء مختلفة من العالم؛ مثل الصحاري، ولكنها كانت بطيئة لم تكف الزيادة في السكان، كما طلب إلى الأمم المتخلفة أن تحدد مقدار مواليدها، ولكن هذا الطلب لم يلق مجيبا.
وكان العالم مشحونا بآلات الحرب؛ أسلحة وأعتدة، وكانت عقلية الحرب تسود أمما كبرى، فكان الجميع في خوف.
وأخيرا استقر رأي الأمم الباقية في هيئة الأمم على مشروع غزو القمر، وكانت الفكرة الأولى استعماره، ونقل ما يزيد من سكان الأرض إليه، وكانت الفكرة الثانية الاحتياطية، أنه إذا فشل الاستعمار فعلى الأقل ستجد الأمم الكبرى أنها استنفدت ذخيرتها الحربية في إرسال القذائف إلى القمر، فلا تبقى هذه الذخيرة مادة التهابية مخزونة تبعث على الحرب، وقد تقضي على الحضارة، وقد ينقرض الإنسان.
وشرعت الدول الثلاث؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا، في تهيئة القذائف إلى القمر، وكان المفروض أن تحمل هذه القذائف ناسا وحيوانا ومواد أخرى؛ كالطعام والماء والأكسيجين وبعض الآلات.
وشرع العلماء يكتبون عن القمر، وكان الرأي الذي انتهوا إليه هو أن القمر جزء من الأرض، وأنه نزع من فجوة في المحيط الهادي، وموارده هي موارد الأرض، وكان المفروض أنه ليس به هواء يمكن للإنسان أن يتنفسه، ولكن العلماء الذين بحثوا عناصر القمر قالوا إن الأحجار التي فيه تحوي عنصر الأكسيجين، فإذا نقلنا معنا آلات تفرز العناصر والغازات، استطعنا أن نستخرج من القمر جميع العناصر التي بالأرض من غاز إلى سائل إلى جامد، بل استطعنا أيضا أن نصنع الماء؛ إذ هو مركب من الأكسيجين والأيدروجين، وكلاهما يوجد في القمر مختلطا بمواد أخرى.
وكان المفروض أيضا أن ننقل إلى القمر رجالا ونساء وصبيانا مع أكبر عدد ممكن من الحيوانات والنباتات النافعة، وعلى هذا الأساس اختير عدد كبير من المتطوعين من أمم مختلفة.
وكنت أنا أحد هؤلاء، وكان على القذيفة أن تخرج بسرعة كبيرة جدا من منطقة الجاذبية الأرضية، ثم بعد ذلك تسير وحدها بقوة الاندفاع الأول نحو القمر، وكان حسابنا أن سياحتنا لن تزيد على تسعة أيام، وكل ما كنا نخشاه هو أن القذيفة التي ستحتوينا قد تنفجر عند انطلاقها وتذرونا هباء قبل أن نخرج من الأرض.
ولكن لم يحدث هذا؛ ففي صباح 7 نوفمبر من عام 1984، خرجت من الأرض عشرون قذيفة من أنحاء مختلفة، وصلت جميعها سالمة إلى أنحاء مختلفة من القمر، وشرعت كل جماعة تعمل على دراسة البقعة التي نزلت فيها، وتتصل بسائر الجماعات للاستنارة والاستعانة، وكانت المكالمات الرديوئية لا تنقطع بينها والتفاهم تام. •••
والآن أصف للقارئ كيف انقذفنا من الأرض نحو القمر؛ فقد صنعت لنا أنبوبة من مركبات معدنية خفيفة، ولكنها متينة، وكان قطرها نحو سبعة أمتار، أما طولها فكان لا يقل عن ثلاثين مترا، وكانت غرفا منفصلة؛ كان بعضها لرصد الكواكب والنجوم، وبعضها للحيوانات وبذور النباتات، وبعضها للأطعمة والعقاقير، وبعضها للراحلين إلى القمر، وكان جزء كبير من هذه الأنبوبة مخزنا للآلات والأدوات التي يمكن الانتفاع بها في العودة إلى الأرض.
