وشعرت بعجزي عن بيان ما كان يدور في خلدي: أصحيح أن تلك المرأة التي تربعت صنما معبودا في صميم فؤادي، والتي ذقت من هجرها الأمرين، تلك المرأة التي حصرت فيها كل هيامي، وأردت أن أبكيها ما دمت حيا، قد استحالت ما بين ليلة وضحاها فاحشة تلوك اسمها ألسنة الشبان، مهتوكة تعلن بنفسها فضائحها على ملأ الأشهاد؟
وكنت وأنا أستعرض هذه الأمور بذهني أحس كأن كاويا يطبع على كتفي علامة العار، وكلما استغرقت في التفكير كانت تتكاثف الظلمات حولي، فأدير رأسي عن جلسائي وأنا شاعر بابتساماتهم ولحاظهم تنصب علي لاستجلاء سريرتي.
وكان ديجنه يتبع حركاتي وسكناتي وهو لا يجهل إلى أين يتجه بما يفعل؛ لأنه كان يعرفني ويعرف أنني أقدم على كل أمر، وأتجاوز كل حد بما في من اندفاع، إلا حدا واحدا، وهو الشرف؛ لذلك كان يقصد أن يصم الآمي بالعار مستعينا على عواطفي بتفكيري.
ولما رأى أنني وصلت إلى الحد الذي يريد صوب آخر سهم من جعبته إلي فقال: أفما أعجبتك هذه القصة؟ إليك الآن بآخر فصل منها، وهو مسك الختام: فاعلم، يا عزيزي أوكتاف، أن العراك بين عاشقي خليلتك القديمة إنما وقع في ليلة مقمرة، وبينما كان كل منهما يهدد الآخر بقطع عنقه، لاح في الشارع خيال يتمشى على مهل، وقد عرف أن هذا الشبح لم يكن سواك أنت ...
وصحت به: ومن قال هذا؟ من رآني في الشارع؟ أنا ...؟
فقال: هي خليلتك بعينها التي رأتك ... وهي نفسها أخبرت بذلك وهي تضحك وتؤكد للناس أنك لم تزل هائما بها، وتقضي الليل كالعسس أمام بابها. أفلا يكفيك أن تعلم أنها تعلن هذه الأمور على ملأ الأشهاد؟
ما تمكنت يوما أن أكذب في حياتي، وفي كل مرة حاولت أن أموه الحقيقة كان يفضحني وجهي، ولكنني هذه المرة شعرت بتسلط الخجل علي من إعلان ضعفي، فقلت في نفسي: «ما كنت لأقف أمام بابها لو أنني عرفت أنها تدهورت إلى هذا الحد.» واجتهدت أن أقنع ذاتي بأنه لم يكن بإمكان أحد أن يراني ويعرفني، فحاولت إنكار الواقع، ولكن الاحمرار علا جبيني فاضحا أمري، وحدق ديجنه بي وهو يبتسم فصحت به: حذار، يا هذا؛ فإنك تتجاوز الحد.
وذهبت في الغرفة أذرعها طولا وعرضا كمن فقد صوابه، وحاولت أن أضحك فعصاني الضحك، وأخيرا وجدت نفسي تجاه ستر مهتوك فقلت: وهل كنت أعلم أن هذه الشقية ...
فانقبضت شفتا ديجنه كأنه يصر على قوله: أفما كان يكفيك ما عرفت؟
وجمت وكان الدم - وقد انقبضت عليه عروقي ربع ساعة - يتصاعد إلى صدغي نابضا فيهما، فبدأت أكرر القول وأنا لا أعي: أبينما كنت في الشارع غارقا بدموعي، كان العراك قائما بين العاشقين؟ أفي تلك الليلة جرى هذا؟ وقد هزأت بي! لقد سخرت بي! هي؟
Unknown page