118

وقد بدأ الجواب بقوله بأن هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي، وهو خطأ، والصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أفعال العباد، ومنهم من يقول إنها وافية بجميع ذلك، وإنما أنكر ذلك من أنكره لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال العباد.

وذلك أن الله بعث محمدا

صلى الله عليه وسلم

بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قاعدة عامة تتناول أنواعا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد.

وضرب لهذا الخمر مثلا، فإن الله حرمها بنص القرآن والسنة، فظن بعض الناس أن لفظ الخمر لا يتناول إلا عصير العنب خاصة فلم يحرم إلا ذلك ، والبعض حرم أيضا بعض الأنبذة المسكرة، ومن العلماء من حرم كل مسكر مائعا كان أو جامدا، وهذا وذاك بطريق القياس لعلة الإسكار في كل منها كالخمر المتخذة من عصير العنب.

مع أن الصواب الذي عليه الأئمة الكبار هو أن الخمر المذكورة في القرآن والسنة تتناول كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة الجامعة، لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلا آخر يوافق النص، كما جاء أيضا في صحيح مسلم أن الرسول قال: «إن كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام.»

فمن ظن أن النص القرآني لم يتناول إلا خمر العنب، وأن تحريم سائر المسكرات ثبت بالقياس، كان مخطئا في فهم النص. ومما يؤيد شمول النص لكل مسكر أن الخمر لما حرمت لم يكن بالمدينة شيء من خمر العنب، وإنما كان عندهم النخل يتخذون من ثمره خمرا، فلما نزلت آية التحريم أراقوا ما كان عندهم من أشربة، ومعنى هذا أنهم كانوا يعرفون من اللغة أو بيان الرسول أن لفظ الخمر ليس خاصا بعصير العنب وحده.

وبعد أن أتى بأمثلة أخرى، وتكلم عن القياس صحيحه وفاسده، قال: «ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أحكام المكلفين ... ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد، ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح ...

ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة.

فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعنى، وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة لا فرق في ذلك بين شراب وشراب.

Unknown page