ولهذا شرطوا فيها الشروط التي ذكرناها ومنها الانضباط؛
18
لأنها هي التي تعرفنا وجوب إعطاء الفرع حكم الأصل متى وجدت العلة فيه؛ وبذلك تكون تكاليف الله لعباده مستقيمة، وأحكام معاملاتهم متسقة على اختلاف ضروبها، ما دام مناط الأحكام هي عللها على النحو الذي عرفوها به.
ولكن ابن تيمية لا يسير معهم في تعريف العلة على هذا النحو، بل يختلف عنهم على ما نراه في كثير من كلامه وفتاويه، فهي المعنى المشترك بين الأصل والفرع، أو الوصف المعتبر في حكم الله ورسوله، أو الوصف الملائم المناسب الذي استوجب الحكم الشرعي لما فيه من مصلحة، أو الحكمة الحقيقية التي كانت سبب تشريع هذا الحكم.
وهذه العبارات متقاربة المعنى، وكلها تدور حول المصلحة أو الحكمة التشريعية، هذه الحكمة التي لا تخلو من أن تكون جلب منفعة أو دفع مضرة؛ وبذلك يتحقق قصد الشارع من تشريعاته، فإن كل أحكام الشريعة الإسلامية تحقق جلب المنافع ودفع المضار.
والذي يتبادر إلى العقل أن يكون الأمر كما قال ابن تيمية، فتكون العلة التي يبنى الحكم عليها وجودا وعدما هي حكمته؛ لأنها الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه، ولأن لكل حكم شرعي حكمته التي أرادها الله من العمل به.
ولكن هذه الحكمة إن ظهرت لنا وعرفناها في كثير من الأحكام، فقد تكون خافية لا نستطيع التحقق منها وجودا وعدما في كل حال؛ ومن ثم، شرط الأصوليون الآخرون في العلة ألا تكون وصفا ظاهرا مناسبا فقط، بل أن يكون أيضا منضبطا محددا يمكن التحقق من وجوده أو عدمه، ويتضح ذلك بهذا المثال: أباح الله للمسافر والمريض في رمضان الفطر، والعلة هي السفر في الأولى والمرض في الثاني، والحكمة هي دفع المشقة عن كل منهما، والسفر والمرض أمران منضبطان، على حين المشقة أمر تقديري غير منضبط فلا يمكن التحقق منه؛ ولهذا جعلت العلة هنا مجرد السفر أو المرض وإن لم توجد مشقة في هاتين الحالتين.
ولكن هؤلاء وجدوا عقبة في طريقهم الذي سلكوه؛ وذلك أنهم رأوا العلة التي جعلوها الوصف الظاهر الملائم المنضبط (أي لا الوصف الملائم وإن لم يكن منضبطا تماما، أو الحكمة التي هي سبب التشريع)، موجودة في أشياء كانت توجب تحريمها، ومع هذا فقد ثبت جوازها بالسنة، فلجئوا إلى القول بجوازها استحسانا لا قياسا.
وذلك مثل السلم الذي أجازه الرسول
صلى الله عليه وسلم
Unknown page