إنها لكلمات لا يتفوه بها إلا القلائل ممن مشوا في الحياة حيث مشى هذا الرجل، فهم يحفظونها في قلوبهم، وأنا أيضا لا أجد سواها في صميم فؤادي.
وبعد أن عدت إلى باريس في أول الخريف بدأت حياة الشتاء مندفعا إلى الملاهي والمآدب والمراقص، فما كنت أفترق عن ديجنه إلا نادرا، وكان هو يبدي مزيد ارتياحه إلي، وما كنت أنا مرتاحا إلى نفسي؛ لأنني كنت كلما توغلت في هذه الحياة تتزايد همومي، فما طال بي الأمر حتى بدأ هذا العالم الذي حسبته لأول وهلة واسع الأرجاء يضيق بي في كل خطوة، فكنت كلما لامست شبحا من أشباحه يضمحل ويتوارى أمامي.
وكان ديجنه يستفسرني عن حالي فأقول له: وأنت مالك أيها الصديق؟ لعلك تتذكر قريبا بارحك إلى القبور، أم أن في صدرك جراحا نكأتها رطوبة الشتاء ؟
وكنت أراه أحيانا يتظاهر بعدم سماع ما أقوله، فكنا نهرع إلى الموائد ونشرب حتى نفقد الشعور، أو نستأجر فرسين وننطلق إلى الحقول قاطعين عشر مراحل لنتناول طعامنا هنالك، ثم نعود لنستحم ثم نتناول العشاء، ثم نتراكض إلى موائد القمار، ثم ننسحب إلى أسرتنا، وما كنت أصل إلى سريري وأوصد الباب علي حتى أنطرح جاثيا أذرف الدموع. وتلك كانت صلاتي في كل مساء.
ومن غرائب حالتي أنني كنت أشعر بشيء من الغرور عندما كنت أتمكن من الظهور على غير الحقيقة التي أعهدها في نفسي، فكنت أباهي بالإغراق في وصف شروري، وأجد لذة شاذة يشوبها الحزن العميق. وما كنت أشعر إلا بالملال عندما كنت أسرد حوادثي على حقيقتها، وما أدري كيف أصف هذه اللذة التي كنت أستغرق فيها عندما كنت أقص وقائع جنون وفحشاء لا حقيقة لها.
وما كنت أتألم لشيء تألمي لاضطراري إلى ارتياد الأماكن التي كنت أرافق خليلتي إليها فيما مضى، فكنت أظهر كالمعتوه أمام رفاقي، وأذهب إلى مكان منفرد لأحدق في أصول الأشجار ونبات الأرض، حتى إذا مللت تأملي ضربتها برجلي وحاولت تحطيمها، ثم أعود إلى حيث أتيت وأنا أتمتم قولي المألوف: «إن الله لا يحبني.» وكانت تنتهي هذه النوب بي إلى سكوت يطول مدى ساعات.
واحتلت دماغي فكرة ملكت جوانبي، وهي أن لا حقيقة إلا في العري، فكنت أقول: إن العالم يسمي أصباغه وأدهانه فضيلة، ويدعو سبحته دينا، وأثوابه أدبا ولياقة، وما الشرف والأخلاق إلا وسائل لقضاء حاجته، فالعالم لا يشرب خمرته إلا من دموع المساكين الذين يؤمنون به؛ فهو يمشي مطرقا ما دامت الشمس تتكبد السماء، فيذهب إلى الكنائس والمراقص والمجتمعات، وعندما ينسدل ستر الظلام يسقط عنه دثاره، فإذا هو مومس تتخطر على مثل قوائم التيوس ...
ولكنني كنت أحتقر نفسي بهذا القول؛ إذ كنت أشعر أن تحت هذا الجسد الذي تستره الأثواب هيكلا من عظام، فكنت أرتعش وأسأل نفسي ما إذا كان هذا كل الوجود.
وكنت أعود إلى المدينة، فأصادف في طريقي فتاة تمسك بيد أمها وتسير معها، فأتبعها بأنظاري متنهدا، وأشعر أنني رجعت إلى الأيام التي كنت فيها طفلا.
وبالرغم من أنني كنت أتبع دقة النظام الذي قررته أنا وأصدقائي في حياتنا المشوشة، فما كنت أهمل الذهاب إلى بعض المجتمعات العائلية؛ حيث كنت أشعر باضطراب شديد عندما أنظر إلى أية سيدة، فما كنت ألمس أيدي النساء إلا مرتعشا بعد أن صممت على هجر الحب إلى الأبد.
Unknown page