الجزء الثاني
الفصل الأول
وعندما صحوت في اليوم التالي رأيتني بلغت من الانحطاط والدناءة ما جعلني كارها لنفسي، فاستهوتني فجأة فكرة مروعة دفعتني من فراشي فهببت وأنا أصيح بالمخلوقة التي قضيت معها ليلي قائلا لها: ارتدي أثوابك واخرجي حالا من هذا المكان.
وجلست أحدق بالجدران حتى بصرت بأسلحتي المعلقة على الزاوية.
عندما تترامى فكرة متألمة إلى أحضان الفناء، فتقدم الروح على الكبائر تشعرها الحركة الآلية للتنفيذ بشيء من الرهبة يصطدم بالإرادة فيزعزعها، ومن يهاجم الانتحار يقبض الذعر على أنامله، وتتقلص عضلات يده عندما يحس بصقيع الحديد، وما أقدم إنسان نحو الموت إلا وأحس بإحجام الطبيعة عن مجاراته.
يصعب علي الآن إيضاح ما كنت أشعر به وأنا أنتظر فراغ الصبية من ارتداء أثوابها، وكل ما يمكن لبياني أن يؤديه، هو أنني كنت أسمع القاذف الناري يقول لي: عد إلى رشدك لإدراك ما أنت فاعل.
ولقد فكرت مرارا فيما كان سيقع لي لو أن الفتاة أسرعت بمغادرة الغرفة كما أمرتها. لا ريب في أنني كنت سأجد سكوني بعد ثورة الخجل التي ساورتني ، فإن الحزن شيء واليأس شيء آخر، ولكن الله قد جمع بينهما كيلا يتسلط أحدهما منفردا دون رفيقه على النفس المروعة؛ فقد كان يكفي أن تخلو غرفتي من هذه المرأة ليضعف يأسي ويقوي حزني بالندم، وللندامة ملاكها المانع الغفران عمن يقتلون النفوس، ولو جرت الحوادث على هذا الوجه لكنت وجدت الشفاء، وأوصدت بابي دون كل فاحشة بعد أن أبقت لي زيارة الفاحشة الأولى مثل هذا الخجل وهذا الاشمئزاز.
ولكن الحوادث اتخذت مجرى آخر.
كنت لم أزل جالسا أنتظر خروج الفتاة وفي نفسي مراجل من الكره والخوف والغضب. أما هي فبقيت منهمكة في ترتيب شعرها، وتنسيق طيات ثوبها، تبتسم لخيالها في المرآة. ومرت ربع ساعة وأنا أتبع شاردات أفكاري حتى نسيت وجود شخص آخر في غرفتي، وبدت من الفتاة حركة أشعرتني بوجودها، فانتبهت من غفلتي وزجرتها، فذعرت وقامت تطلب الباب وهي ترسل إلي قبلة الوداع من بعيد. وفي هذه اللحظة قرع جرس الباب الخارجي بشدة، فنهضت مسارعا إلى إخفاء الفتاة في غرفة داخلية ما كدت أدفع مزلاجها حتى دخل ديجنه ومعه رفيقان من شباب الجيرة.
إن بعض حوادث الحياة تشبه التيارات المندفعة في عباب البحر، فهي قضاء أو صدفة أو عناية إلهية، سمها ما شئت، ولكنها كائنة، وما ينفيها التعارض في معنى كلماتها. على أن جميع من يذكرون قيصر ونابوليون لا يفوتهم أن يصفوا كلا منهما برجل العناية الإلهية، فكأنهم يرون الأبطال دون سواهم من الناس يستحقون عناية السماء بهم، ولعل الآلهة في اعتقادهم كالثيران في حلبة الصراع لا يستهويها سوى الأوشحة الأرجوانية.
Unknown page