ومضت سبعة أيام ونحن نفتش عن مأوى لنا، ونتجول في المدينة لابتياع ما نحتاجه لتزيينه، وفي اليوم الثامن طرق بابنا شاب لا أعرفه يحمل رسائل لبريجيت، وبعد أن قابلها وانصرف رأيتها حزينة واهية القوى، وما عرفت عن هذه المقابلة سوى أن الرسائل واردة من المدينة التي كنت تبعت بريجيت إليها لأملي عليها غرامي حيث يقطن أقرباؤها.
وأعددنا في زمن وجيز كل ما احتجنا إليه، فأصبحت مأخوذا بفكرة الرحيل، وقد تولاني منها ثمل منع كل راحة عني، فكنت أنهض من فراشي مبكرا وأدخل إلى غرفة بريجيت ماشيا على رءوس أصابعي متحاشيا إيقاظها لأجثو أمام سريرها، حتى إذا أفاقت رأتني شاخصا إليها، وقد بللت أجفاني الدموع، وما كنت أدري أية وسيلة أتخذ لأثبت لها إخلاصي في ندامتي، فتجاوزت حدود الأعمال الجنونية التي لامستها في غرامي الأول، وأصبحت أستوحي غرامي الجامح كل عمل يتجه إلى الشطط والإفراط، فتحول عشقي إلى نوع من العبادة، فكنت كلما دنوت منها أنسى أنني مالكها منذ ستة أشهر، ويخيل إلي أنني أراها لأول مرة، فأكاد لا أجسر على لمس أردانها وهي من حملت من فظاظتي ما لا يحتمل. فإذا تكلمت ارتعشت كأنني أسمع صوتها لأول مرة، ويدفعني الهوس إلى الارتماء على أقدامها منتحبا، أو إلى الاستغراق في الضحك دونما سبب، وكنت إذا ما تذكرت معاملتي الماضية أشعر باشمئزاز، وأود لو أن على وجه الأرض هيكلا للحب أذهب إليه فأعتمد في مائه المقدس، وأرتدي مسوحه فلا أخلعها إلى الأبد.
ومثلت لخيالي اللوحة التي رسم فيها تيتان مشهد الحواري توما يلمس بأصبعه جرح المسيح، فرأيتني أشبه هذا الحواري إذا صح وجه الشبه بين حب الإنسان وإيمانه بربه! إن في ملامح توما وهو يسبر الجرح ما يصعب تحديده من عاطفة تتراوح بين الشك والإيمان، فتلوح لك كلمة التجديف الحائرة كأنها تذوب على شفتي الحواري وقد ارتفعت منهما كلمة الصلاة، فلا تعلم أجاحد هو أم رسول، ولا تدري إذا كان بلغ في ندمه ما بلغه من كفره. ولعل هذا الحواري نفسه لم يدرك، كما لم يدرك الرسام ولم يدرك الناظر إلى الرسم، هذا السر الغامض الذي ترف عليه من المخلص ابتسامة كأنها التماع الندى تحت شعاع الرحمة والحنان.
وما كنت أقف أمام بريجيت إلا مثل وقفة الحواري توما، وقد حكمني الصمت، وتولتني الدهشة، فارتجفت فرقا خشية أن يكون ما تبدل من حالي قد دفع بسريرتها إلى الارتياب بي، ولكن ما مرت علينا خمسة عشر يوما حتى نفذت بصيرة بريجيت إلى ما يدور في خلدي، فأيقنت أنها استنبتت بإخلاصها إخلاصي، وأن صفاء نيتي قد نشأ من مجالدتها وصبرها، فما وسعها إنكار المعلول والعلة لا ريب فيها.
وكانت الحوائج ومجموعات الصور والأقلام والكتب والرزم تملأ الغرفة، وقد نشرت عليها الخريطة التي استولت على كل جوارحنا، وكنت أذهب وأجيء في هذه الغرفة لأقف أمام بريجيت، وأنطرح على أقدامها، فتصفني بالكسل وتقول: إنها لا تجد بدا من القيام لوحدها بالأعمال جميعا ما دمت أنا لا أنفع لشيء.
وبينما كانت ترتب الحقائب وتقفلها كان الحديث لا ينقطع بيننا عما ننويه لسفرنا، فكنا نقول: إن سيليسيا على بعدها معتدلة الجو في فصل الشتاء. إن جنوا جد رائعة بما وراءها من جبال وما فيها من حدائق انبسط الاخضرار على أعراشها، ولكنها مكتظة بالناس، يملؤها الصخب، ويقلقها الضجيج، وإذا مر في أسواقها ثلاثة رجال فلا بد أن يكون فيهم راهب وجندي. إن فلورنسا حزينة ولا تزال معرضا لحياة القرون الوسطى، فكيف نحتمل مشاهدة نوافذها المحترقة وجدرانها القذرة؟
أما روما فما شأننا بها وما نحن من السائحين الذين يتوقون إلى الغرائب، أو يطلبون العلم؟
أفما يجدر بنا أن نذهب إلى ضفاف الرين؟ ولكنا لن نصل إليها إلا بعد انقضاء الموسم، ويصعب على الإنسان أن يقيم في الأماكن المهجورة.
أما إسبانيا فحركتها مستمرة ، وعلى مرتادها أن يعيش فيها كما يكون في ساحة حرب، فيتوقع مصادفة كل شيء ما عدا الراحة.
لنذهب إذن إلى سويسرا مقصد العدد الغفير، وإن لم ترق لبعض الناس، فهنالك يتجلى أروع ما خلق الله من الألوان: هنالك زرقة السماء، وخضرة السهول، وبياض القمم العالية.
Unknown page