وقد صنع للأنبوبة مخزن أرضي حشي بالمواد الانفجارية، وأطلقت بمقاييس دقيقة، وأحسسنا بهزة عنيفة عند انفصالنا من الأرض واندفاعنا في الفضاء، وبعد ثلاث ثوان أطلق صاروخ من خلف الأنبوبة، ثم صار يطلق صاروخ كل ثانيتين، وبقينا على ذلك نحو أربع ساعات كنا قد قطعنا فيها مسافة بعيدة من الأرض، ودخلنا، أو أوشكنا على أن ندخل منطقة الفضاء التي تضعف فيها جاذبية الأرض، وبعد أقل من يومين صرنا نحس أننا نسير في الفضاء بلا جاذبية؛ فلم تكن الأرض، وكذلك لم يكن القمر، يجاذباننا، ولكن اتجاهنا كان يسير نحو القمر بقوة الاندفاع الأول ... وكنا ننظر إلى الأرض، فكانت تبدو لنا كما لو كانت قمرا يزيد مساحة وضوءا نحو عشرة أضعاف القمر الذي كنا نسير نحوه.
وهنا حدثت مأساة ما زلت أذكرها؛ فقد كنا قد حملنا معنا الكثير من الحيوانات، وكانت عندنا شاة وكلبة تأثرتا بالصدمة الأولى عند اندفاعنا من الأرض، وكانت كلتاهما تقيء ولا تأكل، ثم ماتتا.
وخشينا أن تتعفنا، ووكل إلي إخراجهما من الأنبوبة، وكانت لها أبواب كثيرة، ورأيت أن أقذف بهما في اتجاه ينحرف عن سيرنا؛ حتى لا تسيرا معنا في اتجاهنا نحو القمر، وكانت الغرف تحتوي حواجز عديدة كان علينا أن نقفلها واحدا بعد آخر حتى لا يتسرب الهواء إلى الفضاء، وما زلت أجرهما حتى انتهيت إلى آخر غرفة وقذفت بهما بأقصى ما يستطيعه ذراعي من الدفع.
ورأيت عندئذ منظرا لن أنساه؛ فإن الشاة والكلبة اندفعتا في الفضاء، وكانت الشاة تسير وخلفها الكلبة وكأنهما تسبحان، وكان الفضاء خواء، فأقفلت الباب الزجاجي وبقيت أرقبهما وأنا في فتنة بهذا المنظر، وجعلت أتأملهما وأفكر أن هاتين المسكينتين ستجوبان الفضاء وهما على هذه الحال مليون سنة، ألف مليون سنة، وليس هناك ما يعوقهما، ولن تتعفنا، ولن يحيق بهما بلى أو فناء؛ إذ لا يمكن أن يحيا الميكروب فيهما؛ لأنه يحتاج إلى الهواء، كما لا يمكن التفاعل العضوي الداخلي أن يفكك أجزاءهما.
وقد مضى على هذا الحادث أكثر من سنتين، وما زلت أحس عندما أذكر أن الشاة والكلبة تسبحان في الفضاء الأبدي، كما لو كانت سكين تقطع رأسي، أو أحيانا أستيقظ من النوم فزعا من الرؤيا، وأحيانا أجدني أقول لنفسي:
وماذا علينا إن كنا أبقيناهما ثم دفناهما في أرض القمر كما هو حق الموتى؟ إنهما في الفضاء الآن وسيكونان في الفضاء بعد ألف مليون سنة، إلى الأبد، إلى الأبد، يدوران مع الكواكب ويسيران مع المجرات. •••
وقبل أن نصل إلى القمر بنحو ساعتين جهزنا الآلات التي نحتاج إليها للخروج من الأنبوبة وللهبوط بها سالمين على أرض القمر، وكان كل منا في شكة تشبه شكة الغطاسين، وكان داخل الشكة مخزن صغير للأكسيجين وبعض الغازات الأخرى.
