من هي عمة هذه المرأة يا ترى؟ وما معنى هذه الحياة السرية المستترة وراء أعمال البر والإحسان؟
أفلا تكون هذه المرأة وعمتها من مشعوذات المجتمع تتوسلان إلى اكتساب المقام السامي بهذا البيت الصغير، والتظاهر بالوداعة والحكمة؟ إنني ولا ريب قد علقت في شرك غاوية وأنا مغمض العينين أحسب أن في قلبها حبا وهياما. فما علي أن أفعل الآن وليس أمامي سوى هذا الكاهن الذي يتذرع بالإبهام تجاهي، وإذا أنا لجأت إلى عمه فلا بد أن يكون أشد تكتما منه؟
من سينقذني من هذه الورطة؟ من سيمزق ستار الريب فتنجلي الحقيقة لعيني؟
بهذا كانت تخاطبني غيرتي، فتنسيني كل ما ذرفت من دموع، وما تحملت من أوصاب، فأصبحت وما مر يومان بعد على استسلام بريجيت لي أضطرب لتوصلي إلى التمتع بها. وما كنت في هذا إلا كسائر المتشككين، أضرب صفحا عن العواطف والأفكار لأصارع الوقائع نفسها، مقدما على تشريح من أهوى كأنها جثة لا روح فيها.
وكانت تجول هذه الأفكار في دماغي ورجلاي تقودانني إلى مسكن بريجيت، ولما اجتزت الحاجز الحديدي لاح لي نور من نافذة المطبخ، وخطر لي أن أستجوب الخادمة، فاتجهت نحوها وأنا أتلمس بعض القطع الفضية في جيبي، غير أنني ما وصلت إلى العتبة حتى وقفت واجما - وكانت هذه الخادمة امرأة مسنة، ناحلة، حفر العمر في وجهها أثلاما، وأصبح ظهرها مقوسا لفرط ما انحنى - ونظرت إليها فإذا هي تعمل في غسل الأواني على مصب قذر، وفي يدها شمعة ترتجف أشعتها، وحولها أوعية الطبخ والصحون، وبقايا طعام يحدجه كلب دخل ورائي متجسسا خجولا. وكانت تفوح من الجدران الرطبة رائحة تعفن تملأ المكان، وما لمحت الخادمة وجودي حتى ابتسمت ابتسامة معنوية؛ لأنها كانت رأتني منسلا من غرفة معلمتها عند الفجر، فارتعشت والاشمئزاز يملأ نفسي مما أتيت أطلب في هذا المكان من أمر يشبه حقارته، فوليت الأدبار هاربا من هذه المرأة ومن غيرتي، كأن الروائح الكريهة المنتشرة هنالك خارجة من قلبي.
وكانت بريجيت أمام النافذة تسقي أزهارها وبقربها طفل إحدى جاراتها جالسا بين المساند اللينة، وقد أمسك بكمها وهو يسرد لها حديثا طويلا لا يفهم وفمه محشو بالحلوى، فتقدمت وقبلت الطفل على خديه كأنني أستعيد لنفسي بعض الطهارة منهما.
فاستقبلتني بريجيت بشيء من الحذر؛ لأنها رأت شخصها منطبعا في عيني وقد غشيتها الشكوك، وكنت من جهتي أحاذر أن ألتقي بنظراتها؛ لأنني كنت كلما أمعنت في جمالها ومظاهر إخلاصها أذهب إلى القول بأن: هذه المرأة شيطان رجيم إذا هي لم تكن ملكا كريما. وكنت أستعيد في ذهني كلمات مركانسون لأقابل بينها وبين ملامح عشيقتي وإشراق وجهها الرائع، فأقول في نفسي: «إنها لبديعة الحسن، ولكنها جد خطرة إذا هي أتقنت المخاتلة، ولسوف تجد خصما عنيدا يقاتلها بمثل سلاحها.»
وبعد أن صمت طويلا قلت لها: قبل أن أجيء إليك تلقيت كتابا من صديق يسألني نصيحة في أمره، وهو شاب ساذج يقول: إنه اكتشف أن المرأة التي تستسلم له تستسلم أيضا لعاشق آخر. - وبماذا أجبته؟ - ألقيت عليه سؤالين؛ وهما: أهي جميلة؟ وهل أنت تحبها؟ فإن كنت عاشقا لها فاتركها، وإن كانت جميلة ولست ولوعا بها؛ فاحتفظ بها وتمتع بجمالها، ولك أن تسرحها حين تشاء؛ إذ ما الفرق بينها وبين سواها؟
وما سمعت بريجيت كلماتي حتى ابتعدت عن الطفل، ومشت أمامي إلى الغرفة وجلست على مقعد لا تصل إليه أشعة القمر، وكنت أنا أشعر بشدة ما ألقيت من كلمات وقد امتلأ فؤادي مرارة من معانيها القاسية.
وذعر الطفل فبدأ ينادي بريجيت وينظر إليها من بعيد بعين ملؤها الحزن، وما لبث حتى سكت عن مناغاته واستغرق في النوم على مقعده ، وهكذا حكمنا الصمت نحن الثلاثة، ومرت غمامة على القمر حجبت أنواره.
Unknown page