وأمضينا الساعات الأخيرة قبل وصولنا إلى القمر ونحن نتأمله، وكان صحاري قاحلة، وهوات تشبه فوهات البراكين، وحولها جبال عمودية كأنها أسوار مبنية.
وصادف هبوطنا النهار، فلم نخرج؛ لأن الشمس كانت تضرب أرض القمر وترفع الحرارة فيه إلى درجة غليان الماء على الأرض، وانتظرنا إلى قرابة الغروب، فخرجنا وجولنا فيه قليلا، ثم عدنا عندما أمسينا؛ لأن درجة الحرارة نزلت إلى الصفر، بل تحت الصفر بكثير.
وكنا - بالطبع - نعرف كل هذا، وكنا ننتظره قبل الوصول إلى القمر؛ ولذلك أعددنا مساكن من الزجاج الطري، وكانت الجدران طبقات لا تنفذ منها حرارة الشمس في النهار، كما لا تتسرب حرارة المسكن إلى الخارج في الليل.
وكنا قرابة أربع مئة من الرجال والنساء، وشرعنا منذ وصولنا في رصد الأجواء القمرية، وفي البحث عن الماء، وغازات الأكسيجين والأيدروجين، والنباتات والحيوانات.
وقد خابت آمالنا، أو بالأحرى لم نجد ما كنا نحلم به، ولكن لم يكن فينا واحد من الأربعمائة غير متخصص في عمل كيميائي أو بيولوجي أو معدني أو صناعي؛ ولذلك شرعنا نستخلص الغازات الحيوية من صخور القمر، ونبني بيوتا للنبات والحيوان ونصنع الماء، واستطعنا أن نجد - قبل أن يمر علينا عام - فجوات وتخاريب في الأسوار والجبال لا تحرقها الشمس، بل وجدنا فيها عددا غير صغير من النباتات والحيوانات البدائية، فصرنا نأكل منها ونستنتجها بأساليبنا الأرضية العلمية.
وشيدنا بيوتا كبيرة للسكنى، تعددت جدرانها وسقوفها، ووضعنا فيها هواء يتفق وحاجاتنا في التنفس، فلم تكن حرارة النهار أو برودة الليل تؤثر فيها.
وبالطبع هناك من كانوا يعتقدون أن بلوغ الحرارة في النهار إلى درجة 100 فوق الصفر، وفي الليل إلى نحو 100 تحت الصفر، كانوا يعتقدون أن هذه الحال لا تطاق، ولا يمكن للإنسان الأرضي أن يتغلب عليها، ولكن الواقع أن هذا الاختلاف كان مصدر القوة لنا ونحن في القمر.
ألا تعرف أن مصانعنا وسياراتنا وقطاراتنا وطائراتنا على الأرض إنما تعمل كلها باختلاف الحرارة داخل القاطرة أو الموطر أو الآلة البخارية وخارجها؟
كنا على القمر نجمع حرارة الشمس ونسلطها على السوائل أو الغازات التي نجمعها فتتمدد داخل خزانات قوية الجدارن، وكانت تبقى مضغوطة، فإذا كان الليل وهبط الترمومتر من 100 فوق الصفر إلى 100 تحت الصفر أطلقنا الغازات فأدرنا بها آلاتنا وولدنا بها القوة الكهربائية للإضاءة والإدارة وإيجاد الحرارة الملائمة لحياتنا وحياة النبات والحيوان .
كانت الشمس فحمنا وبترولنا في النهار، وكنا نجد فيها كنزا لا يفنى في إيجاد القوة والتدفئة في الليل، وأصبح عندنا العديد من المصانع، ولكن أكثرها كان يتخصص في صنع الآلات وبناء البيوت.
وكنا بالطبع نحيا حياة اشتراكية؛ فلم يكن لدينا ونحن أربع مئة شخص أكثر من عشرة بيوت، وقد نجحنا في زراعة جميع الحبوب الغذائية التي كنا نزرعها على الأرض، وذلك بإيجاد المباني من طبقات الزجاج التي تحمي النباتات من حرارة الشمس، وتمنع تسرب الهواء منها في الوقت نفسه، فينمو النبات والحيوان فيها نموا سريعا عظيما.
وحدثت حوادث دلت على أنه لا يزال بيننا صغار من الرجال لم ينضجوا، ولم يعرفوا دلالة غزو الإنسان للقمر، فمن ذلك أن أحد الإنجليز عندما هبط القمر أخرج راية إنجليزية وغرزها وقال: - هذا ملك بريطانيا.
وفعل مثله فرنسي، وفعل مثله ألماني.
وكان العقلاء يضحكون من هذه السخافات، ولكن الواقع أن هذه الرايات قسمتنا طوائف كما كنا على الأرض، وحدثت حرب صغيرة انتهت بأن القمر للقمريين وحدهم، وأن اللغة العامة هي الإنجليزية، وشرعنا ندرس كيف نؤسس مجتمعا جديدا بقوانين جديدة عن الزواج والطلاق وتربية الأبناء ونظام الحكم، وكانت المناقشات تحتد بيننا، وكان أسوأ ما فيها أن بعضنا كان يريد أن ينقل الحزازات الاجتماعية والعنصرية والدينية إلى القمر، حتى لقد حدث ما يشبه الحرب الدينية.
ولكن العقلاء تغلبوا في النهاية، ومنعوا دراسة التاريخ الأرضي لمدة عشر سنوات؛ حتى ينسى القمريون أصول شحنائهم على الأرض.
وكان أحسن الأوقات في القمر تلك الليالي التي كان يسطع فيها نور الأرض علينا بقوة كبيرة جدا بحيث كان يستحيل الليل نهارا، ولكن بلا شمس، فكان يخرج كل منا في شكته التي تشبه بذلة الغواص على الأرض ونتنزه ونلعب.
ومع أن هذه الشكة التي كان يلبسها كل منا لم يكن يقل وزنها على الأرض عن مئة رطل، فإننا لم نكن نحس بثقلها؛ لأن الثقل هو في النهاية جاذبية، وجاذبية القمر صغيرة جدا، بل إننا لو كان في استطاعتنا أن نسير على القمر دون أن تثقلنا هذه الشكة لكانت خطواتنا وثبات نرتفع بها عشرة أمتار في الهواء وننزل ثانيا.
وكان اتصالنا الرديوئي بالأرض على أحسن ما يكون، وكنا نستمع إلى الإذاعات والأغاني، ونحس أن مشكلات الأرض لم تعد مشكلاتنا؛ ولذلك أقمنا محطة إذاعية خاصة لنا، وكان مستواها الثقافي عاليا؛ لأننا كلنا كنا من المتخصصين في العلوم.
وشرع بعضنا، بعد أقل من سنتين، يبحث موضوع الاستعداد لغزو الكواكب القريبة التي كنا نرصدها من القمر بأفضل وأدق مما كنا نرصدها ونحن على الأرض؛ وذلك لأن طبقة الهواء التي تكسو الأرض ليس لها ما يضارعها على القمر، والرؤية التلسكوبية - لهذا السبب - واضحة كل الوضوح. •••
وقد عدنا إلى الأرض ونحن عشرون في سنة 1987 بحسب تاريخ الأرض، (وسنة 3 بحسب تاريخ القمر)؛ كي نشرح للأرضيين أحوال القمريين وندعوهم إلى الهجرة إلى القمر.
وقد مضى علي وأنا بالأرض نحو ستة شهور، وشوقي إلى القمر لا يعدله شوق؛ إذ هو خلو من هذه الخلافات الأنانية الصغيرة التي تشغل الأرضيين، ولكن شيئا واحدا يؤلمني، هو هذه الشاة والكلبة خلفها، تسيران في الفضاء إلى الأبد، إلى الأبد.
Unknown page